الحرب المسرحية الباردة بين «التوني» و«القناع الذهبي»

الحرب المسرحية الباردة بين «التوني» و«القناع الذهبي»

أبحر فُلك نوح عليه السلام وعلى ظهره ما يقال إنهم ثمانون بشرياً، هم كل من نجوا بعد أن ضرب الطوفان العظيم الأرض وأغرقها ومَن عليها ممن كفروا بالله الواحد الأحد، ومن بين الناجين الأسود والأبيض، وغيرهم ممن يمثلون جذور البشر في الأرض القديمة بقاراتها الثلاث، والأرض الجديدة نسبة إلى حداثة اكتشافها من قبل أبناء العالم القديم، وبعدما رسا الفلك؛ أمر نوح عليه السلام أبناءه ومن صدقوه معهم أن ينتشروا في الأرض، فذهبوا شرقاً وغرباً ليبدأ الصراع من خلال قوى مختلفة تغيرت مسمياتها إلا من كونها شرقية وغربية، وأحدثها الروسية والأمريكية، ليأخذهما صراعهما إلى معارك دموية مباشرة وغير مباشرة أطلق عليها مجازاً ساخنة وباردة، وطوّرا أسلحتهما وصولاً إلى الذرّي والنووي والجرثومي، مما ينذر بهلاك الأرض وطوفان جديد، فهل يمكن لهذه الحرب أن تأخذ شكلاً مخالفاً من خلال القوى الناعمة الأكثر نفعاً كالروافد الثقافية والفنية وفي مقدمتها المسرح؟

ذكرت معاجم وقواميس اللغة الإنجليزية أن كلمة حرب تعني ما نطقه War، Struggle، Fight وCompassion، والتي ترادف باللغة العربية كلمات حرب «كفاح»، «نضال» و«جهاد»، ويقال إن للأخيرة ما بين عشرة واثني عشر نوعاً جميعها، فيما عدا واحدة، لا تحتاج إلى استخدام السلاح وإسالة الدماء، وأفضلها وأصعبها جهاد النفس، ولهذا فإن كلمة حرب مسرحية مناسبة لوصف هذا الصراع، أما كلمة «باردة» فتوافق اصطلاحياً «ناعمة»، بعيداً عن الاستخدام الإجرائي لهما، ولكن الأولى تتفق مع طبيعة المواجهة غير المباشرة بين الطرفين.
سبقت هذه الحرب المسرحية الباردة نظيرتها العسكرية والاستخباراتية بنحو أكثر من خمسين عاماً، وتحديداً بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها عام 1919، وبالرغم من أن الولايات المتحدة والإمبراطورية الروسية كانتا معاً في جانب الحلفاء المنتصرين فيها، فقد ظهرت نعرة «أنا روسي» و«أنا أمريكي»، فربما فقدت الإمبراطورية الروسية الكثير من الأراضي، مما أضعف موقعها السياسي والعسكري إلى حد ما، إلا أنها لم تفقد وجودها الحضاري والثقافي؛ بل ذهبت مسارحها تكثر من وجودها الأوربي في الوقت الذي كانت فيه القارة العجوز هي المحور الرئيس للعالم ومصدر الإشعاع الثقافي به.

«التوني» بانتفاضة نسائية
كانت مجابهة الجانب الأمريكي لنظيره الروسي في الفن الشعبي الأول وقتها صعبة في ظل فارق تاريخي يزيد على أربعة قرون، إذا ما اعتبر المسرح الروسي الحقيقي نشأ في عصر الرومانوف، لهذا كان التفوق الشرقي واضحاً خلال تلك الفترة وحتى نشوب وانتهاء الحرب العالمية الثانية التي كان فيها الطرفان في الجانب ذاته أيضاً.
استسلم رجال المسرح الأمريكي نسبياً، بينما قاومت نساؤه رافضات التسليم بالأمر الواقع، حيث أسست سبع منهن وهن راشيل كراوزار، ولويز هال، ودروثي دونلي، وجوزيفين هول، وميني دوبري، وإليزابيث تايري، ولويز درو؛ مؤسسة مسرحية أطلقن عليها اسم «الجناح المسرحي الأمريكي» تم تطويرها عام 1939 بدافع قوي من أنشط أعضائه حينئذ الممثلة والمخرجة ماري أنطوانيت، التي كانت قد صدمتهن برحيلها عام 1946 كبيرة، حوّلنها إلى دافع للاستمرار بفكرة تأسيس جائزة اخترن لها اسم «توني» نسبة إلى اسم الشهرة الخاص بأنطوانيت في العام التالي.
