فاروق شوشة... والحوار الأخير
زاملت الشاعر الكبير الراحل فاروق شوشة في عضوية عدد من اللجان الاستشارية في مكتبة الإسكندرية وفي المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، الذي كان عضواً بلجنة الشعر فيه لشخصه، كما كان عضواً في لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بحكم منصبه كأمين عام لمجمع الخالدين، ومعاً سافرنا شرقاً وغرباً في مهام ثقافية، ودائماً كان فاروق شوشة صاحب القول الفصل في أي مناقشة؛ لما تمتع به من ثقافة عصرية وتراثية عميقة، وما تميز به من لباقة ومنطقية في الطرح.
وقد حرصتُ في أيامه الأخيرة على أن أتوجه إلى زيارته في مكتبه بمجمع اللغة العربية في حي الزمالك، لأسجل بعض المحطات المهمة في حياته المهنية والفكرية والإبداعية، فضلاً عن حياته الشخصية، واهتمامه بكتابة شعر الأطفال، بعد أن أصبح أباً ثم جداً، وتوزعه بين العمل الإذاعي والتلفزيوني، وخدمة لغة الضاد من خلال العمل المجمعي، من ناحية، وكتابة القصيدة من جهة أخرى.
كان أول موضوع نتطرق للحديث فيه هو جهود المجمع مع الطفل العربي، فقال فاروق:
- نعكف حالياً على إعداد معــــجم للطـــــفـــل يضم المفردات الأساسية التـــــي يجـــــب أن يتعلمها في بداية لقائه مع لغـــــته العربـــــية، ونحـــن نحرص على أن تكـــــون هذه المـــــفردات منطـــــوقة حتــــى يدرك الطفـــــل، منذ نشأتـه الأولى، كيف ينطقها، ونسعى إلى أن تكون مصحوبة بالرسم أو التصوير حتى يعرف شكلها.
قلت له: فاروق شوشة مهتم بالطفل منذ سنين، ومازلت أذكر أول قصيدة كتبها لابنته الكبرى يارا.
- نعم... أعددت سبعة كتب للأطفال، آخرها كتاب «حمزة» لأصغر الأحفاد، وهو ابن ابنتي الصغرى، والأحفاد أربعة؛ اثنتان من يارا ابنتي الكبرى، وهما: حبيبة وملك، ولكل منهما مجموعة شعرية، واثنان من رنا، هما: عزالدين وحمزة، وصنعت لهما مجموعتين أخريين؛ الأولى باسم «الأمير الباسم»، والثانية باسم «حمزة»، نشرتهما الدار المصرية اللبنانية، وكتبت في العام الماضي قصصاً شعرية للأطفال؛ واحدة اسمها «الطائر الصغير»، والأخرى تسعى إلى تعميق انتماء الطفل لوطنه وأرضه التي أنجبته.
وهنا طرحت عليه هذا السؤال: يتهم كبار المبدعين العرب بأنهم لا يرسون على شاطئ الكتابة للطفل إلا بعد أن يصبحوا آباء.
فيجيب: أنا، عن نفسي، أعترف بأنه لولا قدوم أول حفيدة لي ما كتبت للطفل.
فقد كنت أتابع «حبيبة» منذ ولدت، وأرقبها بعد أن صار عمرها شهوراً، وأرى كيف كانت تحرك رجليها عندما تسمع نغماً، تعبيراً عن تأثرها به، ثم عندما حملتها لتنظر من النافذة صوب القمر، فإذا بها تصاب بالرعب وهي تتخيل هذا المصباح المنير هالة من النار!
وربما يفسر لك ذلك سر تسميتي ديوانها بهذا الاسم «حبيبة والقمر»؛ في هذا الديوان أرصد بالشعر تطور إدراكها، فأكتب «حبيبة والماء» عندما يلامس الماء جسدها وهي تستحم لأول مرة.
أستاذ فاروق: ألا توافقني على أن ما بذلته من جهد في خدمة اللغة العربية، من خلال عملك المجمعي والإذاعي والتلفزيوني وفي مجال التدريس الجامعي وما قبله، أثر على مشروعك الشعري؟
- صدقني، كل هذه الأدوار التي لعبتها صبت في مصلحة الشعر؛ فالبرنامج الإذاعي «لغتنا الجميلة»، مثلاً، جعلني أقرأ الشعر العربي من الجاهلية إلى اليوم، عشر مرات، لأقدمه بهذا المستوى الذي أرضى المستمعين، وفي هذا المقام أود الإشارة إلى أن هذا البرنامج يكمل في سبتمبر من عام 2017 نصف قرن من عمره، فقد بدأ بثه بعد نكسة يونيو بثلاثة أشهر، عندئذٍ، قال لي الأستاذ محمد محمود شعبان (بابا شارو)، رئيس الإذاعة المصرية آنذاك: «لقد هُزِمنا لأننا ابتعدنا عن قيمنا وأصولنا، وعلينا أن نعود إليها، ولتكن البداية من خلال اللغة والحكمة والقصيدة والمثل العربي»، فكان هذا البرنامج الذي استمر بثه يومياً على امتداد 50 عاماً.
