هل كان الجاهليّون أصحاب حرب؟

هل كان الجاهليّون أصحاب حرب؟

في الأمثال العربيّة: «قد وَقَع بينهم حربُ داحِسٍ والغَبْراء»؛ وقد أوضح الميدانيّ أنّ هذا المثل يُضرب في «القوم وقعوا في الشرّ (...) مُدةً» طويلة. وفي أيّامنا أيضاً يُضرب هذا المثل في الحالة نفسها، لكنّه يشمل الخصومات الصغيرة والمتوسطة، كالنزاعات بين وسائل الإعلام، أو بين الأحزاب، أو بين النوادي الرياضيّة، أو بين الأدباء والشعراء، أو بين الفنّانين ومنهم المغنّون، أو بين الفصائل الثوريّة، أو بين التيّارات والأحزاب السياسيّة في هذا البلد أو ذاك، وما أشبه ذلك؛ كما يشمل الحروب الكبيرة التي تندلع بين دولتين أو بين طائفتين كبيرتين.

في أمثالهم الجاهليّة أيضاً: «الحَرْبُ سِجالٌ»؛ يعنون أنّ المعارك يتلو بعضها بعضاً، ويتناوب المتقاتلون الغلبة فيها: يوماً لهؤلاء ويوماً لأولئك. 
وقد أوحى كلُّ ذلك لنفر من الدارسين في أيامنا، فضلاً عن عامّة الناس، أنّ عرب الجاهليّة كانوا في حروب متواصلة، لا يخرجون من حرب حتّى يدخلوا في أخرى، وأنّ حرب داحِس والغَبْراء وحرب البَسوس كانتا مَقْتلتين رهيبتين، لو حدث مثلهما في أيامنا لعُدّ من الجرائم غير الإنسانيّة.

انتفاء الحروب الجاهلية وأسبابه
الحقيقة غير ذلك كليّة، فلم يقع بين العرب الجاهليين حروب بالمعنى الاصطلاحيّ الحديث للكلمة، بل كانت الحروب الحقيقيّة، وهي قليلة، تقع في تخوم شبه الجزيرة العربيّة، أي في المناطق الخاضعة لـ «فارس» في العراق، وفي المناطق الخاضعة لبيزنطة (دولة الروم) في الشام. وبقول آخر: كانت الحروب، ولاتزال، نتاج الدول ومصالحها التوسعيّة أو الاستعماريّة أو الدفاعيّة. ولم يكن للعرب من دولة مستقلّة في الجاهليّة إلاّ ما تحدثوا به عن دولة اليمن، وهي أيضاً في أطراف شبه الجزيرة.  ولذلك أربعة أسباب: أوّلها اتّساع شبه الجزيرة العربيّة وقلّة سكانها في الجاهليّة؛ وثانيها بدائيّة السلاح الجاهليّ وقلّة الخيل؛ وثالثها الافتقار إلى الجيوش المنظّمة التي لا تنشأ عادة إلاّ في الدول؛ ورابعها شدّة الحرّ التي تغلب على مناخ شبه الجزيرة. 
1 - معروف أنّ شبه الجزيرة العربيّة أرض واسعة جدّاً تفاوتت الآراء في مساحتها، لعدم اعتماد العرب على مقاييس مَسْحية (طوبوغرافية) علميّة منذ الجاهليّة حتّى النصف الأول من القرن العشرين؛ ولأنّ حدود شبه الجزيرة الشماليّة وهميّة لا اتفاق على تعيينها. والرأي الغالب أنّ شبه الجزيرة يشمل الأراضي الحاليّة لليمن والمملكة العربيّة السعوديّة وسائر دول الخليج العربيّ، وتبلغ مساحة هذه الدول جميعاً، وبالمسح الحديث: 2.984.631 كلم2 (مليونين وتسع مئة وأربعة وثمانين كيلومتراً مربعاً)، يضاف إليها أجزاء من جنوب الشام والعراق غير معروفة المساحة؛ فمساحة شبه الجزيرة تزيد على ثلاثة ملايين كيلومتر مربع؛ وهذا يوافق تقدير المستشرق الفرنسيّ غوستاف لوبون سنة 1884م في كتابه: «حضارة العرب» المترجَم إلى العربيّة.