بحث الجناح من خلال هذه الجائزة عن فكر مختلف يواجه به المعسكر الشرقي، وكذلك التخلص من الصورة الذهنية التي علقت بالمسرح الأمريكي وتبعيته للإنجليزي كنسخة باهتة منه ولا ترتقي له، وأن لديهم حضارة - برغم قصرها - لكنها مزيج لكل الحضارات القديمة وثقافاتها، وحاولوا ترسيخ فكرة تنحية التاريخ جانباً والتقييم وفقاً للواقع الآني.
 وبرغم ما طال الجائزة من تشكيك وتقليل من شأنها؛ لكونها تخص مجموعة مسارح صغيرة، وأنها تمثل محلية المحلية، فإنها نجحت إلى حد بعيد في تحقيق أهدافها، وباتت أول جائزة تذهب إلى مسارح شارع واحد هو «برودواي».

رد فعل متأخر
أدرك الجانب الروسي بعد نحو نصف قرن مدى جدوى وفاعلية هذه الجائزة المحلية التي ابتدعها آل المسرح الأمريكي، ولم تمنعهم المعارك الفكرية والثقافية المستمرة بين الطرفين من استنساخها، وتأسيس جائزة مشابهة أطلقوا عليها اسم «القناع الذهبي»، نسبة إلى أهم تقنية استخدمها المسرح الروسي في عصره الذهبي، وجرى الإعداد لهذه الجوائز عام 1994 برعاية اتحاد المسرح الروسي، وتضمنت فئاته مختلف مجالات المسرح الستة، وهي: الدرامي، الغنائي، الأوبرا، الباليه، الأوبريت، والدُّمى؛ لتتنافس عليها كل المسارح الروسية، فلم تكن تخص شارعاً أو حتى ولاية، وجاء تأسيس هذه الجائزة بمبادرة من فنان الشعب ميخائيل أوليانوف (1927–2007)؛ رئيس اتحاد المسرح الروسي وقتها، وعاونه في ذلك مساعده الكاتب المسرحي فلاديمير بافلوف.

ضغوط وتفادي السقوط
بدأت مرحلة جديدة من الصراع المسرحي بين القطبين الروسي والأمريكي مع تأسيس هذا القناع الذهبي، وبدا واضحاً أن الجانب الشرقي لم يخجل من نقل ما يناسبه من خبرات لدى نظيره الغربي، فعندما أُسست جوائز «التوني» حرصت إدارتها على دعوة كبار الصحفيين في الولايات المتحدة وخارجها ومراعاة حسن الضيافة، كما سعت إلى استغلال كل وسائل التكنولوجيا الإعلامية المستحدثة وقتها ابتداءً من ظهور أجهزة التلفاز، حيث بث حفل توزيع الجوائز للمرة الأولى عام 1967، وكان لهذا علاقته الوثيقة بالاستراتيجية التجارية التي لها أولوية واضحة بالعمل في برودواي، التي تعد جوائز «التوني» جزءاً منها، وصولاً إلى بث الاحتفالات عبر شبكات الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية، ليتجاوز عدد متابعيها 116 مليوناً في الحفل الأخير الذي يحمل رقم 70، وقد استفادت جوائز القناع الذهبي الروسية من هذا وأخذت منه ما يناسبها.
وكانت جوائز «التوني» في بادئ الأمر عبارة عن هدايا ذكورية ونسائية وبعض المبالغ المالية الرمزية، إلى أن بدأ منح الميداليات في العام الثالث، التي صممها هيرمان روسي من النحاس والبرونز وقليل من النيكل، وتشكلت اللجان المنوط بها اختيار الفائزين من سبعمائة محكّم أصبحوا فيما بعد 846؛ متخصصين في مختلف عناصر المسرح، وتذهب الجوائز إلى فئتين فقط؛ هما العروض الدرامية والغنائية – بخلاف ما تتبعه الجانب الروسي الذي اختص بجوائزه جميع فنون المسرح – وعددها 24 جائزة تنافسية بواقع 12 لكل فئة قبل إلغاء الجائزة الخاصة بالتصميم الصوتي لتصبح 11 لكل فئة، وتهتم هذه الجوائز كثيراً بالتخصصات التقنية وأنواع التصميمات المختلفة.