وهذا بكل تأكيد كان في خدمة الشعر، لأنني طوال الوقت أعيش في جو مفعم بالشعر. وكي يبدع الشاعر فإنه يحتاج بالضرورة إلى هذا الجو، فالشعر لا يأتي من فراغ؛ وأنا عندما أقرأ ديواناً لإبراهيم ناجي أو لمحمود حسن إسماعيل أو لمحمود درويش أدخل في حالة شعرية، تماماً كمن يستمع إلى قصيدة سيمفونية أو «سوناتا» أو لأغنية فتدخله في حالة موسيقية.
من هذا كله أود أن أخلص إلى أن تقديمي لـ «الأمسية الثقافية» على شاشة التلفزيون، أو لبرنامج «لغتنا الجميلة» عبر أثير الإذاعة، إضافة إلى عملي أميناً عاماً لمجمع اللغة العربية، أو أميناً عاماً لجائزة محمد بن راشد لخدمة اللغة العربية في دبي، ومقالاتي في مجلة العربي العريقة، هذا كله كان في مصلحة مسيرتي الشعرية وليس ضدها.
وعلى فكرة، عندما كنت رئيساً للإذاعة المصرية أصدرت ثمانية دواوين، وهو عدد يفوق كل ما أصدرت من دواوين شعرية في أي مرحلة أخرى من عمري.
وأجدها فرصة لسؤاله عن «لجنة الاستماع»، و«لجنة النصوص» بالإذاعة المصرية اللتين كان عضواً فيهما لسنوات، فيجيب قائلاً:
التحقت بلجنة «نصوص الأغاني» عندما كان عضواها أحمد رامي، ومحمود حسن إسماعيل. في ذلك الوقت كان رامي قد تجاوز الثمانين، ومحمود حسن إسماعيل كان على مشارف الستين، وكنت أنا في الثلاثين، وكان الهدف أن تمثل اللجنة أذواقاً شتى من خلال هذه التركيبة: رامي يمثل العامية المصرية في أوجّها، ومحمود حسن إسماعيل يمثل الشعرية العربية البليغة، وأنا في تقديرهم أمثّل جيل الشباب. وكنا نختلف ونتفق في تلك النصوص المقدمة إلينا خالية من أسماء مؤلفيها.
و«لجنة نصوص الأغاني» كان لها دور عندما كانت الإذاعة قادرة على إنتاج الأغاني، وكان أعضاء اللجنة لا يكتفون بما يصلهم من نصوص لهواة عبر البريد، فكانوا يبادرون بإعداد ما كان يسمى بـ «مختارات الإذاعة»، أو يكلفون كبار الشعراء بالكتابة في المناسبات الوطنية والدينية، عندئذٍ كان للإذاعة دور في الحفاظ على الذوق العام، أما الآن فقد توقفت تماماً عن إنتاج الأغنية أو الأوبريت، أو الصورة الغنائية التي برعت فيها، ولحق بها التلفزيون بجميع قنواته!.
واليوم أصبح كل من الإذاعة والتلفزيون يعتمد على بث ما تنتجه شركات الإنتاج الفني الخاصة القادرة على دفع الأجور التي لم تعد الإذاعة قــــادرة على دفعهــا للمؤلفين أو للمطربين أو للفرق الموسيقية!
وفُرِضَ على الإذاعة أن تختار من إنتاج هذه الشركات الأقل سوءاً لتبثه للمستمعين!
وهكذا تقلص دور الإذاعة كمنتج للأغنية.
وقد أصبحت رئيساً لهذه اللجنة بعد رحيل رامي ومحمود إسماعيل، وكانت اللجنة تضم، فضلاً عن رئيس الإذاعة، هؤلاء الشعراء: طاهر أبوفاشا، صالح جودت، محمد التهامي، أحمد عبدالمجيد، ومحمد إبراهيم أبوســــنة، وغــيرهم.
ومع الأسف، لم يعد أمام هذه اللجنة ما تنظر فيه سوى إجازة مقطع سيغنى داخل عمل إذاعي درامي، فتحكم عليه من ناحية الصور والتعابير.
