حرفة الإسكافي في عصر سلاطين المماليك

حرفة الإسكافي  في عصر سلاطين المماليك

تتناول هذه الدراسة التعريف بأحوال إحدى الحرف المهمشة وهي حرفة الإسكافي، وعلى الرغم من أهمية هذه الحرف والمهن في الحياة الاجتماعية المصرية، فإن أصحابها لم يلقوا أي اهتمام من قبل مؤرخي ذلك العصر، وذلك لانصراف معظم هؤلاء إلى تسجيل الأخبار السياسية وأحوال السلطان وحاشيته؛ فضلاً عن الباحثين المحدثين، وقد جاءت هذه الدراسة للوقوف على أحوالهم، وسد اللبنات الناقصة في تاريخ المجتمع المصري في العصر المملوكي (648-923هـ/ 1250-1517م). 

  ألقى الثراء الذي تمتعت به مصر في العصر المملوكي من جراء التحكم في طريق التجارة بين الشرق والغرب، وبخاصة تجارة التوابل، بظلاله على صناعة الأحذية، فتنوعت في الأشكال والألوان والخامات، وقد ساعد هذا النشاط التجاري على جلب عديد من المواد الخام، وبخاصة الجلود، وإدخال أنواع جديدة من الأحذية؛ استطاع المصريون محاكاتها، والاستفادة منها في إخراج أشكال أخرى.
كما ساعد هذا الثراء على ظهور ما يعرف 
بـ «الموضة»، التي كانت أحد العوامل التي أسهمت في نشاط هذه الصناعة، أضف إلى ذلك التنوع العرقي الذي حوته مصر خلال هذه الفترة، وكل هؤلاء قد حملوا معهم ثقافة بلادهم التي كان لها تأثيرها على هذه الصناعة، ومؤكد أن منهم من كان يعمل بصنعة الأحذية، وهؤلاء كان لهم أسلوبهم في الصناعة من حيث الشكل وتركيب الخامات.
عَرف المصريون القباقيب الخشبية بجميع أشكالها وألوانها، فارتدت طبقة الخاصة القباقيب التي كانت تُزين بالزخارف، وتُرصع بالذهب والفضة والأحجار الكريمة وغيرها، وكان لكل مستوى معيّن من الشعب النوع المناسب له من هذه القباقيب، حسب نوع الخشب المستخدم والزخارف التي تنقش عليه، حتى الفقراء كان لهم نوع بسيط من القباقيب، وكانت النساء يلبسنَ هذا النوع لتفادي جر أذيال أثوابهن على الأرض، أو لإطالة قاماتهن، وهذا النوع المرتفع وُجِدَ أيضاً في الحمامات العامة لتفادي الماء المستعمل من الاستحمام والبعد عن النجاسات.
كما عَرف المصريون الأخفاف التي كانت تُصنع من الجلد من ألوان مختلفة؛ ومنها ما اختلط فيها لونان، وكان الأمراء وأعيان الجند يلبسون في الصيف الأخفاف البيض العلوية، وفي الشتاء الأخفاف الصفر من الأديم الطائفي، ويشدون المهاميز المسقطة بالفضة على الخف، ولا يُكفَّت مهمازه بالذهب إلا من له إقطاع من أجناد الحلقة.
أما ما يلبسه السلطان من الأخفاف، فأعتقد أنه كان يلبس ما يلبسه كبار الأمراء، وكان المماليك قبل سلطنة السلطان المنصور قلاوون (678-689هـ) يلبسون أخفاف برغالي سوداء، ومن فوقها خف ثانٍ يسمى سقمان، فلما تولى غير أشكال هذه الأخفاف للأحسن.
واعتاد أرباب الوظائف الدينية من القضاة وسائر العلماء لبس أخفاف من الأديم الطائفي بغير مهاميز.
ومن أشهر أنواع الأحذية التي كانت مستخدمة بكثرة في ذلك الوقت النعل المسمى «سرموزة»، وهو نوع من الأحذية القصيرة التي تُخلع عند دخول المنزل، ويطلق عليها مسميات عدة ما هي إلا تحريف للسرموزة، وهي «الزرموزة، السرموج، والجرموق»، وكانت تُلبس غالباً فوق الخف الذي يصنع من جلد ملون.
وبجانب السرموزة والأخفاف والقباقيب وُجِدت أنواع أخرى طويلة الرقبة بها خرز، وأخرى لامعة مذهبة تلبسها النساء، وثالثة مثنيّ جانب منها تحت القدم، وقد نالت نساء السلاطين والأمراء أغلى هذه الأنواع سالفة الذكر، ففي مصادرة السلطان للأمير أقبغا بن عبدالواحد سنة 742هـ/1341م بِيع لزوجته قبقاب وخف وسرموزة بخمسة وسبعين ألف درهم.
