صوَّر بريشته العقاد والحكيم وبيكار الفنان أحمد صبري مبدع «الراهبة» و«السيدة والمروحة»

صوَّر بريشته العقاد والحكيم وبيكار الفنان أحمد صبري  مبدع «الراهبة» و«السيدة والمروحة»

فن «البورتريه» أو الصورة الشخصية فن له تاريخ... وتعد مصر واحدة من رواد هذا الفن؛ بدءاً من وجوه الملوك والملكات التي شُكلت في تماثيل نحتية ضخمة وجداريات صرحية، لعل أشهرها نفرتيتي جميلة الجميلات التي يراها العالم في متحف برلين بألمانيا.
وفي عصر النهضة الأوربي تألقت «الموناليزا» (الجيوكندا) بلمسة الفنان ليوناردو دافنشي، وذاعت شهرتها في العصر الحديث، وهي تتربع حالياً على عرش متحف اللوفر في باريس خلف ساتر من الزجاج المضاد للرصاص، حرصاً عليها من السطو أو العبث.

ظهر فن الصورة الشخصية في مصر الحديثة على يد رائده وأستاذه الفنان أحمد صبري، وهو من الجيل الأول الذي التحق بمدرسة الفنون الجميلة، وتعد صوره الشخصية بألوان الزيت والباستيل من علامات هذا الفن، وقد صوّر عباس محمود العقاد صاحب العبقريات، وتوفيق الحكيم، مبدع روايتي «عودة الروح» و«عصفور من الشرق»، والعديد من المسرحيات، ومن بين روائع الرائد أحمد صبري في الصورة الشخصية لوحة «الراهبة» التي حصلت على الميدالية الشرفية من صالون باريس، ولوحة «السيدة والمروحة» التي بلغت ذروة كبيرة في الأناقة والجمال.

الرسم والموسيقى
في 19 من أبريل عام 1889 ولد أحمد صبري في حي المغربلين بقاهرة المعز لأبوين ينتميان إلى أصول تركية، ولم يكد يبلغ الثانية من عمره حتى فقد أمه، وبعد ست سنوات فقد أباه أيضاً، وغمرته مرارة اليُتم في أعنف صورها، حيث كفله جده لأبيه، ثم خاله فيما بعد.
وظل الطفل أحمد يتنقل بين بيتي الجد والخال، من حي السيدة زينب إلى حي الظاهر، وقد صبغت هذه الظروف نفسيته بالحزن، وأشاعت فيها الهواجس والقلق والانطواء.
ومع تعثره في الدراسة الابتدائية، أصبح حبه للرسم والموسيقى دافعه للتواصل والتعلق بالحياة، وكان يذهب إلى شارع نور الظلام بالحلمية الجديدة للاستمتاع بموسيقى عازف كمان تلقائي، وكان يهتز طرباً مع رفاقه الصغار، وذات يوم سمع عن افتتاح أول مدرسة للفنون الجميلة في درب الجماميز بالسيدة زينب في القاهرة، التي التحق بها في بداية افتتاحها عام 1908 مثّال مصر محمود مختار ويوسف كامل وراغب عياد ومحمد حسن... وتقدم لها صبري في عام 1910، ومع قبوله عانى خلال السنوات الأولى، مما أدى إلى كثرة رسوبه، برغم موهبته الكبيرة، ولم تكن ظروفه المادية وحدها المسؤولة عن هذا الفشل، بل يرجع هذا أيضاً إلى تكوينه المثالي الذي يهفو إلى القيم العليا في الفن، التي تعرّف عليها من فنون أجداده.
لكن فجأة وبلا مقدمات، تفجرت موهبته، وفي السنة الثالثة بالمدرسة اهتدى بفطرته إلى خامة تسهّل له التعبير، مختلفة عن ألوان الزيت، فكانت الأصابع الطباشيرية الملونة (ألوان الباستيل) التي أكدت ملكاته الإبداعية. وفي السنة النهائية حصل على دبلوم قسم التصوير عام 1916 موقّعاً من ناظر المدرسة موريس دوري، وبعدها خرج إلى الحياة، وانهالت عليه طلبات الأثرياء من الطبقة الراقية لرسم الصور الشخصية، واستطاع بالمال الوفير الذي كسبه أن يسافر إلى باريس، مدينة النور، في أعقاب الحرب العالمية، وهناك التقى الفنان محمود مختار الذي ساعده على الالتحاق بأكاديمية شومير، ثم أكاديمية جوليان، وأطلعه على تجربته الباريسية.

موظف في «الأشغال» 
قضى صبري ثلاث سنوات بسبب القليل الذي كان معه وما كسبه من رسم وجوه السياح في حي «مونمارتر» وأمام كنيسة «نوتردام»، وبعد تلك الرحلة إلى باريس وهذا الأمل المشرق الذي عاشه عاد إلى القاهرة، فاصطدم بالعمل الوظيفي حين قنع بالوظيفة التي أتيحت له في عام 1923؛ وهي «رسام للحشرات» بوزارة الزراعة، وعاش حياتين: حياة الموظف الذي يسجل براعته في رسم الحشرات، وحياة الفنان الذي تنطق ريشته بالجمال وتتأنق بسحر الألوان، يرسم نماذج من الطبيعة الصامتة من الأكواب والقوارير والأواني مع حبات الفاكهة والزهور ووجوه بعض المحيطين به، وأقام معرضه الأول عام 1925. ولم تمض فترة طويلة حتى نقل إلى وظيفة أخرى لا تقل غرابة؛ وهي رسام بوزارة الأشغال.