عانت «التوني» ضغوطاً شديدة مصدرها الرئيس الرعاة والدعم المالي، والقيمة المادية للجوائز التي من المتوقع أن تزيد عاماً بعد الآخر، ولهذا أراد القائمون على القناع الذهبي التخلص من هذه الضغوط، فاقتصرت جائزتهم على القناع والشهادة، واعتمدوا فيها على الدفع بآلاف عدة من الاستبيانات التي ترسل إلى مختلف المسارح لعمل مسح للعروض، ويشارك في التقييم النقاد والعاملون في مجال المسرح من مخرجين وممثلين وغيرهم، ثم لجنة كبرى يشكلها الاتحاد، ويتم تحديد الفائزين عبر عملية اقتراع سري تقام قبل حفل توزيع الجوائز مباشرة، والقناع مصنوع من الخزف يشبه ما يرتديه المؤدون عند التنكر؛ وصنع بطريقة يصعب معها تقليده، وكأنه نسر برأسين كشعار الدولة الروسية يرتدي قبعة المهرج الحمراء.

غايات وأزمات
اختلفت الغايات التي وضعها اتحاد المسارح الروسي عمّا كان يستهدفه الجناح الأمريكي بغياب الطابع التجاري، حيث بحثت عبر القناع الذهبي والأنشطة المصاحبة له عن الحفاظ على تقاليد المسرح الروسي وتطويرها، وإلقاء الضوء على أفضل الأعمال الإبداعية بمختلف أشكال وأنواع الفن المسرحي في روسيا، وتشجيع المواهب من عناصر المسرح المختلفة، وتحديد اتجاهات العملية المسرحية الحديثة، وتعزيز الفضاء الثقافي المشترك في البلاد، وتهيئة الظروف للتبادل الإبداعي المنتظم.
واجهت جوائز «التوني» عديداً من الأزمات التي مثّل بعضها نقطة تحوّل في تاريخها وربما في تاريخ القناع الذهبي وغيرها من الجوائز المحلية التي أُسست فيما بعد، وتجدد بعضها بين الحين والآخر، وبات مزمناً متأثراً بالظروف السياسية والاجتماعية المحيطة، فمن النوعية الأولى كانت أزمة الهوية التي أُجلت لنحو عشرين عاماً من عام 1975 وحتى كانت الوقفة الإجبارية عام 1995 باختيار من يستحقون الجوائز بمعايير أخلاقية، إضافة إلى الفنية، وأن في هذا رسالة إلى المجتمع المنوط بالمسرح وروافده العمل عليها مع استقبال الألفية الجديدة، وتلتها أزمة أخرى تتعلق بالتحيز ضد النساء بلغت ذروتها عام 1999، وكعادة لجنة «التوني» والقائمين عليها؛ وضعوا حلولاً فورية غير عملية تمثلت في منح أكبر عدد من الجوائز للنساء في العام التالي، وأخرى على المدى الطويل بوضع معايير تضمن عدم التحيز مستقبلاً إلى حد ما.
أطلق النقاد على 2005 عام «العالم الصغير»، حيث واجهت لجنة «التوني» الانتقادات بصدر رحب، ووضعت توجهات لمسارح برودواي للانتباه إلى أن ما يقدمونه من عروض لم يعد موجهاً للمجتمع الأمريكي فقط، ولكن للعالم الفسيح بكرته الأرضية الصغيرة.
وفي عام 2009؛ اتخذت «التوني» خطوة جريئة تحملت فيها مسؤوليتها التاريخية عندما نحت جانباً الصحفيين من التصويت لاختيار الفائزين، وصدر بيان صادم اتهمتهم فيه ضمنياً بالتلاعب لمصلحة بعض المسارح الكبرى وأصحابها ومموليها، ونجحوا في استيعاب هذه الأزمة بالصمود حتى خضعت مختلف الأطراف لإرادتها.