وقد شهدت سنة 750هـ/1349م تطوراً كبيراً في موضة أخفاف النساء وسرموزاتها، وزاد إقبال النساء عليها، حتى وصل سعر الواحدة منها إلى خمسمائة درهم، مما حدا بالوزير منجك اليوسفي، بناء على فتاوى العلماء، أن يأمر بمنع الأساكفة من بيع الأخفاف والسراميز الجديدة؛ وأن تعمل كما كانت تعمل أولاً، فامتثل الأساكفة للأمر، لكن الأمر عاد إلى الظهور مرة ثانية سنة 751هـ/1350م، فأمر السلطان حسن بن محمد بن قلاوون بإبطال ما أحدثته النساء من لبس الأخفاف المزركشة.
وقد استخدم الإسكافيون جميع أنواع الجلود عدا جلد الخنزير الذي كان محرماً استعماله في هذه الصناعة، فوجدت أحذية من جلد الحمار، والبقر، والماعز، والتماسيح وغيرها، لتناسب جميع الفئات والطبقات. 
كما كانت تستورد مصر من بلاد الحجاز الأديم الطائفي، واستعمل هؤلاء المعادن، مثل الحديد والنحاس والفضة والذهب في صناعة الأحذية، ومعها الأحجار الكريمة التي كانت تصنع منها الفصوص التي كانت تلبَّس في التجاويف الخشبية.
كما استخدموا في صناعة القباقيب عدداً من الأخشاب المتنوعة التي تناسب حال المشتري، واستعمل الإسكافيون بجانب هذه المواد الخام عدداً من الأدوات؛ منها المقص والمسلة والمنشار والخيوط المختلفة الألوان والمطرقة والسندان الحديد، والقرمة الخشبية التي يثبت عليها السندان؛ وتتم عليها كثير من عمليات التصنيع، وكان الإسكافي في ذلك العصر يستخدم عدداً من القوالب الخشبية المختلفة كنماذج ليصنع عليها الأحذية، ولاتزال هذه الأدوات يستعملها الإسكافي حتى اليوم.
ولم يقتصر دور الإسكافي على إنتاج الأحذية المختلفة الأشكال والألوان، بل كان يقوم بخياطة وإصلاح القديم منها؛ والذي يطلق عليه في اللغة العامية المصرية «البرطوشة»، وتلميعه بالصبغات الطبيعية والكيميائية، كل حذاء حسب لونه. 
وقد تركز هؤلاء الإسكافيون في منطقة الصاغة تجاه المدرسة الصالحية بخط بين القصرين، حيث شكلوا جزءاً من سوق الزجاجيين، ومنطقة الصليبة، وسقيفة العداسين التي عرفت أيام ابن عبدالظاهر بالأساكفة والبندقانيين. 
كما كان لهم مكان في الركن المخلق خلف خانقاه سعيد السعداء، ووجد فريق منهم في حوانيت قيسارية السلطان بيبرس الجاشنكير (708/709هـ)، وظلوا بها حتى عهد المقريزي (ت: 845هـ/1442م)، الذي أمدنا بمعلومات مهمة عن الإيجار الشهري الذي يدفعه هؤلاء؛ وهو ما بين ثمانية وعشرة دراهم حسب حالة الحانوت وموقعه، وبالطبع كان الحانوت يشمل في معظم الأحيان مكان التصنيع، ومكان البيع، حيث يعرض الإسكافي ما ينتجه على واجهة محله لجلب الزبائن.
ولم يقتصر وجود صانعي الأحذية على القاهرة، بل وجدوا في كل الأقاليم والمدن المصرية؛ وذلك لأنها من الحرف الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
وأشارت النصوص الأثرية التي عُثر عليها إلى وجود عدد لا بأس به من الأساكفة في مدينة سوهاج بصعيد مصر. 
ومن مشاهير الإسكافيين: أحمد بن عبدالقادر النشاوي الحنفي (ت: 884هـ/1480م) الذي مهر في صناعة السرموزة حتى صار معلماً معتبراً بين أهل صنعته، لكنه ترك الصنعة بعد فترة وانصرف إلى طلب العلم، وإسماعيل بن أحمد الأخفافي (ت: 878هـ/1476م)، الذي كان وجيهاً بين أرباب حرفته، وممن عمل بهذه الحرفة ثم تركها أحمد بن محمد بن علي (ت: أوائل ق9هـ/15م).
