الاجتهاد في الإسلام محمد عمارة
الاجتهاد في الإسلام
ما أشد حاجتنا إلى الاجتهاد في ذلك الزمن الذي نعيش فيه، زمن دائم التغيير، متلاحق التطور، يمتزج فيه الخاص بالعام والمطلق بالمحدد بحيث أصبح الاجتهاد فيه ضرورة دينية واجبة. الاجتهاد - كالجهاد - من جهد - وهو - لغة: استفراغ الوسع في تحصيل أمر مستلزم للكلفة والمشقة. واستفراغ الوسع معناه: بذل تمام الطاقة، بحيث يحس المجتهد من نفسه العجز عن المزيد عليه. وهو، في اصطلاح الأصوليين - علماء أصول الفقه -: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. فالمجتهد هو الذي تكون لديه ملكة الاقتدار على استنباط الفروع من الأصول. والأسباب التي تمكن المجتهد من الاجتهاد - في العلوم الشرعية، وكذلك في العلوم العقلية - كثيرة، تفاوت تعدادها لدى بعض العلماء، لكن يجمعها سببان أو شرطان:
هذا في الشرعيات، والحلال والحرام. أما في العقليات، فالسببان هما:
أما تفصيل شروط المجتهد، كما حددها علماء الأصول فهي :
ولقد تبدو هذه الشروط عزيزة الوجود والتحقق والاجتماع في العالم الفرد، في عصر التخصصات الدقيقة والجزئية للعلوم الذي نعيش فيه، لكن تطور أدوات ووسائل الطباعة والتوثيق والفهرسة والتخزين للمعلومات قد يسهل أمور الاجتهاد وييسر اجتماع شروطه لعلماء اليوم أكثر مما كان ذلك ميسورا قبل هذا التطور في سبل البحث العلمي ووسائله. ودواعي الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، التي جعلته ضرورة من ضروراتها وقانونا وسنة من قوانينها وسننها، كثيرة، منها:
الاجتهاد في القرآن والسنة النبوية أما الأدلة على شرعية الاجتهاد من الكتاب والسنة، فإنها كثيرة.
الأمر الذي يجعل رصيد الاجتهاد في القرآن الكريم رصيدا ضخما وغنيا، ففيما يقرب من الثلاثمائة آية يأتي الحديث الذي يحث على الاجتهاد ويزكيه. أما السنة النبوية، فإن مأثوراتها التى تزكي الاجتهاد وتحض عليه، صراحة أو ضمنا، هي الأخرى كثيرة، حتى لتستعصي على الحصر الدقيق. فالرسول، صلى الله عليه وسلم، يدعو إلى الاجتهاد في فهم آيات القرآن، اجتهادا يصل بنا إلى ما وراء ظواهر النصوص: أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين و من أراد العلم فليثور القرآن؟!. وإذا دعا لحبر الأمة- ابن عباس- قال: اللهم فقهه في الدين رواه مسلم والإمام أحمد، لأن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.. رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والدارمي والإمام أحمد. وهو عندما يسأل مبعوثه وقاضيه، إلى اليمن، معاذ بن جبل: - بم تقضي؟ فيجيبه: بكتاب الله، يعاود سؤاله: - فإن لم تجد في كتاب الله؟ فيجيبه: - أقضي بما قضى به رسول الله. فيعاود سؤاله:- فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟ فيجيبه :- أجتهد رأيي. وعند ذلك يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: - الحمد لله الذي وفق رسول رسوله. رواه أبو داود والدارمي والترمذي والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد.بل إنه ليشجع على الاجتهاد، حتى ليحدثنا عن أن المجتهد مأجور على مطلق الاجتهاد، حتى ولو لم يصادف اجتهاده الصواب، "من اجتهد برأيه فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد،- رواه البخاري والنسائي وابن ماجة والإمام أحمد. الاجتهاد فرض والاجتهاد قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مندوبا، وذلك وفق مقام الاجتهاد والحاجة إليه والحكم الذي يستنبطه المجتهد بالاجتهاد، وتعلق هذا الحكم بذات المجتهد أو بالآخرين. وميدانه: ماليس معلوما من الدين بالضرورة، مما اتفقت عليه الأمة من الشرع الجلي الذي ثبت بالنصوص قطعية الدلالة والثبوت. أما مراتب
المجتهدين فإنها ثلاث: ذبول الإبداع في العقل الإسلامي لكن الذي حدث للاجتهاد، عبر مسيرتنا الحضارية، أن ميادين من إبداع العقل الإسلامي في الفكر الإسلامي قد أصابها الجدب، فأصيبت ثمراتها بالذبول. فمنذ الانقلاب الأموي على فلسفة الشورى ضمرت إبداعات الأمة واجتهاداتها في الفقه الدستوري، والفكر السياسي الذي يحدد أطر وضوابط علاقة الحاكم بالمحكوم، على حين نمت وازدهرت إبداعات الفكر واجتهاداته في الميادين الأخرى. فلما طال الأمر بالخطر الخارجي، تتريا وصليبيا، وطال الأمد بدول العسكر المماليك، التي مثلت فروسية العصر اللازمة للدفاع عن وجود الأمة والحضارة إزاء هذا الخطر الخارجي، وجلب المماليك شرائع مواطنهم الأصلية "ياسة" جنكيز خان (562 - 624 ه 1167 - 1227 م) فجعلوها قانون العسكر - أي الطبقة الحاكمة - والدواوين السلطانية - أي دوائر الدولة - تراجعت مكانة "فقه المعاملات " الإسلامي، فذبل، ثم توقف الإبداع والاجتهاد فيه، وهذا هو الذي أدى إلى ما يسميه البعض إغلاق باب الاجتهاد!، حتى جاء عصرنا الحديث ولدينا ثراء وغنى في "فقه العبادات" والشعائر الدينية، يصاحبه فقر شديد في "فقه المعاملات" و "الفكر السياسى" اللازم لمواكبة الواقع الجديد والمستحدثات من الآمور، الأمر الذي يبرز حاجتنا الماسة إلى تنشيط الاجتهاد في "فقه الواقع" - السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي- ليتسنى لأصول شريعتنا إتمام الفروع التي تظلل وتحكم وتصبغ بالإسلام هذا الواقع الجديد. وربما، مع تعقد شئون الواقع الجديد، وتشعب علوم الشريعة والحضارة إلى تخصصات كثيرة ودقيقة، كانت الحاجة إلى "الاجتهاد الجماعي"، كشكل أنسب للعصر الذي نعيش فيه.
|
|