وعلى الرغم من محاولاتها عبر المسكنات والاستراتيجيات الطويلة؛ فإن هناك أزمات تتجدد ولا تنتهي عند «التوني» عبر تاريخها، منها ما يتعلق بجغرافيتها التي كلما علت موجتها إلى الحد الذي يصعب معه المواجهة؛ أقدمت اللجنة على بعض التنازلات، فعقب موجة 1972؛ لم تعد الجوائز تقتصر على عروض شارع برودواي، لكنها شملت كل مسارح نيويورك، ثم ضمت مسارح الولايات المتحدة كافة، بشرط أن تكون هذه العروض قدمت ثلاث ليال على الأقل بأحد مسارح برودواي، وذلك عام 1984، وبعد عشرين عاماً باتت الجوائز لكل العروض الناطقة بالإنجليزية من مختلف دول العالم، وإن ظل شرط عرضها على أحد مسارح برودواي قائماً.
تجددت أيضاً أزمة السود وعنصرية «التوني» وتحيزاتها بدءاً من عام 1967 ثم أعوام 1975، 1986، 1998، 2012، وفي كل مرة كانت تمنح اللجنة في العام التالي أكبر عدد من الجوائز للسود، مع تغيير بعض معاييرها لضمان عدم تكرار الأزمة، ولكنها تفشل على المدى الطويل، إلا أن المحاولات لم تتوقف، ولم يشفع للجنة أن صاحبة الرقم القياسي في الفوز بتوني التمثيل بـ6 جوائز هي السوداء أودرا ماكدونالد، وعلى غرارها أزمة أخرى أشد تتمثل في التأثير السياسي السيئ والتدخل لمنحها للبعض ومنعها عن البعض الآخر والتي أثيرت وتجددت أعوام 1978، 1988، 1997، 2003، وأخيراً عام 2015، وبرغم لجوء اللجنة إلى تغيير استراتيجيتها بشكل كامل في كل مرة، فإن المداخل السياسية المتعددة والمتغيرة جعلت كل هذه المحاولات المستمرة تفشل حتى إشعار آخر.
بدا واضحاً – بطريقة غير معلنة ووفق الأسلوب العلمي الذي تخيرته جوائز القناع الذهبي والمعنيين بها – متابعتهم الجيدة للمراحل التي مرت بها جوائز «التوني» للاستفادة مما أنجزوه وتفادي الأخطاء والأزمات، وإن لم يمنعهم هذا من السقوط في بعض منها، وأهمها غياب المعايير الأخلاقية التي أخذت تنتبه إليها وتدرك أنها ما ينتقص هذه الجوائز، والتي جاءت عبر توجهات متعاقبة رويداً رويداً، وصولاً إلى وضع لائحة جديدة في أبريل من عام 2016؛ تعتبر للأخلاقيات عند اختيار الفائزين دون النَّيل من حرية مناقشة مختلف الموضوعات والأفكار، وبما يضمن عدم إهانة الإنسان أو التعرض للأديان، وما يتعلق بالأفعال والأقوال البذيئة التي يمكن أن تؤثر على سلوكيات الجمهور.
كما واجهت القناع الذهبي أزمات أخرى انتبهت إليها «التوني»؛ منها الصعوبات الشديدة في عملية المسح لتقييم العروض نظراً إلى كثرتها وتزايدها والوصول لكل الأماكن البعيدة والمتطرفة طالما وجد فيها المسرح، وهو ما دفعهم إلى اللجوء إلى اللامركزية، عبر تشكيل لجان إقليمية فرعية؛ مما لفت النظر إلى أهمية هذه الأقاليم وما يتضمنه كل منها من مدن أصبحت معاقل مسرحية قوية تنافس موسكو، بل وتتفوق عليها مثل كازان، نوفجورود، بيرم، فلايديفوستوك، فورونيزه، ومئات غيرها يزينها المعقل الرئيس للفنون الروسية حالياً، وأهم مدن الفنون في العالم سان بطرسبرج، لتحدث الأزمة حراكاً يؤدي إلى نهضة إبداعية بروح تحدٍّ بعثته المنافسة النزيهة بين المسارح؛ تخلق حالة تتناقض مع مظاهر التباهي بالثروة والقوة التي تبدو عليها روسيا حالياً.
