البابــــور

البابــــور

سلطان المطبخ من دون منازع، «طربوشه» المُشتعل تاج على رأسه، ودليل قوته وجبروته وسطوته، و»الكبَّاس» في جانبه سيف فارس يستعد لخوض المعارك والغزوات، فاتحاً قلب المطبخ بأشهى المأكولات وألذ الأطعمة، المؤثر في يوم الغسيل الشهير، وصاحب الصوت النادر والرائحة الخالدة، صوته سيمفونية ضد الفقر والجوع والبرد القارس، والالتفاف حوله طقس كله بهجة، فهو مقدس لصنع المحشي أو قلي الأسماك ولب البطيخ، أو شواء البطاطا، أو للتدفئة في ليالي الشتاء الطويلة، تعميره وتشغيله امتحان قاسٍ لاختبار العروس الجديدة. 

إنه «بابور الجاز» حفيد «مصباح علاء الدين»، والابن الشرعي لـ «الكانون» والأب الروحي لـ«البوتاجاز»، وجوده في البيت طاقة جبَّارة وقوة لسيدة البيت، فهو صديقها الوفي الذي ترعاه ولا يمكن لها أن تتخلى عنه، وعندما يتعطل تنتابها الحيرة والقلق والبؤس أيضاً.
هكذا كان «البابور» أو «الباجور»، كما كنا نلفظها في بيتنا، وكانت أمي تملك منه ثلاثة: اثنان من الحجم الكبير وآخر بشرائط، وهو أحدث نوعاً، وكان القلق ينتابها خوفاً من عودة أبي ولم يُعد الطعام بعد، وكان هذا يغضبه ويصبح اليوم «هباب» علينا جميعاً، و»الهباب» هو اللون الأسود مثل الذي تتركه نيران «البابور» في قعر أواني الطهي.
و«البابور» من أهم القطع في جهاز العروس، وكان الزوج ينتقي الزوجة الماهرة في إعداده وإشعاله، وذلك لأن إشعاله كان يمر بمراحل ليست سهلة: أولاها تعميره بالجاز، أي أن تملأ خزَّانه بالوقود، بعدها تضع بعض قطرات من «السبيرتو» على رأسه، ثم تشعل عود ثقاب وتتركه فترة حتى يسخن، قبل أن تعطي له «نَفَسا بالكباس»، أي بعضاً من ضغط الهواء كي تضخ الجاز فيه ويبدأ الاشتعال.
ومكونات «البابور» هي الخزنة أو البدن، وهي من النحاس وتعمَّر وتملأ بالجاز (الكيروسين)، وتحملها ثلاث أرجل حديدية، تلك التي توضع عليها الطاسة، التي تحمل أواني الطهي، و«البابور» به ثلاث فتحات: الأولى لتعبئة الوقود، والثانية: المحبس، وهو لتفريغ ضغط الهواء ويستخدم لإطفائه، والثالثة: مكبس الهواء، ويستخدم لضغط الهواء داخل «البابور»، بالإضافة إلى «الفونية»، وهي التي تقوم بتوزيع الكيروسين وتجعله مستمراً في الاشتعال، و«الطربوش»، وهو الذي يسيطر على شكل النيران، والإبرة، التي تستخدم لتنظيف موزع الكيروسين وتطهيره من الشوائب.