في شبه القارّة الواسعة هذه لم يكن يقيم إلاّ نحو مئة وخمسين ألفاً في عهد النبوّة والخلافة الراشديّة، كما يؤكّد ابن خلدون في مقدّمته، ولابدّ من أن يكون العدد أقلّ من ذلك في الجاهليّة. أي أنّ كثافة السكان في شبه الجزيرة كانت تبلغ أقل من شخص في كل عشرين كيلومتراً مربعاً، أي خمسة أشخاص في كل مئة كيلومتر مربع (تبلغ الكثافة السكانية الحالية في المملكة العربية السعودية، مثلاً، نحو 15 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد)؛ وتلك الكثافة الضئيلة ناجمة عن كثرة الصحارى واستحالة الإقامة في بعضها، كحال الرُّبع الخالي (أي رُبع شبه الجزيرة العربية الخالي من السكان). 
فقد كان الجاهليّون قليلي العدد، إذن، يعيشون في قبائل متفرقة ومتباعدة، أكثرها بدويّ لا يستقرّ في مكان، بل يظلّ يسعى في طلب الماء والكلأ، حتى إذا اتّفق أن تزاحمت قبيلتان على موضع معشب وذي ماء فربما وقع بينهما قتال، لكن ذلك كان قليلاً، لأن مواضع المياه متباعدة جداً، ومن الصعب أن يتفق التقاء قبيلتين مترحّلتين في أحدها في وقت واحد، ولذلك كانوا ينسبون كثيراً من تلك المواضع إلى قبائل بعينها، تقيم حولها فلا يقربها أحد إلاّ بإذنها، فيقولون مثلاً: ذو قار: ماء لبكر بن وائل؛ دارة مَأْسَل: نخيل وماء لبني عُقَيل؛ أَبْرَق الحَنّان: ماء لبني فَزارة؛ أبرق النَعّار: ماء لطيّء وغَسّان؛ أُبْضة: ماء لطيّء ثم لبني مِلْقط؛ جَتْب: ماء لبني عَدَويّة، إلخ.؛ فاحتمال الاحتكاك وتضارب المصالح الحيويّة بين البدو الجاهليّين يبدو استثنائياً، ومرهوناً بالمصادفة.
2 - ولم يكن العرب الجاهليّون يعرفون الأسلحة المتطوّرة، بل كانوا يعتمدون على الأسلحة البيضاء الفرديّة من سيف ورمح وقوس ونُشّاب؛ وأمّا الخيل فكانت قليلة عندهم لا يملكها إلاّ الأغنياء والمقاتلون الذين يستولون على خيل عدوهم المنهزم. 
وليس من شأن هذه الأسلحة أن توقع عدداً كبيراً من القتلى في متقاتلين قليلي العدد. بل إنّ بعض الرواة لَيسخر من الشاعر الجاهليّ قَيْس بن الخَطِيم حين يقول:
أُجالِدُهمْ يومَ الحُدَيْقةِ حاسِراً
كأنَّ يَدي بالسَّيفِ مِخْراقُ لاعِبِ
فيقول في المعارك بين الأَوْس، قبيلة هذا الشاعر، وبين الخَزْرَج أعدائهم: «لم تكن بينهم في هذه الأيام حروب، إلاّ في يوم بُعاث فإنّه كان عظيماً؛ وإنّما كانوا يخرجون، فيترامون بالحجارة ويتضاربون بالخشب»؛ ويقول راوية آخر في يوم الحُديقة المشار إليه: «ما اقتتلوا يومئذ إلاّ بالرطائب والسَعَف»؛ أي بالأغصان وجريد النخل.
3 - ولم تكن القبائل الجاهليّة دولاً لتنشئ جيوشاً يشرف عليها وزراء حرب أو ما أشبه ذلك، بل كان القتال فيما بينها يعتمد على القوة الفردية والمهارة والشجاعة وبعض الحيل العفوية التي تُكتسب بالمراس.