واستفاد الجانب الأمريكي مرة أخرى – وهو أمر بات معتاداً من الجانبين في السنوات العشر الأخيرة – من روح التنافس الروسية، وحاول نقلها بالاهتمام بالأقاليم لديه، وهو ما سجله أحد أساطير المسرح المعاصر، المخرج بيتر بروك، ولم يدركه المتابعون إلا أخيراً عندما علّق عام 2013 بقوله: «هكذا تعلمت «التوني» شيئاً ثميناً من المدرسة المسرحية الروسية»، كما انتبه الجانب الروسي بدوره إلى الانتقادات التي طالت جوائز «التوني» في الدورة الأخيرة؛ وأنها تحولت إلى وسيلة دعاية من أجل تحقيق أرباح وجذب رعاة للعروض الفائزة، مما دفع بعض أصحاب المسارح إلى السعي بطرق غير مشروعة إلى الاستحواذ عليها، والتي تعاظمت بعد إلغاء جائزتي تصميم الصوت، وتجلت الاستفادة بتصريح وزير الثقافة والفنون الروسي وقوله: «ستظل معايير التحفيز المتعلقة بالقناع الذهبي ثابتة وراسخة وواضحة، ولن نتأثر بالضغوط».
واشتد الصراع والمنافسة الباردة بين الفريقين الروسي والأمريكي، وخاصة بعدما أصبحت جوائز القناع الذهبي منافساً لا يستهان به أمام «التوني»؛ برغم الفارق التاريخي بينهما الذي يعوضه ما لدى المسرح الروسي من تاريخ لم ينفصل عنه، وأسهم هذا في تطوير هيكلي عندما شكلوا لجنتي خبراء، إضافة إلى هيئة محلفين لهم دورهم في المراحل الثلاث التي تمر بها «القناع الذهبي»، وصولاً إلى اختيار الأفضل ومن يستحقها، ولجنة منفصلة لمتابعة العملية ومراجعة وتدوين الملاحظات لتلافيها عاماً بعد الآخر، كما استحدثت عام 2000 لجنة عامة تقوم بزيارات متعددة سنوياً لأكثر من ثلاثين مدينة ومسارحها وروابطها المستقلة؛ ومتابعة المهرجانات الإقليمية وما تتضمنه من ندوات ولقاءات مع مبدعين، كما عملت لجنة القناع الذهبي على وضع وسائل الإعلام في بؤرة العمل المسرحي عندما تقدمت بمشروع «القناع الذهبي المتكامل» عام 2014 عن فكرة للصحفي فيليب ماريا بيلين.

الحجب لتصحيح المسار
بعد عشر سنوات من التأسيس؛ قام «القناع الذهبي» بخطوة صعبة قلّما تقوم بها إحدى الجوائز الكبرى، ففي عام 2004، حجبت اللجنة بعض الجوائز في عدد من الفئات، إضافة إلى جميع جوائز العروض الغنائية والأوبريتات، وقوبل ذلك باستهجان شديد في بداية الأمر، لكن بمزيد من التحليل من قبل عدد من النقاد، تبين لهم أهمية هذا الحجب الذي كان بمنزلة إشارة إلى حاجة هذه النوعية إلى رؤية مختلفة، ومزج حقيقي بين تراثها الفكري والتصميمات المبتكرة المعبرة. 
وما إن عادت هذه الجوائز عام 2006 حتى حجبت جائزة أفضل ممثل في فئة عروض الأوبرا، فكان نتاج ذلك استحداث أقسام تمثيل لهذه النوعية في نحو عشر أكاديميات فنية، واستمرت حالات الحجب المثمرة، ومنها أفضل إخراج لعروض الدمى عام 2007، وأفضل تمثيل ذكور وإناث في المجال نفسه عام 2008، وظلوا يتبعون هذا النهج بإصرار خلف عروض الدمى حتى عام 2011 الذي حجبت فيه جائزة الإخراج مجدداً، ليعقد المؤتمر الأول لمسارح وفرق الدمى الذي وضع خطة للتطوير، لينتقل القناع الذهبي لحجب جوائز عروض الأوبريت عام 2012 ومعها يُستحدث منتدى خاص بهذا النوع من فنون المسرح لتصحيح المسار، وبرغم التحسن الذي تحقق في هذه المجالات، فإنهم لم يقبلوا التهاون، لهذا حجبوا جائزة أفضل تصميم موسيقي لعروض الأوبريت عام 2015، وشهد هذا العام إطلاق مفهوم «الصورة البصرية في المسرح»، وناقشت ندوات عديدة كيفية تطبيق ذلك دون التأثير على المضمون الفكري والفلسفي للعروض.
