فيلم «بروكلين» بعيداً عن الحلم... قريباً منه

فيلم «بروكلين» بعيداً عن الحلم... قريباً منه

استطاع المخرج الإيرلندي جون كرولي John Crowley أن يُثبت نفسه وموهبته في فيلمه بروكلين Brooklyn، الذي رشّح لثلاث جوائز أوسكار مهمة، كأفضل فيلم، أفضل ممثلة، وأفضل نص مقتبس، إذ سيفتح هذا العمل أبواب «هوليوود» المُحكمة الإغلاق للمخرج، بعد أن تجلّت مواهبه وقدرته على تطويع قصة الفيلم، المقتبسة من رواية تحمل العنوان نفسه صدرت سنة 2009، للكاتب كولم تويبين.

 وقد لاقت ترحيباً واسعاً بين النقاد والقُراء، خصوصاً أنها تُعالج مشكلة تاريخية وجوهرية تتقاسمها كل من إيرلندا والولايات المتحدة الأمريكية، وتتعلق بالمهاجرين الذين سافروا إلى أمريكا للبحث عن فرص عمل، ومعانقة «الحلم الأمريكي»، لكن وبرغم توافر الفرص، فإنهم ظلوا يحنّون إلى الوطن الأم، تأسرهم الوحدة في فضاء لا يؤمن بالعواطف، ولا يرفع سوى شعار العمل والبناء لخلق المستقبل، وهو جوهر هذا الفيلم الذي بحث في هذه الماهية، عن طريق الدراما التاريخية المفعمة بالحب والرومانسية الحالمة، إذ يتم التنقل من مشهد لآخر بتناغم ولطف واضحين، استثمر في المرأة ومشكلاتها، لذا كانت معظم أصوات الفيلم نسويّة، ضحكاتهن اللطيفة والمشاغبة، ملابسهن الملونة والأنيقة، مساحيقهن المختلفة، بحثهن الحثيث عن شريك وحبيب يؤنسهن، كلها أشياء الأنثى التي رسخها الفيلم، وقد نجح المخرج كرولي في تجسيد كل هذه المغامرة وفقاً لرؤى سينمائية جمالية مُحفزة، تأخذ بيد المتلقي/ المشاهد كي يرى ويحكم على فترة زمكانية مهمة.
نقل فيلم «بروكلين» أوجاع الأنثى وهواجسها، حيرتها من الفضاءات الجديدة، وارتباطها بالمنبت، لا كأرض، ووطن، وتاريخ أجداد، بل كأمّ تركتها خلفها حزينة، وأخت اختطفها الموت وهي في أوج شبابها، وأصبحت ذكرى يصعب محوها، ذكرى تُحددها أحداث عميقة من الماضي المشترك، وحكايا الطفولة والمرح، أخت أصبح اسمها منقوشاً على شاهد قبر، صور متقطعة لصوت البحر الذي يُحاصر قرية أيرلندية بعيدة عن أعين العالم وخباياه، لا فرص فيها، ولا حلم بالمستقبل، وطريق منقطع لا يُوصل إلى بر الأمان، من هنا تقرر خلق الفاصل، البحث عن الجسر الذي يقود إلى الحلم، لتقليص المسافة وإطلاق العنان لما هو آت، لإبراز صورة الأنثى وإعلاء صوتها، لجعلها تقول ما تشاء، تفعل ما يحلو لها، وتحقق ما تصبو إليه، لهذا كانت السفينة هي الجسر الذي ربطها بما كان في الأمس وسيكون في الغد، أوصلها إلى فضاء يُؤمّن الفرص للجميع، إنه «الحلم الأمريكي» حين يتجلى، والذي فسّره جيمس آدمز في كتابه الشهير «ملحمة أمريكا»، بقوله «هو ذاك الذي يعد بحياة أفضل وأغنى، مع تأمين فرصة لكل شخص على أساس قدراته وإنجازاته، إنه حلم يصعب على الطبقة الأرستقراطية في أوربا فهمه، وحتى نحن أنفسنا نرتاب منه بعض الشيء، إنه ليس حلماً بالسيارة والأجور المرتفعة فقط، ولكنه حلم بمرتبة اجتماعية بإمكان كل رجل وامرأة أن يصل إليها، بغضّ النظر عن الأصل والمكانة».
من هنا تركت أليس (أدت الدور سواريز رونان)، أيرلندا، مضحية بالعلاقة الكبيرة التي كانت تجمعها بأختها روز (فيونا جلاسكوت)، وتوجهت إلى «بروكلين»، كي تعانق هذا «الحلم»، لتُحس بأنوثتها المُقبّرة، وتنفض عنها غبار قرون من التهميش، إنها امرأة تعكس صور جميع النساء وتنتصر لهن، وتحرضهن على المُضي قُدما دون النظر إلى القيود التي فرضتها العادات والتقاليد والفهم الخاطئ للدين.
انتصرت أليس لأنها ذهبت إلى «بروكلين»، أين ثُمّن ذكاؤها وظهر، بعد أن تحصلت على شهادة من الجامعة كمحاسبة؟، وجدت لنفسها مأوى مستقلاً، وعملاً مؤقتاً يُؤمن لها حاجياتها واحتياجاتها، وأكثر من هذا ظفرت بشاب وسيم أحبها لذاتها، وعانق معها هذا الحلم الأرجواني.