ويذكر الجاحِظ أنّ الشعوبيّة عيّرت العرب بأنّهم لم يكونوا يعرفون المـَيْمَنة (الفرقة التي تحمي الجهة اليمنى من الجيش) ولا المـَيْسرة ولا القلب ولا الجَناح؛ وهذا صحيح، لأنّه لم يُعرف مثل هذا التنظيم القتاليّ إلا في حرب ذي قار في العراق التي شارك فيها الجيش الفارسيّ، وعُرف قريب منه في حروب الفِجار، إذ تكلمت الروايات على قلب ومُجنِّبَتيْن، أي ميسرة وميمنة؛ بيد أنّنا وجدنا خططاً بسيطة كتلك التي لجأ إليها حلف بني عامِر وبني عَبْس في وجه خصومهم حلف بني تَميم وبني ذُبيان ومَن ناصرهم، وذلك في يوم شِعب جَبَلة، إذ انتظر العامريّون والعبسيّون أعداءهم على هضبة من هضاب نَجْد (أي المرتفعات التي تقع شرقيّ الحجاز، وفيها اليوم مدينة الرِياض) - واسم تلك الهضبة جَبَلة - فلما صعد هؤلاء إليهم كان التعب قد أخذ منهم، فأُرسلت عليهم إبل عطشى، ففرقتهم ودحرتهم، وسمحت لحلف عامر وعبس بملاحقتهم وإعمال السيف فيهم.
4 - أمّا مناخ شبه الجزيرة الذي تغلب عليه شدّة الحرّ فلا يسمح بالقتال الطويل الذي تمارسه الجيوش؛ ولذلك كانت الغارات تُشنّ في الصباح، غالباً، وقت هدوء الحرّ نسبيّاً، وكان يراد بذلك مباغتة العدو. 
لكنّ الغارة لم تكن تستمر، في أكثر الأحيان، إلا زمناً قصيراً، ريثما يحقّق الغزاة أهدافهم من سلب وسطو وأسر وربّما طرْد عشيرة من العشائر عن مائها ومرعاها. فإذا أقبل الحر، أو حلّ المساء، تنجلي المعركة إمّا عن انسحاب الغزاة بما غنموا، أو فرارهم أمام الجماعة المغار عليها لقوّة هذه وقدرتها على الدفاع عن نفسها، أو فرار الجماعة المغزوّة وترك ديارها للقبيلة الغازية. ومن هنا قولهم: «واصباحاه»، وقول العامّة اليوم «يا صباح الشوم». وقد سميت معارك العرب أيّاماً لأنها كانت تنتهي في يوم، بل في ساعات من يوم.

نظرة في أشهَر المعارك الجاهلية
هذه العوامل مجتمعة لم تكن تسمح، في العصر الجاهليّ، بنشوب حروب بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، أي بما سمّاه ابن خلدون حروب الزحف، بل قصاراها مناوشات أو معارك قصيرة محدودة الدمويّة.
هنا سيقال: لكن ما شأن داحِس والغَبْراء والبَسوس، وهما أكبر حربين وأشهرهما، وكذلك حرب الفِجار وحرب سُمَيْر، ولماذا أسْموها حروباً؟ ولماذا وُصف يوم بُعاث بالعظيم؟ الواقع أنّهم اصطلحوا على تسمية المعارك التي تتعدّد أيامها حروباً، ليس لضراوتها وكثرة الضحايا فيها، بل لطول زمانها ولو تباعدت أيّامها جداً ولم يقع فيها إلاّ القليل القليل من القتلى والجرحى. ولننظر في هذه الحروب، وهي معدودة، على تحفُّظنا من أرقام القدماء، لأنّهم لم يكونوا يعرفون حساب الفلك، بل يقدرون السنين تقديراً، وربّما كانت السنة عندهم اثني عشر شهراً وربما كانت أقلّ أو أكثر من ذلك، لارتباطها بالمطر والكلأ، أكثر من ارتباطها بظهور الأهلّة، ولأنّ العرب يستعملون بعض الأعداد للدلالة على الكثرة أو طول المدّة بصورة مطلقة، وليس بوصفها أرقاماً دقيقة:
1 - حقّاً أنّ حرب داحِس والغَبْراء دامت أربعين عاماً، لكنها اقتصرت على أربعة أيّام قُتل فيها تسعة رجال، فضلاً عن تسعة أطفال كانوا رهائن عند أحدهم في انتظار أن يصطلح الفريقان المتنازعان.
فإذا افترضنا أنّ تلك الأرقام صحيحة، أو قريبة من الصحّة، كان لنا أن نستنتج أن نسبة المعارك في تلك الحرب إلى المدّة المزعومة هي معركةٌ كلّ عشر سنين؛ ومجموع القتلى ثمانية عشر، لو قسمناهم على مدّة القتال لخرج لدينا نسبة قتيل واحد كل سنتين أو ثلاث. 
