الزمــن السينمــائي

الزمــن السينمــائي

يشكل عنصر الزمن ركناً أساسياً في بناء وفعالية الجمالية الروائية والفيلمية، فالزمن من أعقد المفاهيم التي لم تُعرَّف، ولن تُعرَّف، فهو يُفسَّـر بكثير من التفسيرات الفيزيائية أو الفلسفية الهلامية.
نحن نشعر به، ولكننا لا نستطيع تحديد ماهيَّته. ولكن ما يهمنا هو الزمن في مفهومه العرفي بين الناس، فهو يُعتبر اللحظة المتكررة التي تتمدد فيها الحياة، فإذا توقف الزمن توقفت الحياة، لأن الحياة مرتبطة بالتغيير، وهذا التغيير المتكرر يرتبط بدوره بالزمن، ودونه لا يمكن أن يحدث، ولذا فإن المعادلة هي: إنْ توقف الزمـن يجب أن يتوقف التغيير، ومن دون هذا التغيير لا توجد حياة.

يلعب الزمن دوراً مهماً في السينما كمحرك للأحداث وكلوحة خلفية ترتسم عليها الشخصيات. فالمعطيات التي نتلقاها من المشاهدة يفعل فيها الزمان فعلاً مؤثراً، «إذ تتحقق المشاهدة عبر دائرة زمانية هي عمر الشريط على الشاشة، وهو زمن مباشر ندركه عبر متوسط زمن الفيلم»، لكن هذا العمر الفيلمي هو في الواقع خلاصة خارجية للزمن، ترتبط بحقيقة وجودنا وحسابنا للزمن ونحن في صالة العرض أو في المنزل أو في مكان آخر، أما الأزمنة الموازية المتغلغلة في بنية الفيلم، فهي التي تولد القراءة الجمالية للفيلم.
وإضافة إلى زمن العرض الذي أشرنا إليه، هنالك «زمن الأحداث»، سواء زمن وقوعها في السياق الفيلمي أو ما تستغرقه من زمن مرئي، ويبنى زمن الأحداث على زمنين آخرين هما: زمن اللقطة وزمن المشهد. من هنا وجدنا أن المرونة العالية في الانتقال بين الأزمنة (ماض وحاضر ومستقبل) ستوجد زمناً توليدياً متجدداً هو «الزمن الفاصل» ممثلاً في إدراكنا الآني لانتقال الأحداث بين أزمنة فيلمية متعددة، أما الزمن الآخر المكمل فهو «زمن نفسي» يقترن بتبعثر الذاكرة والتغلغل في الزمن المعيش، ويأتي للدلالة على ذلك الإحساس الذاتي والشعور بمرور الزمن أو بعدم مروره، مع تقدير قدره انطلاقاً من هذا الإحساس. 
كان الزمن السينمائي في بدايته هو الزمن الدياكروني الذي يحاول التقاط الزمن الواقعي للتسلسل الحدثي للقصة. ولكنها - السينما - سرعان ما تخلت عن ذلك، عن طريق اللعب من خلال المونتاج المولد للحركية الصورية، خالقة بذلك إيقاعاً خاصاً بها، «فالمونتاج يوحد وينظم السيرورة الزمنية عن طريق تقديم اللقطات السينمائية وفق ما تحمله من دلالة، تجعل الواحدة منها تلي الأخرى، أو عن طريق التلاعب في عملية الترتيب»، خاصة عن طريق لعبتي الـ «فلاش باك» أو الـ «كان باك»، وهو ما نجد له مثيلاً أيضاً في تعامل السرد الروائي مع الزمن المنطوي داخله.
إن العلاقة بين الزمان والمكان في السينما علاقة مونتاجية، يتحكم في توجيهها المونتاج، فقد نُشاهد لقطة لرجل يصعد الدرج، وننتقل عبر المونتاج إلى مكان آخر لنشاهد رجلاً ينزل من الدرج ذاته في اللحظة ذاتها، ثم تندمج الصورتان مع بعضهما حينما تلتقيان معاً، وبالتالي تنطوي أبعاد المكان والزمان وتندمج في وحدة مونتاجية سينمائية. لهذا فإن عملية المونتاج مهمة بشكل كبير، ليس لأنها فقط تكوّن أجزاء الفيلم المتفرقة في قطعة كاملة متوازنة؛ وإنما أيضاً لأنها أداة المخرج في التحكم