وعلى الرغم مما أثارته فكرة حجب الجوائز من جدل، فإن من انتقدها أقر بآثارها وانعكاساتها الإيجابية على المدى الطويل؛ في ظل إرساء قواعد المنافسة الشريفة بين الفنون، وخاصة عندما ساندت الدولة هناك ذلك بحرمان المجالات التي تحجب بعض أو كل جوائزها من التمثيل الدولي، ولكنها في الوقت ذاته تدعم المؤتمرات والورشات التي تعمل على تقويمها وتطويرها، ليصبح حجب الجوائز بمنزلة بداية التصحيح.
ومن خلف الستائر المغلقة وإرهاصاتها، بدا اهتمام لجنة «التوني» وأعضائها بفكرة حجب الجوائز، والتوجه نحوها بتمهيد أوّلي تمثّل في إضافة بحث أجراه عدد من شباب أكاديمية الجناح المسرحي الأمريكي يناقش جدوى حجب الجوائز، ويتخذ من «القناع الذهبي» نموذجاً يحتذى.

هياكل وقواعد
لم تواجه «القناع الذهبي» مشكلة التمييز التي عانتها نظيرتها الأمريكية، إلا أنها بادرت لتبدو أكثر مهنية عندما أكدت، عبر أعضاء لجنتها ورئيسها، معيار أن اختيار الفائز لا يفرق بين عرق أو جنسية، طالما أن هذا العرض قدّم على مسرح روسي، ولهذا فقد تضمنت قائمة الفائزين في آخر مرة منحت فيها أكثر من 27 جنسية أوربية وغيرها من جنسيات أخرى، وكان أبرزها منح الأمريكي بيتر سيلرز جائزة أفضل مخرج في فئة العروض الأوبرالية عن عرض «الملكة الهندية»، الذي قدمه في دار أوبرا بيرم، وكذلك الاحتفاء ببعض العروض الأمريكية المميزة مثل عرض «شبح الأوبرا» بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على انطلاقه.
وأدرك آل «التوني» القصور لديهم في بناء وسير عمل قاعدة البيانات الخاصة بالجوائز واحتفالياتها وأنشطتها، برغم قدمها وعراقتها، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالأرقام والإحصاءات، وخاصة بعدما أبرزت لجنة القناع الذهبي مجدداً احتفاليتها رقمياً، وجاء فيها أن 43 مسرحاً من جميع أنحاء روسيا تضمنته القائمة النهائية للترشيحات يمثلون 150 برنامجاً مختلفاً، وأن ليالي القناع الذهبي تابعها نحو 53 ألف متفرج من داخل المسارح، بل وأضافت أيضاً أن هناك 252 مقالاً كتبت عن الفعاليات، إضافة إلى 60 منشوراً و150 برنامجاً تلفزيونياً تابعاً للمهرجان والمشاركين فيه؛ فأعلنت إدارة «التوني» في سبتمبر الماضي عن بناء تنظيمي جديد لقاعدة بياناتها، ستهتم فيه بالإحصاءات الرقمية، وستضيف إليها قدراً من التحليل والتفسير.
وفي ظل حرص المدرستين الأمريكية والروسية على تبادل الأفكار فيما بينهما ومن غيرهما أيضاً؛ تحولت أيام الاحتفالية إلى مؤتمر ومنتدى فكري وفلسفي فعلي لكل ما يتعلق بالصناعة المسرحية، يتضمن نقاشات مختلفة حول شتى القضايا، ليتحول معه مشروع «القناع الذهبي المتكامل» إلى مؤسسة ثقافية، ويصبح ملتقى «التوني» مؤتمراً فريداً لوضع استراتيجية رئيسية للمسرح لعام قادم في اتجاهات التنمية المختلفة والمتنوعة. 