2 - وكذلك حرب البَسوس، فقد دامت أربعين عاماً أيضاً، لكن لم يقع فيها إلاّ خمس معارك، أي خمسة أيّام، فهي بمقدار يوم كلّ ثماني سنوات؛ وقد سقط فيها اثنا عشر قتيلاً، فضلاً عن كُليب وائل على الأرجح، أي بمقدار قتيل كلّ ثلاث سنوات أو أربع. وأمّا الروايات التي تتحدث عن آلاف القتلى في هذه الحرب فضرب من الخرافات تكاد تنفيه رواية «كتاب الأغاني» التي توحي السخرية من هذه الأرقام. وقد وصف «الأغاني» المعارك في تلك الحرب فقال: «وكانت تكون بينهم مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل، والرجلان الرجلين، ونحو هذا»، كما نَقل عن بعض الرواة أنه: «لم يكن بينهم من قتلى تعدّ ولا تذكر، إلاّ ثمانية نفر من تغلب وأربعة من بَكْر».
3 - وتكاد تكون حرب الفِجار هي الحرب الجاهلية الوحيدة التي شُنّت على أهل مكّة، وأطلق عليها هذا الاسم لكون مكة مدينة الحج، فالاعتداء عليها، ولاسيما في الأشهر الحرم، ضرب من الفجور؛ وتلك الحرب حَربان، في الحقيقة، وقعت فيهما ثماني معارك (أيّام)، وامتدتا أربع سنوات، أي بمقدار معركتين في السنة؛ ويذكرون سقوط قتلى كُثر فيهما من الفريقين: قريش وكنانة من جهة، وقبائل قيس عَيْلان من جهة أخرى، لكنّهم لا يحصون جميع القتلى.
وتضطرب الروايات في الأخبار والإحصاءات المتصلة بهما أيّما اضطراب، الأمر الذي يضعف الثقة بها؛ فهي تتفق على أن الفَرْق بين عدد القتلى من الجانبين عشرون، لكنها تختلف في نسبة هؤلاء العشرين، فمنها ما يزعم أنهم من الفريق الأول، ومنها ما يزعم أنهم من الفريق الثاني! ويزعم ابن الأثير في «الكامل» أن القيسيين قتلوا مئة من كنانة في يوم عكاظ، وهو اليوم الرابع من حرب الفجار الثانية، ومع ذلك انهزموا! وهذا العدد الذي يكاد ابن الأثير ينفرد به لا يتناسب أبداً وأعداد القتلى المذكورة في سائر المعارك، كمثل ذلك العدد الذي أورده «كتاب الأغاني» في شأن يوم الحُرَيْرة، وهو اليوم الخامس من تلك الحرب، إذ أحصي خمسة عشر قتيلاً من قريش. 
وهذا كله يسوّغ الشك في حجم هذه الحرب، ويوحي المبالغة في رواياتها، وفي كونها كانت حرباً حقيقية، ويُشعر أن الخيال استفاض في وصفها لكونها اعتداء على الحرم المكي، ولكون النبيّ [ قد شارك فيها هو وعشيرته، وهو بَعدُ شاب، كما تشير بعض الروايات.
4 - وأمّا حرب سُمير، فقد وقعت بين الأَوْس والخَزْرَج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب (مدينة الرسول لاحقاً)، واستمرّت عشرين عاماً، ولا يذكرون فيها إلاّ قتيلاً واحداً هو سبب اشتعالها، ولا يحصون معاركها، بل يزعمون أنّ الفريقين كانا يعاودان القتال، وأنّ أيّامهم لم تُحفظ، وهذا يوحي ضآلة الأهميّة التي ترتديها تلك الحرب، إذا صحّ أنها حرب حقاً. 
5 - وأمّا يوم بُعاث الذي نعتوه بالعظيم، فهو يوم واحد، وإن استمر الاستعداد له أربعين يوماً، وسقط فيه قتيلان من الأَوْس وقتيل من الخَزْرَج، فضلاً عن أربعين غلاماً يهوديّاً كانوا رهائن عند الخزرج فقتلوهم، وأدّى قتلهم إلى التهيّؤ للمعركة. وبُعاث لم يسمَّ، على كلّ حال، حرباً، وإنْ وُصف الاستعداد له بالاستعداد للحرب.