بالزمن السينمائي، حيث يستطيع التلاعب بالزمن عن طريقها، كما فعل المخرج الأرميني أتوم أغويان في فيلم The Sweet Hereafter أو المكسيكي أليخاندرو غونزاليز في فيلم 21 Grams. لكن السرد السينمائي يفتقر إلى الإشارات الفضائية المصاحبة للزمن اللفظي، وهو ما دفع صناع الفيلم إلى تعويض ذلك عن طريق استعمال مجموعة من التقنيات والإشارات البصرية المنفتحة والمنغلقة على الألوان المختلفة، هذه الألوان التي يرى آنهايم «أنها أكثر من مجرد كونها ذات نفع، إذ إنها تتجاوز ذلك إلى التعبير عن أفكار رمزية، إضافة إلى قدرتها على إبراز خصائص الأشياء، ونقل اهتمام المتلقي/ المشاهد من نقطة زمنية أو فضائية معينة إلى أخرى»، من أجل خلق إيهام بالوجود الزمني لدى المتلقي/ المشاهد.
ويمكن أن نميز - عموماً - في السينما بين نوعين من الأزمنة التي تلعب دوراً أساسياً في البنية الجمالية للفيلم: الأول هو الزمن الذي يسير وفقه تسلسل الأحداث، وهو الوقت الذي نشير إليه بكلمة «متى» لتحديد حال حدوثه و«كم» لتحديد كمّـيَّته، فنسأل: متى حدث الفعل، وفي أي ساعة، وكم مدة حدوثه، وكم سيستغرق؟ بمعنى آخر هو الزمن التقليدي إن جاز التعبير. الزمن الآخر في السينما هو الزمن المتمدد، الذي نستغرقه في وصف القصة بأحداثها وشخصياتها. ففي الرواية، مثلا، يتمدد الزمن بلا توقف، فهو يستمر في وصف اللحظة إلى ما لا نهاية، يستطيع أن يشرح كيف شعرت الشخصية الأولى في اللحظة، ثم ينتقل ليشرح كيف شعرت الشخصية الثانية في اللحظة ذاتها، ثم يتعمق في وصف اللحظة مادياً عبر تكثيف الصور الوصفية للمكان والأوجه والتعبيرات، إنه متمدد لا يتوقف.
أما في السينما فالزمن محدود التمدد للغاية، لأنك لا تستطيع تكرار الصورة لتشرح جميع ما سبق، فهي صورة محمَّلة بكل تلك الصور التي تستغرق الرواية في وصفها، إلا أنها تمر دفعة واحدة، لمرة واحدة. ولأجل ذلك تحدَّث الروائي والمنظِّر والسيميائي الشهير أمبرتو إيكو عن السينما وعلاقتها بالرواية حينما أشار إلى أن النص الروائي «تتولد منه عبقريات تصويرية، لأنها متكررة، وصفية، بشكل مكثَّف، تجعل من اللحظة زمناً كاملاً من التعابير والأشكال والصور. أما في السينما، فاللحظة تأتي في صورة واحدة، لا يمكن الاستمرار في إعادتها، أو تثبيتها». ولهذا كان ناقماً على تحويل روايته الشهيرة «اسم الوردة» إلى فيلم من بطولة شون كونري في عام 1986.
إن ما يمكن أن نقرأه روائياً في صفحات متعددة تستطيع السينما اختزاله في صورة واحدة، حيث تتراكم مجموعة من الأشياء في اللحظة نفسها، مجسدة في ذلك إحدى خاصيات الفن السينمائي، وهي «ما يوجد هنا والآن»، ولذلك فإن ما يزيد السينما تفرداً - بالمقارنة مع الرواية - هو انعدام البعد الزمني للماضي، فعلى عكس السرد الروائي، حيث يضطر السارد إلى استحضار أحداث مضت عبر قناة تذكارية، يقوم تسلسل الصور الفيلمية في السينما «بتقريب المشاهد من الماضي، إما بواسطة عرض أحداثه كأنها تقع» هنا والآن، «وإما بواسطة حركة حوارية لها خاصية التحيين الزمني نفسها».
إن عنصر الماضي في السينما ليس ذكرى، بل حركة في صدد الإنجاز، وكل شيء هنا يقع كأننا أرجعنا فجأة سنوات عديدة إلى الوراء .