تلوّن الشخصية بالانفعالات
أثبتت الممثلة سواريز رونان في هذا الفيلم، أنها تمتلك القدرة والموهبة على تجسيد كل الأدوار، حيث لعبت على التناقض الصارخ في شخصيتها، إذ رأيناها في المرحلة الأولى كفتاة خجولة إلى حد السذاجة، ضعيفة الشخصية، لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وتقريباً منطوية على خياراتها، أما في المرحلة الثانية فقد تحولت إلى امرأة ناضجة، تدافع عن نفسها وعن خياراتها بكل ثقة وفخر، وبالحديث عن الشخصية ككل يمكن القول إنها استطاعت أن تتلاعب بكل الانفعالات الدرامية، إذ نراها باكية حزينة، ضاحكة فرحة، ناقمة على وضع ما، حالمة بأشياء، متطلعة، مقبلة على الحياة، مدبرة عنها، حائرة، شاكية وراضية، مشوشة، حاسمة، أي إنها نقلت كل المشاعر والانفعالات الإنسانية وكأنها هي صاحبة القصة الحقيقية ولا تؤدي دوراً في فيلم، فضلاً عن الملامح الفيزيائية القوية لوجهها، التي ساعدت على التحكم في ما تصبو إليه، ويعود كل هذا إلى الخبرة الكبيرة التي اكتسبتها رونان من خلال تمثيلها في عدد من الأفلام ووقوفها أمام الكاميرا منذ صغرها، وهذا ما سهّل عليها عملية اندماجها في كل الأدوار، بحكم أن التمثيل أصبح جزءاً من شخصيتها، تتلاعب بما يقدم لها، وتؤدي أي دور بسهولة تامة، كل هذا يُضاف إلى اجتهادها الواضح في التوحد مع أدوارها باحترافية كبيرة. أما الحبكة فقد كانت مثيرة برغم محدودية الأحداث، وطرحت عديداً من الأسئلة الفلسفية، عن تقلبات النفس البشرية، وجعلت المتلقي/ الجمهور، يتساءل عن مصير علاقة الحب الكبير الذي جمع أليس مع الشاب الإيطالي أنطونيو (أميري كوهين)، هل كان حباً حقيقياً؟، أم أن هذا الأخير وجد قلباً شاغراً فملأه؟، هل ستعود أليس إلى حبيبها بعد أن سافرت إلى قريتها الأيرلندية، وبدأت تنسج هناك علاقة غير واضحة المعالم؟، هل سترتبط بابن قريتها الذي يُعدّ زوجاً مثالياً لها، بعد أن توافرت لها جميع الظروف التي سافرت من أجلها؟، أين تم تقديم عرض عمل لها كمحاسبة مكان أختها التي توفيت، وتم توفير زوج غني يملك بيتاً محترماً؟
لقد وضعها القدر في امتحان صعب، كادت ترسب فيه، غير أن نميمة نساء القرية أيقظت فيها السبب الجوهري الذي سافرت من أجله، لقد عاد إليها رشدها، ورجعت إلى «بروكلين» لتعانق حلمها وزوجها من جديد.
هناك قيمة أخرى نقلها الفيلم، وهي الدور المحوري الكبير الذي لعبته الكنيسة في تحقيق هذا الحلم، حيث قدم الأب فلوود (جيم برودينت) الدعمين المعنوي والمالي لتحقيق حلم أليس، ومن هنا يتم استخلاص نتيجة مهمة، وهي أن الأسباب الحقيقية التي جعلت من أمريكا بلاد فرص، هي تذليل كل المشكلات، وتحالف ما هو سياسي، واجتماعي، وديني، لتحقيق هدف أسمى، وإعلاء قيمة الإنسان، بعيداً عن أصله وانتمائه، وهو ما ولّد دولة قوية.
جاء الفيلم على العموم قوياً، على مستوى القصة والتمثيل والفضاء العام الذي جرت فيه الأحداث، فقد أظهر حيوية بروكلين، وتطلعها للمستقبل، جمالها وأحلام أصحابها، فرصها المتعددة، سياستها وثقافتها وعلاقتها بالآخر الوافد إليها، أظهر أيضاً طريقة عيش أهلها، والضريبة المعنوية التي دفعوها في سبيل تحقيق الحلم، إنها أمريكا التي تسعى قدماً للأمام، من دون أن تنظر إلى الخلف، حيث الجراح والتطاحن والحروب، والفيلم برغم محدوديته الزمنية أحال إلى أحداث عريضة وعميقة. إنتاج الفيلم كان مشتركاً بين كل من أيرلندا والمملكة المتحدة وكندا.