وفي السنوات الخمس الأخيرة، تبادل الشرق والغرب الأفكار، فأخذ الأول من الثاني «الاعتماد على اللامركزية»، «التأثير البصري للعروض المسرحية»، «الابتكار في الرؤى التسويقية، وخاصة فيما يتعلق بالتذاكر الموسمية»، «عروض خاصة للنساء والأطفال»، وصولاً إلى فكرة «البث الحي»، بينما تلقى الثاني بشغف ما جاءه من الأول من أفكار، مثل «مناقشة مشكلات المسارح بجدية»، «رؤية تكاملية يحمي فيها الكبير الصغير»، «نظرة مختلفة للمسرح كأمن قومي للأمة التي ينتمي إليها»، «الاستعانة بالعروض التجريبية في المسارح الكبرى»، «دعم الورشات المتعددة بالأقاليم»، «قاعدة بيانات جماهيرية»، وآخرها «التفكير الجدي في التعدد اللغوي».

كنز الأقاليم
التفت الجانب الأمريكي إلى محاولات القناع الذهبي الدائمة مقاومة جذب مسرح «البولشوي» العريق وإعطاء فرص متكافئة لغيره من المسارح لاحتضان الحدث السنوي بأنشطته، وكذلك لمختلف المدن بعيداً عن موسكو التي يقطن بها البولشوي الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1776، وإن كانت هذه المقاومة تبدو صعبة لأنه يمثل دائماً رمزاً تاريخياً للثقافة والتراث والهوية الروسية، ويضيف كثيراً إلى قيمة كل حدث يحتضنه، وبرغم هذا فقد استثمرت القناع الذهبي هذه القيمة لتحقيق أهدافها، ليتحول البولشوي إلى مسرح الأمم التي تتحد لشهور عدة سنوياً عبر عقد هذه الليلة، وينافسه مسارح مثل «مالي»، «لينسوفيت»، «كارانسي»، «مركز جوجول المسرحي» وغيرها، وهذه المقاومة وفكرة الانتقال بمحل الحدث من مكان لآخر، دفعتا لجنة «التوني» هي الأخرى إلى تغيير مكان الاحتفالية والأنشطة المتعلقة بها من مسرح لآخر في السنوات الأخيرة.
وتمثلت الفكرة الأهم التي اتحد حولها الجانبان في دعم الأقاليم، بمبادرة وتحدّ من القناع الذهبي للصورة النمطية والذهنية، وإظهار قيمة هذه الأقاليم وما تمنحه لمسارح العاصمة والمدن الكبرى، مما دفعهم لتوفير مزيد من الاحتكاك استفادت منه موسكو على سبيل المثال من المواهب الفطرية المندفعة بقوة، ومنحت مسارح الأقاليم قدرات تنظيمية وقدراً جيداً من الاحترافية، وأصبحت منافساً يحظى بالترشيحات والجوائز، وهو ما جذب إليهم مصادر التمويل وحظي الشباب بالقدر الأكبر منه.
أدركت المسارح الأمريكية الكبرى، بدورها، أيضاً أهمية الأقاليم التي تضم آلاف المسارح الصغيرة، وتفرز مواهب حقيقية تمثل دائماً الأساس لدراما ناجحة وخاصة المسرحية؛ بعد الالتفات لتعاظمها كمّاً وكيفاً، حيث كان عددها 23 إقليماً عام 1961 وأصبحت 1995 في عام 2015، ومن أهم روابط هذه الأقاليم سان فرانسيسكو وشيكاغو؛ المنافس الرئيس لمسارح نيويورك.
ثم دفعهما الاهتمام بالأقاليم إلى فكرة أخرى مهيبة بالتزامن يصعب معها تمييز أيّ منهما ذهب إليها قبل الآخر، حيث استدعيا نموذجين جديرين من بعيد، أحدهما مسرح المضطهدين للبرازيلي أوجستو بوال، والثاني المدرسة البولندية للمسرح الفقير وروادها وعلى رأسهم جيرزي جروتوفسكي في مزيج هدفه إرساء علاقة تكافل بين المسارح لتشكيل نسيج متجانس ومتماسك، وأن للمسارح الصغرى حقوقاً عند الكبرى، في ظل خطط متكاملة يتم وضع خطوطها العريضة خلال ملتقى ومؤتمر كل من القناع الذهبي و«التوني»، ومعايير في مجملها أن للجميع حقوقاً وعليهم واجبات يجب القيام بها بكل دقة وأمانة، وبالتالي لا يوجد واهب أو متلقي هبة، وأن تحقيق ذلك يتطلب توافر آليات منضبطة للتقييم والتحليل، لضمان استغلال أكبر قدر من مجموع الطاقات المتاحة، ويحتاج أيضاً إلى تنظيم متعدد الطبقات المترابطة لكل منها خصائصها، حسب بيئتها وطبيعة الأجواء المحيطة، ولكنها جميعاً تعمل وفق المعايير العامة الموحدة، واستفادت أسرة «التوني» مما توصل إليه نظراؤهم في القناع الذهبي، وأضافوا إليه فكرة التعاون بين المناطق المسرحية والأقاليم القريبة جغرافيا، وهو ما انتبه إليه الجانب الروسي، فأوصى به بدوره.