اختراع مذهل
وكانت «إبرة البابور» من أهم القطع التي تحرص سيدة البيت على توافرها بعدد كبير، وتضعها في مكان آمن وبحرص شديد، سواء في درج المطبخ أو خزانة الأدوات.
ومن أشهر أنواع «البوابير» ماركة «بريموس»، وهي كلمة تعنى «الأول» نسبة إلى بلدة في دولة السويد، اشتهرت بأنها أول وأشهر من صنع بابور الجاز في العالم. و«البابور» اختراع مذهل منذ ما يقرب المائة عام، وكان ثورة كبرى في حينه، لكونه استخدم بدلاً من «الكانون» المعروف، نظراً لارتباطه بالمدينة لا الريف، وقد كان معقداً وسهلاً في آنٍ واحد.
ولـ «البابور» استخدامات كثيرة في البيت، فالنساء لا يستطعن الاستغناء عنه، فهو معهن في أثناء يوم الغسيل الطويل والمرهق، يضعن عليه «البستلة»، وهي عبارة عن وعاء نحاسي عميق لغلي الملابس البيضاء بالبوتاس، مضافاً إليه منظف الملابس الشهير ذو الرائحة المميزة «الرابسو»، وتقطيع الصابون إلى شرائح رقيقة لتوزيعه على كل الملابس، ثم وضع زهرة الغسيل الزرقاء الزاهية، وتستمر تلك العملية لساعات، ويتم «تعمير» البابور بالجاز كلما خفتت نيرانه.
بعدها تقوم السيدات بتسخين الماء لاستحمام أهل البيت، وكان البعض يأخذ البابور معه داخل الحمام، خاصة في فصل الشتاء، وذلك للتدفئة، وأيضا لوضع وزيادة كميات الماء في أثناء الاستحمام حتى لا تبرد.
بعد هذه العملية المهمة، يعود البابور إلى المطبخ للطهي، وكان أشهر ما يوضع عليه حلة «المحشي»، بعدها «طاسة الزيت» وهي تغلي، وقد وضعت فيها أصابع البطاطس للقلي أو الباذنجان أو السمك أو الزلابية.
أما إذا اجتمعت الأسرة فوق سطح البيت، فكان «البابور» يتوسط الجلسة، فيقومون بإعداد شاي وقت المغرب عليه، وهو وقت مخصص للسمر والحكي، بعدها توضع «طاسة» لقلي لب البطيخ أو شواء البطاطا. وفي الحقيقة، كان لطهي الطعام على «البابور» طعم ومذاق مختلف عن استخدام البوتاجاز الآن، برغم صوته المزعج لشدة نيرانه، وحتى في إعداد كوب الشاي عن الآن، وربما يعود ذلك إلى أن نيران «البابور» كانت تساعد على طهي الطعام بهدوء، بعيداً عن الاستعجال الذي نراه الآن في أدوات المطبخ العصري.
ولا أعرف السر في عشق الكثيرين للنوم على صوت «البابور»، هل لشعورهم بالدفء، أم بسبب ضجيجه الذي يشعرهم بالحياة وحميميتها ودفئها، فينامون مستريحي البال؟ 
وربما يكون السبب في ذلك أنه يجلب لهم الإحساس بالأمان و«الونس» (الأُنس) والدفء، أو وربما يكون صوته مخدراً للأعصاب فينامون. 
«أصلّح بوابير الجاز... أصلّح الفونية»، جملة كانت تملأ أسماعنا بالبهجة والشجن، يطلقها «السمكري»، وهي مهنته، وهو رجل يمر بدراجته أو على قدميه في الشارع، وقد وضع عليها «عِدّة» ليُصلح «البابور»، وكانت نساء الحي يتركن لديه «البابور» ويجلس في أحد أركان الشارع أو الحارة، ليصلح ويلحّم ويسلّك لهن «البابور»، وقد اندثرت أيضاً تلك المهنة الآن، نظرًا إلى التطور وانتشار «البوتاجاز» وخلافه.
ومن أشهر المهن التي استخدمت «البابور» بعيدًا عن المنزل مهنة «المكوجي» في دكانه، حيث يضع على «البابور» المكواة الحديدية الثقيلة، وعندما تسخن بشدة يكوي الملابس بها.

مسميات مختلفة
وتختلف مسميات «البابور» باختلاف البلدان العربية، ففي مصر يقولون «بابور أو باجور»، وفي بلاد المغرب العربي والشام يطلق عليه «الباخرة»، بينما في اليمن يسمى «السيارة».
ونحن في مصر دائماً نطلق عليه اسم «الباجور» وليس «البابور»، حيث يقوم كثيرون  بتعطيش الباء جيماً، فيقولون «الباجور»، لذا نجد «باجور الزلط»، وهو الذي يقوم بتسوية وهرس أسفلت الشارع، و«باجور السكة الحديد»، أي القطار، و«الباجور» وهي مدينة بمحافظة المنوفية في دلتا مصر، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى التسمية التاريخية بيجور، ومن أشهر أبنائها الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الجامع الأزهر في الفترة من 1847 إلى 1860.
ومن أشهر الأقوال التي كان «البابور» سبباً في انتشارها: «الدنيا فونية والزمن كبّاس»، أي إن الدنيا مثل «فونية البابور» أحياناً سالكة وأخرى مسدودة، وتحتاج كل فترة إلى نفَس جديد أو تحايُل عليها بالضغط بالكباس كي تستمر في السير، وكان يقال: «رجل صوته عال مثل البابور»، أي صوته مزعج، ويقال: «رجل لا يوجد لديه جاز، أو انتهى جازه»، وذلك لمن لا يشغّل عقله. وقد استخدم «بابور الجاز» في عديد من الأعمال السينمائية، خاصة عندما تختنق البطلة نتيجة أحد مواقفها الحياتية البائسة، وتقوم بإفراغ جازه على جسدها وإشعال النار في نفسها، وكان هذا المشهد دائماً يؤلمني، إلا أن أشهر الشخصيات التي حصلت على شهرة واسعة شخصية «حسن وابور الجاز»، والتي جسدها الفنان الراحل نجيب الريحاني من خلال فيلمه الشهير «لعبة الست».
وكذلك أغنية الموسيقار محمد عبدالوهاب الشهيرة: «يا وابور قولي رايح على فين»، من كلمات الشاعر أحمد رامي، و«البابور» هنا يعني القطار البخاري وليس «البابور» المنزلي.
وسيظل عقلي الصغير يتذكر أن منطقتنا العربية هي بابور بدن العالم، لأنها ترقد على ثلثي بتروله، ولا أعرف السر في انطفاء شعلة لهيب «البابور العربي» الآن، فربما يحتاج إلى «نفَس»، أي «ضغط وحماس جديد وقوي بكباس الشعوب العربية»، التي تبحث عن التطور والظهور على سطح الأرض، وربما تكون «فونية» الوطن العربي مسدودة وتحتاج إلى «إبرة» كي تسلّك طريقة لخروج هذا المارد مشتعلاً من باطن الأرض، ومفجراً كل الطاقات .

* البابور موقد يعمل على «الكيروسين» الذي يُطلق عليه عامة الناس اسم «الجاز».