«الراهبة» وجائزة الشرف الفرنسية 
انفتحت طاقة الأمل من جديد، فأوفدته وزارة الأشغال في بعثة دراسية إلى باريس لتكملة دراسته الفنية، وهنا أحس أحمد صبري أنه يقف للمرة الأولى على أرض صلبة، إنه موفد في بعثة حكومية على نفقة الدولة.
وهناك عرض لوحته «الراهبة» بالـ «جران باليه» في باريس عام 1929، ونال عنها جائزة الشرف من جمعية الفنون الفرنسية، وهو شرف كبير قلّما يحصل عليه فنان أجنبي في عاصمة الفن.
وتعد «الراهبة» من روائع الفن المصري، ولم تبلغ لوحة أخرى ما بلغته من المستوى الرفيع في مجال الصورة الشخصية، فقد جمع فيها بين السماحة والجدية والجمال المتعفف، وعيناها متألقتان تنظران في ابتهال صوفي إلى ما لا نهاية، في اقتصاد لوني متعمد من الأبيض والأسود والبني، من أجل تجسيد الإشراق الروحي.
وهناك حادثة طريفة تكشف عن تواضع الفنان صبري وامتثاله للنقد التشكيلي بصدر رحب، برغم جديته واعتداده بفنه، فقد ذهب في المساء للاطمئنان قبل حفل افتتاح صالون باريس الذي يعرض فيه رائعته «الراهبة»، واستمع خلسة إلى بعض النقاد يبدون إعجابهم باللوحة، باستثناء خلفيتها الداكنة التي كانوا يفضلونها بيضاء، واقتنع بالملاحظة، ولم يتردد في تغيير الخلفية واللوحة معلقة مكانها، فازداد إشراقها بعد التعديل، وحصلت على ميدالية الشرف الذهبية.

مصور المشاهير 
عاد أحمد صبري من باريس عام 1929 مدرساً بمدرسة الفنون الجميلة العليا، ثم أسس القسم الحر الذي أنشئ للمرة الأولى لرعاية الموهوبين من غير حملة المؤهلات الدراسية، وأصبح فيما بعد رئيساً لقسم التصوير النظامي حتى عام 1951.
كان صبري مثالاً للأستاذ المتفاني في تلقين تلاميذه طرق الرسم والتصوير وتعليمهم أبجديات لغة التعبير من الخطوط والمساحات والتكوين الجيد، كل هذا ببساطة ووعي وطريقة في الإقناع، وكان حاسماً حاداً في التدريس، لكنه كان عاطفياً بشوشاً بعد الانتهاء من الدرس، وقد تأكدت علاقته بشكل كبير بتلاميذه، وكان يؤثر تلميذه بيكار (رائد رسوم الأطفال) لاكتشاف ميله إلى فن البورتريه أو الصورة الشخصية، وزاد من ذلك حبه للموسيقى والغناء الشرقي القديم.
كان بيكار يتردد عليه في بيته بميدان الحسينية، وقد شرع صبري في رسم بورتريه له استغرق 10 جلسات مع العود الذي اشتراه خصيصاً لذلك.
يقول بيكار: «كنت أغني له وأغني معه... نقتسم معاً الأدوار والموشحات والطقاطيق الموسيقية لمحمد عثمان وعبده الحامولي ومنيرة المهدية والخلعي، مثل «وجهك مشرق» و«آنست يا نور العيون» و«يا الحنة يا الحنة».
ويضيف: «كنت موديلاً وتلميذاً له يتحدث إليّ في كيفية بناء الصورة من الألف إلى الياء... تعلمت منه معنى التصوير وكيف يكون الأداء الحقيقي لفن البورتريه».
ومن بين أعمال صبري تعد لوحته «ذات المروحة» صورة للجمال الهادئ والنظرة المتوثبة والروح الأرستقراطية، واللوحة تغلب عليها الألوان الفاتحة من الأبيض المشوب بالبنفسجي الهادئ والأصفر.
كما صوّر العديد من الصور الشخصية لسيدات من المجتمع، وصوّر بعض الأفذاذ من رجال الفكر والأدب والفن، وكانت تربطه بهم صداقة ومودة، فصوّر العقاد بنظرة نافذة إلى آفاق المعرفة، كما صوّر إبراهيم المازني بروحه الشفيفة، وصور توفيق الحكيم بين اللون الهامس واللمسات الخافتة من الواقع والحلم.
وكان إعجاب أحمد صبري بالطبيعة الصامتة بلا حدود، ينتقي أجمل ما يحتويه مرسمه من أواني الخزف وأقمشة الحرير وباقات الزهر يؤلف بينها في معزوفات بصرية بالغة الرقة، مؤكداً ملامس الأشياء، حتى أننا نكاد نحس مذاق الفاكهة وعبير الأزهار وهفهفة الحرير ورنين المعادن في جو من الصفاء الناعم والشفافية النقية.
وبعد رحلة حافلة بالصراع والألم والوحدة والأمل والحب... تأبى الحياة إلا أن تحيط خاتمة فناننا بمأساة تكتمل حين يفقد البصر، فقد بدأت غشاوة معتمة تنسدل على عينيه، وعاش آخر أيامه يصارع الظلام الذي يزداد كثافة مع الأيام، وانهارت ريشته التي ترشف من الضياء، حتى وافته المنية عام 1955.
تحية إلى روحه بعمق الأضواء والظلال التي جسدت عالمه في دنيا من الجمال والإشراق .

الفنان أحمد صبري وزوجته وابنه نزار عام 1929 ويظهر في الخلف لوحة الراهبة التي اختفت ولم يعثر عليها حتى الآن

لوحة الراهبة للفنان أحمد صبري

بعد القراءة