واتفق الجانبان الأمريكي والروسي كذلك على الدعوة غير المقصودة إلى الفكر المناهض للعولمة التي تحاول السياسات الأمريكية فرضها بقوتها الإعلامية والعسكرية ولم تفلح، بل دفع الخوف الكثيرين نحو التشبث بتراثه، ودعت مؤتمرات «التوني» بوضوح إلى ذلك بداية من عام 2003، وتبعتها دون مواربة «القناع الذهبي» الروسية في العام التالي، ولم يكن ذلك الاقتناع مفاجئاً، وخاصة أن تأسيس هذه الجوائز جاء إعلاناً متأخراً عن السير في الدرب الأمريكي الذي جعل المحلية أرفع شأناً من الدولية مسرحياً وجوائزها مثل «التوني» الأمريكية»، «هانز رينهارت السويسرية»، «جالا الهولندية»، «نالدي الجنوب إفريقية» و«سانجيت ناتاك الهندية»، وجميعها محلية. 
وإن اعتبرت لجنة القناع الذهبي أن تلك مجرد بداية، وأنها لن تستمر على غرار نظيرتها «التوني» وغيرها، فإنها ستتحول تدريجياً من المحلية إلى الدولية، والذي بدأته بمنح عدد ملحوظ من الجوائز لفنانين أجانب، فرُشح في الدورة الأخيرة بمختلف الفئات نحو 37 فناناً أجنبياً، ونال أربعة عشر منهم جوائز؛ أي ما يقرب من النصف، كان بينهم الموسيقي اليوناني تيودور كارينتيريس، مصممة العرائس الفرنسية إيملي فالانتينو، الموسيقار الإنجليزي بول براون، مصمم الرقصات الهولندي يوهان جريبين، وغيرهم.

أشرف حرب
اتفقت جوائز الشرق والغرب – القناع الذهبي و«التوني» – ومسرحاهما في كثير من الأفكار التي يؤمن بها الناشطون المسرحيون ويطبقونها في أعمالهم، وتتجلى في إبداعاتهم، وبدا عندهم معنى المنافسة الشريفة واضحاً، وجعلتهم روح المسرح يتجاوزون أشد الخلافات والعداوات، وصولاً إلى التعاون بينها، وهو أمر يوشك أن يكون معتاداً بين المسرحيين في أكثر المناطق الملتهبة في العالم، فنجده بين الباكستانيين منهم والهنود، والإيرانيين والأمريكيين، بين أبناء الأرجنتين وجارتها البرازيل، وكذلك بين مسرحيي الكوريتين الشمالية والجنوبية، وغيرهم.
يضمن المسرح في ذروة صراعه الحد الأدنى من السلوك الإنساني، ولهذا يصبح في أسوأ صور حربه بين طرفين أو أكثر أفضل وأشرف من الحروب العسكرية التي باتت بالمستحدث من الأسلحة مرادفاً للخراب والدمار، كما تخلف هذه الحروب وراءها أطلالاً وبقايا محطمة مادية ووجدانية يصعب تعويضها، وأرض لم تعد تصلح ليعيش على بساطها أي كائن حي، ولا يتوقف الأمر عند كون هذه الحروب الباردة آمنة فقط، ولكنها ستعود على المتبارين فيها بالنفع والاستفادة الجمة، وكذلك على المجتمع البشري في الشرق والغرب، وربما يقلل ذلك من الفجوة بينهما حتى تعود الأرض مرة أخرى إلى سيرتها الأولى ككتلة جغرافية وبشرية واحدة .