وندع جانباً أيام ذي قار وشِعْب جَبَلة والكُلاب الثاني، فقد وقع اليوم الأول بعد الهجرة، وكان بين الفرس وحلفائهم من العرب، من جهة، وحلف بَكْر، من جهة أخرى، ولذلك شارك فيه آلاف المقاتلين، وتحدّثوا عن جيش وكتائب، فهو حرب منظمة تشارك فيها دولة أجنبية - وقد أومأنا إلى ذلك منذ قليل - ومع هذا سمّوه يوماً وسمّوه وقعة، ولم يسمّوه حرباً لأنّه جرى في يوم واحد.
وقد بالغ الرواة في خبر نهايته، إذ زعموا أن حلف بَكْر قتل الفرس عن بكرة أبيهم، وكانوا ألفين. وأمّا اليوم الثاني، أي يوم شِعْب جَبَلة السالف الذكر، فروايته أسطوريّة تجعل عدد المقاتلين في الجانبين فوق الستين ألفاً (أكثر من ثلث سكان شبه الجزيرة كلها)، على حين أنها تجعل القتلى نحو واحد وعشرين رجلاً وثلاثين طفلاً.
وأمّا اليوم الثالث، أي يوم الكُلاب الثاني، فروايته ضرب من المستحيل، لأنّها تتحدّث عن قتل كسرى لمقاتلي بني تَميم في يوم الصَّفْقة، ومنهم بنو سَعْد، ثم فوز بني سعد هؤلاء وحلفائهم من قبائل الرّباب على اثني عشر ألف مقاتل من مَذْحِج وحلفائها من قُضاعة، وجمعٍ ضخم من أهل اليمن، في يوم الكُلاب الثاني هذا، بعد أشهر قليلة من يوم الصَّفْقة؛ ومع أن المعركة دامت يومين فقد سمّيت يوماً. هذه أشهر معارك العرب في الجاهليّة وأكبرها، وواضح أنّها، باستثناء أيام الفجار إلى حد ما، وربما يوم شعب جبلة، ليست حروباً، والدمويّة فيها ضئيلة، وهي غالباً أيّام متباعدة، وحسبك أنّهم ذكروا سقوط ما يناهز المائتي قتيل فيها جميعاً، عدا ألفي قتيل من الفرس لا يجوز إدخالهم في الإحصاء، لأنّهم جعلوا سمة الحرب أجنبيّة لا عربيّة، ولأننا نشكّ في صحّة ذلك الرقم.

الحروب العربية بدأت بعد الإسلام
والحقّ أن الحروب الطاحنة بدأت عند العرب إبان الفتوح الإسلامية، وبعد الهجرة خاصّة، وكان لها هدف عقديّ، هو نشر الدعوة الإسلاميّة أو الدفاع عن دولة الإسلام، أي ارتبطت بنشوء الدولة، وبالعقيدة الدينيّة. 
والمعتنون بالتاريخ يعرفون مقدار ضراوة الحرب بين الخوارج والإمام عليّ بن أبي طالب ] وعنف الحملات العسكرية على بيزنطة وفارس، وشدة المعارك التي شنت على الثائرين والمتمرّدين. وصحيح أنّ الجاهليّين ارتكبوا مجزرتين في حقّ عدد من الأطفال، لكنّ ذلك لا يقارن بما ارتكب في القرون الوسطى، ولاسيّما في الحروب الصليبيّة، وفي حروب القرنين العشرين والحادي والعشرين.