وكان بعض هؤلاء على قدر من الثقافة الدينية نتيجة حضوره مجالس العلم، فعُرِفَ عن إسماعيل بن أحمد الأخفافي (ت: 878هـ/1476م) أنه ممن يداومون على حضور مجالس ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ/1448م)، بجانب اهتمام المحتسب بين الحين والآخر بتعليم هؤلاء وغيرهم بعض السور القرآنية، وبخاصة الفاتحة والسور القصار، ليقرأوا بها في صلاتهم، وذلك على يد عدد الفقهاء، وكان الفقيه يأخذ على من يعلّمه فلسين، كما حدث سنة 790هـ/1388م.
كما عُرِفَ عن الإسكافيين أن لهم لغتهم الخاصة التي لا يعرفها إلا أبناء الصنعة، شأنهم في ذلك شأن كثير من الطوائف الأخرى، بعضها خاص بأسماء المعدات والجلود وطريقة التصنيع، وبعضها لغة سرية بينهم عبارة عن مجموعة كلمات ذات مدلول مغاير للمدلول الحقيقي للكلمة، وذلك فضلاً عن لغة الصنعة المرتبطة بالمواد الخام والأدوات ونحو ذلك.
وفيما يخص أسواق الأحذية في ذلك العصر، فقد عُرف لهم سوق في منطقة الصاغة بخط بين القصرين؛ ظلوا فيه مدة حتى عَمَّر الأمير يونس النوروزي الدوادار قيساريته بعد سنة 784هـ/1482م، فنقلَ منه بياعي أخفاف النساء ونعالهم، وأسكنهم بحوانيتها الخارجية.
وحول سياسة الدولة تجاه هؤلاء، فيمكن تلخيصها في ثلاثة عناصر، هي: الاحتساب، والرمي، والمكس، فقد أوكلت الدولة إلى المحتسب أمر الإشراف على هذه الحرفة، ووضع المحتسب على صانعي الأحذية ضوابط عدة في صناعتهم، ونبه عليهم وحذر من مخالفتها، ومنها: عدم استخدام شعر الخنزير في الصناعة، والالتزام بالوقت المحدد للزبون، وغير ذلك.
وإذا كان تعيين محتسب لمراعاة شؤون هذه الحرف أمراً جيداً لإصلاح المعوج فيها، فإن مسألة رمي الجلود عليهم وبضعف السعر في كثير من الأحيان كان لها أسوأ الأثر على هذه الحرفة، لأنها دفعت هؤلاء إلى الغش في الصناعة، ورفع سعر المنتج، والغريب أن المحتسب مهمته منع هاتين النقطتين، فيا الله، كيف تضع الدولة هؤلاء بين مطرقة الرمي وسندان الاحتساب، وكأنها تقول لهم انتحروا؟! 
لهذا نرى قوماً من هؤلاء يدعون على أنفسهم بالموت، وأن يخلصهم الله مما هم فيه.
أضف إلى ذلك فرض الدولة عدداً من المكوس على هؤلاء، منها: مكس الجلود الذي أبطله السلطان برقوق في سنة 791هـ/1489م ثم عاد مرة أخرى، ثم أبطل في شوال سنة 853هـ/ نوفمبر1449م من سوق النعال بالركن المخلق بين القصرين، ومن سائر الأسواق.
أما مكس الأخفاف، فكان يفرض فيه على كل تاجر أربعمائة درهم، لكنها زادت على يد الوزير ابن غريب، فوقف تجار سوق الأخفاف في شهر جمادى الآخرة سنة 876هـ/ نوفمبر1471م للسلطان، بعد أن قدموا إليه شكوى تتضمن حالهم وما حاق بهم من ظلم، فأمر السلطان الوزير أن يجريهم على عادتهم، فاتجهوا إليه، فما وافق لكنه خففها، فوقفوا للسلطان مرة أخرى، فأبطل مكس الأخفاف مطلقاً.
وإضافة إلى هذه السياسة الجائرة، شكَّل غلاء أسعار المواد الخام عاملاً في تدهور حال هذه الصناعة، وبخاصة في العصر المملوكي الجركسي (784-923هـ /1382-1517م)، فكثيراً ما يرتفع سعر هذه المواد كما حدث في سنة 827هـ/1423م حيث بلغ الرطل من الحديد المعد للاستخدام عشرين درهماً، أما النحاس فوصل الرطل منه إلى أزيد من ثلاثين درهماً، ووصلت «التطبيقة» من النعال إلى سبعين درهماً.
أضف إلى ذلك ارتفاع أجور الصناع نتيجة اضطراب السياسة النقدية للدولة، وهذا بالطبع كان له تأثيره على سعر الأخفاف والنعال، علاوة على تعرّض أسواق الأخفاف وحوانيت صُنعِهَا للنهب والسرقة في فترات الاضطرابات التي كانت هي السمة البارزة للعصر المملوكي الجركسي .