أما اللجنة الأخرى، فهي «لجنة الاستماع» ومهمتها الحكم على العمل بعد تسجيله لتقر بصلاحيته للإذاعة من الناحيتين: الفنية والهندسية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أول لجنة استماع في الإذاعة كانت تضم كوكب الشرق أم كلثوم، وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، ومحمد حسن الشجاعي، وهذه اللجنة هي التي أجازت صوت عبدالحليم حافظ، وشادية للغناء أمام ميكروفون الإذاعة.
لكن سرعان ما ترك هؤلاء العمالقة الثلاثة اللجنة، فآلت إلى موظفي الإذاعة أنفسهم.
قلت له: أود أن أقترب من جذورك، حدثني عن القرية والكُتًّاب.
- ولدت في مركز «الشعراء» بمحافظة دمياط في دلتا مصر، وكنت الابن الأول لوالدي، وتفصل سنوات ست بيني وبين شقيقي فخري الذي سبقني في الرحيل، وقد ترددت على ثلاثة كتاتيب في القرية، وكنت أصغر زملائي سناً، ولم يضربني أحد مشايخ الكتاب، وذلك لأكثر من سبب، لعل أهمها أنني كنت ابناً لزميل هؤلاء المشايخ، فقد كان أبي معلماً.
ويرجع الفضل للكتّاب في أن أصبح مذيعاً، فقد علمني النطق الصحيح المنضبط لكل صوت، ومفردة عربية، وكان أول معهد صوتي تعلمت فيه.
- هل تذكر لنا من تعلمت عليهم في تلك الكتاتيب؟
- الشيخ عماشة، والشيخ رجب، والشيخ القاضي.
- مَن كان أفضلهم؟
- الشيخ عماشة.
- وأقساهم؟
- أنا كنت معفياً من «الفلقة».
- لشطارتك وذكائك؟
- لا.. لا، لأنني ابن صاحبهم. وربما لأنني كنت أصغر من في الكتّاب سناً؛ فقد تجاوز بعض زملائي عامهم العشرين، بينما كنت أنا في السادسة، وكان معظمهم من فاقدي البصر، وألحقتهم أسرهم بالكُتَاب كي يمتهنوا عملاً؛ فيقرأون القرآن الكريم في المناسبات وفي الجنازات وفي الأعياد بالمقابر.
وكان دخول الكتّاب هو السبيل لذلك. وكلما كان لابن الكتّاب صوت أجمل كان مستقبله أكثر سعادة، فمن الممكن له أن يصبح مقرئ القرية أو يذيع صيته ويصل إلى القرى المجاورة، وربما أسعده الحظ في يوم من الأيام وأصبح قارئاً معتمداً في الإذاعة.
وبالفعل، قام أحد هؤلاء الذين تخرجوا في الكُتَاب بعمل إذاعة خاصة في قريتنا، وكان يلقي على أهل القرية من خلالها أخبار المتوفين، ويقدم نشرة أخبار محلية وسياسية أيضاً، ويختتم الإرسال بتلاوة القرآن الكريم.
وشيوخ الكتّاب هم أصحاب الفضل في أن أصبح «أشطر» التلاميذ في المدرسة الابتدائية في القراءة، وهو ما لفت انتباه أستاذ اللغة العربية إليّ، هذا فضلاً عن الدور الذي لعبته مكتبة والدي، المكتنزة بدواوين الشعر، وكتب التراث العربي القديم، في تأسيسي شعرياً، وأذكر أنني قرأت في سن الثامنة الطبعة الأولى من ديوان «الشوقيات»، وكنت أعتمد عليه في كتابة موضوعات الإنشاء، مما جعل أستاذي يعجب لذلك، ويسألني: من أين لك بهذه الأبيات؟ فأرد عليه: من «الشوقيات»، ومن شدة إعجاب هذا المدرس بي كان يشتري لي، كل شهر، كتاباً جديداً يهديه إليّ.
- وهل لاتزال تذكر اسمه؟
- نعم، الأستاذ أحمد عبد اللطيف الشنهابي، وقد كان شاعراً، وهو ابن قرية مجاورة لقريتنا اسمها «البستان»، وأخيراً علمت من الدكتورة درية شرف الدين، أنه من عائلتها.
- فاروق شوشة واحد من أشهر من تخرجوا في «دار العلوم»?