وقد نسب ابن الجوزيّ كتاباً إلى أبي الفرج الأصفهانيّ عنوانه «أيّام العرب»، ذُكر فيه ألف وسبع مئة يوم بين جاهليّ وإسلامي؛ فإذا افترضنا أنّ أيام الجاهليّة تساوي ثلاثة أضعاف أيّام الإسلام - وهو افتراض مغلوط على الأرجح - تبيّن لنا أن العرب تحفظ نحو ألف وثلاث مئة يوم جاهليّ، أي ما يقارب مجموعه ثلاث سنوات متقطّعة ونصف السنة، ولم يسقط في كلّ هذه الأيّام إلاّ عشرات القتلى وربّما مئاتهم؛ على أنّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة وحدها، مثلاً، قد دامت خمس عشر سنة متتابعة، وسقط فيها أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل، وفق بعض الدراسات، فضلاً عن عدد كبير من الجرحى والمشرّدين والمهاجرين والمفقودين، فكيف لو تحدّثنا عن الحربين العالميّتين، وحرب العراق، والحروب الصهيونيّة على البلاد العربيّة، وحرب سوريّة الداخلية، وما أشبه ذلك من حروب في القرنين العشرين والحادي والعشرين؟ 
قد يقال هنا إن السلاح قد تطور كثيراً ما بين الجاهلية والعصور الحديثة، بحيث لا يجوز المقارنة بين المعارك الجاهلية وحروب القرن العشرين أو الحادي والعشرين، لأن قنبلة واحدة أفعل من عشرات السيوف والرماح، فكيف إذا كانت قنبلة نووية، مثلاً؟ وهذا اعتراض هام، لكنه لا ينفي بُعد الجاهليين من الحروب لغياب الدولة عندهم؛ وحسبنا أن نتذكّر حرب الردة، مثلاً، في بداية الخلافة الراشدية، سنة إحدى عشرة هجرية، أي بعد الجاهلية بقليل جداً - لا ننس أن السنوات الأولى من الإسلام، ولاسيما قبل الهجرة وبُعيدها، متداخلة مع أواخر الجاهلية – ففي تلك الحرب سقط من بني حنيفة وحدهم أكثر من عشرين ألف قتيل، ومن المسلمين أكثر من ألف، وكان السلاح المستعمل في تلك الحرب هو نفسه الذي استعمله الجاهليون، لكن صار للعرب المسلمين دولة وجيوش كبيرة منظمة، وصار للحرب غاية عقدية، على ما قدمنا، وهذا ما لم يكن متوافراً في المعارك الجاهلية قط، ولذلك كان عدد القتلى في الحروب الإسلامية من الضخامة بحيث يصعب قياسه إلى عددهم في المعارك الجاهلية.
وقد يقال أيضاً إن الأعداد البشريّة في البلاد العربية قد زادت بشكل واضح عما كانت عليه في الجاهليّة. والجواب عن ذلك هو نفس ما سبق، فالذين قاتلوا في حروب الردة هم نفس الذين كانوا يقاتلون قُبيل ذلك في الجاهلية، ولا يمكن أن يكون قد زاد عددهم زيادة كبيرة لقصر المدة ما بين نهاية الجاهلية وبداية الإسلام! أما بعد ذلك فمن نافل القول إن العنف الجاهليّ لا يمكن أن يقاس إلى العنف في العصور الوسطى والحديثة، ولاسيما في الحروب الصليبية وفي الحربين العالميتين الكبريين. الرواية الشفهية غير شاملة ولا دقيقة على أننا لا نغفل حقيقة هامّة هي أن التاريخ الجاهليّ مجرد روايات شفهيّة، قد لا تشمل جميع الأحداث في ذلك العصر أو تحصى الضحايا بدقّة، بل ربما أغفلت ذكر كثير من القتلى المنتمين إلى العبيد أو إلى عامّة الشعب، أو حتّى إلى النساء، وربما عجزت فوق ذلك عن معرفة الأحداث الموغلة في القدم.
لكن لا ينبغي، في المقابل، أن نتجاهل النزعة الإخباريّة القصصيّة عند الرواة، التي تميل بهم إلى المبالغة واختراع الغرائب، حتّى لقد بلغ الأمر ببعضهم أن وصفوا معارك يفترض وقوعها قبل التاريخ كمعارك العماليق وطَسْم وجَدِيس (وقد تحدّث ابن خلدون عن شبه ذلك في مقدّمته وعدّه من الخرافات والأكاذيب)؛ كما لا يحسن بنا صرف النظر عن النزعة القبلية التي تبعث على التزّيد في أمجاد بعض القبائل، وعلى تحقير تاريخ القبائل العدوّة؛ ولا أن نغفل العوامل التي عرضنا لها ابتداء، والتي لا تسمح بنشوب حروب عربيّة حقيقية في العصر الجاهليّ. 

الخلاصة
فشبه المؤكد، إذن، أنّ الجاهليّين لم يكونوا أصحاب حرب، بل كانوا أدنى إلى السلم من أهل العصور الحديثة، فضلاً عن العصور الوسطى وتلك التي تلت العهد النبويّ.
ولذلك لا ينبغي أن نجعلهم رمزاً للعنف والقتال، ولا أن نتخيّل أنّ فظائعهم تفوق الخيال، فهي ليست شيئاً إذا ما قورنت بفظائع العصور الأخرى، مهما كانت الثقة بالتاريخ الجاهليّ ضئيلة .