- لقد التحقت بقسم اللغة العربية في كلية الآداب، حيث كان طه حسين يقوم بالتدريس، وكانت كافتيريا كلية الآداب تزدان بأجمل بنات مصر، في ذلك الوقت، ممن كن يدرسن بقسمي اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقد كنت زميلاً لرجاء النقاش، لكنني تركت الكلية وأنا أبكي، بعد أن أرسل لي والدي برقية من دمياط يقول فيها: «اسحب أوراقك فوراً من كلية الآداب وتوجه إلى دار العلوم»، وذلك بمجرد أن قرأ في الصحف اليومية إعلاناً صغيراً تطلب فيه دار العلوم قبول أول دفعة من الحاصلين على شهادة التوجيهية في هذا العام، بعد أن كان الالتحاق بهذه الكلية مقصوراً على خريجي المدارس الأزهرية فقط، وقد كانت هذه الدفعة تضم أربعين طالباً فقط، والحقيقة أنني تغلبت على مأساة الابتعاد عن محاضرات طه حسين بالتسلل إلى الجامعة في مواعيد محاضراته للاستمتاع بها، وبعد ذلك بدأت أتوجه إلى الجامعة الأمريكية التي كانت قريبة من كليتي لأحضر لأساتذتها الذين أصبحت زميلاً لهم بعد ذلك، فقد قمت بالتدريس لطلبتها لأكثر من عشرين عاماً.
- وبعد تخرجك في «دار العلوم»؟
- عملت مدرساً للغة العربية لمدة عام، فقد كان خريج كلية دار العلوم هو الأكثر كفاءة في تدريس العربية، وبعده يأتي خريج الأزهر، ثم خريج الآداب، لكنني سرعان ما التحقت بكلية المعلمين لأتخصص في التربية وعلم النفس، وتخرجت فيها، وكان ترتيبي الأول على دفعتي، ورشحت لبعثة لدراسة علم التربية المقارن في الولايات المتحدة الأمريكية. ولأن البعثات في عهد عبدالناصر كانت شحيحة وتتأخر إجراءاتها كثيراً، فقد استجبت لمقترح أحد زملائي المدرسين بمدرسة النقراشي الثانوية بأن نتقدم لامتحان قبول المذيعين في الإذاعة المصرية في ذلك الوقت، وكان هذا المدرس هو الاحتياطي لي في البعثة، فنجحت أنا في اختبارات المذيعين، بينما سافر هو إلى أمريكا للدراسة بدلاً مني! وهكذا تغير المسار وأصبحت مذيعاً.
- طوال مشوار العمر، من هي أقرب الشخصيات إليك؟ هل هو الدكتور محمود الربيعي الذي تزاملت معه في التدريس لطلاب الجامعة الأمريكية بعد أن تزاملت معه في «دار العلوم»؟
- طبعاً هو من أقرب الناس إلى نفسي، لكنه أصغر مني في الدراسة بدفعتين.
ومن الذين كانوا قريبين من نفسي كثيراً الدكتور السعيد بدوي، الذي رحل منذ عامين، وكذلك الدكتور محمد حماسة عبداللطيف، الذي توفاه الله هو الآخر قبل شهور، فضلاً عن صديقي وصهري الأديب سليمان فياض الذي فارقني هو الآخر، تاركاً ألماً شديداً لفقده، وقد قمت بتدريس روايته «أصوات» لطلابي في الجامعة الأمريكية، كما درست لهم: الشعر القديم والأدب العربي الحديث على امتداد سنوات طوال، وكان من بين ما درسته لهم الشعر الجاهلي والمعلقات، جنباً إلى جنب مع قصص يوسف إدريس وروايات نجيب محفوظ، والأعمال الأدبية التي تناولت الصدمة الحضارية عند اللقاء مع الغرب: يحيى حقي، والطيب صالح، وسهيل إدريس وغيرهم.
ومن أصدقائي الأحياء: الروائي البارز بهاء طاهر الذي تزاملت معه في الإذاعة، وقد سبقني هو بعام، إذ التحق بإذاعة «البرنامج الثاني» عند تأسيسها في عام 1957، وعينت أنا عام 1958 في البرنامج العام قارئاً لنشرة الأخبار ومقدماً للبرامج، وإن كان هذا لم يمنعني من العمل مع «البرنامج الثاني» متطوعاً، فقدمت عبر أثيره العديد من البرامج مثل: «مع النقاد»، «مع الأدباء»، «كتابات جديدة»، «شاعر وديوان»، «زهور وبراعم».
- في عام 1963 سافرت للعمل بإذاعة الكويت؟
- نعم أمضيت فيها عاماً كاملاً معاراً كخبير، وكان معي المخرج إسلام فارس، وقد تركت الكويت في نفسي أثراً جميلاً تجدد بانضمامي إلى مجلس أمناء مؤسسة البابطين التي أتاحت لي فرصة زيارة العديد من مدن العالم من أجل عيون القصيدة وخدمة لفن العربية الأول >