«في صحبة فاروق شوشة»

 «في صحبة فاروق شوشة»

رحلتَ فجأة عن عالمنا، لم نركَ تشكو أو تتألم، بل كنت صامداً حتى آخر وقت. لذا كان الفراق مفاجئاً وفاجعاً. إن صدى صوتك لايزال يتردد في أنحاء كثيرة من العالم، ومنها «اليونسكو» في باريس عندما ألقيت قصائد لأحمد شوقي هناك في عام 2006، بعدها قلت لك إن أحمد شوقي لو سمعك لجعلك تلقي كل قصائده بتلك الروعة، فقد صفق الفرنسيون لروعة إلقائك، رغم أن معظمهم لم يفهم معنى الكلمات. سألتني: ألن نسمع صوت الإسكندرية الشعري هنا في «اليونسكو»؟، وقلت لك إنني حاضر  كإعلامي ولم أُدعَ كشاعر. رسائلك التي كنت ترد بها على رسائلي لك عندما كنت أعمل في الرياض تمثّل لي ثروة أدبية ومعنوية.

في مقدمة كتابه عن الشاعر الكبير الراحل، والذي قدم له الكاتب الكبير محمد جبريل تحت عنوان «في صحبة فاروق شوشة» يقول الشاعر أحمد فضل شبلول، أستطيع أن أعوض بعض غيابك عني، مع أنك لم تغِبْ ولن تغيب، فأعمالك وقصائدك وبرامجك وكتاباتك وأحاديثك وثقافتك ونبلك كلها لن تغيب عنا ولا عن الأجيال القادمة.

تجليات الواقع في صورة شعرية
يعد فاروق شوشة من أبرز شعراء الجيل الثاني بعد جيل الرواد، هذا الجيل الذي حمل راية الشعر التفعيلي بصدق وإخلاص، نذكر منهم أمل دنقل وأحمد سويلم ومحمد إبراهيم أبوسنة.
بدأت الرحلة الشعرية لفاروق شوشة عام 1966 عندما نشر ديوانه الأول «إلى مسافرة»، تلاه بعد ذلك «العيون المحترقة» (1972)، «لؤلؤة في القلب» (1973)، «في انتظار ما لا يجيء» (1980)، ثم «الدائرة المحكمة» (1983)، إلى جانب العديد من الدراسات والقراءات الشعرية المهمة والمؤثرة.
 وعن ديوان «الدائرة المُحكمة»، قال شوشة في حوار نشر بجريدة الأهرام بتاريخ 20/1/1983 إنه يقصد بها دائرة الحصار التي تحكم قبضتها على كل شيء مختلف، عندما تلتفت من حولك فتجد الأشجار عارية من الخضرة والأصوات مكسوة بالقبح والوجوه كليلة وعاجزة، كما قال في الحوار نفسه إن هذا الديوان يعد أكثر محاولة جدية في الاقتراب من التعبير الشعري المكثف البعيد عن الثرثرة.
يضم الديوان اثنتي عشرة قصيدة تنتمي إلى ستة بحور شعرية كانت النسبة الغالبة فيها إلى «بحر المتقارب»، حيث توجد خمس قصائد من هذا البحر، وهي «الليل وحبة الضوء» و«الدائرة المحكمة»، و«في حمى رامتان»، وقد كتبت في ذكرى د. طه حسين، و«الرحلة اكتملت»، وكتبت في وداع الشاعر صلاح عبدالصبور، وقصيدة «صورة»، أما الرجز فكان نصيبه ثلاث قصائد «لا مفر»، «لأنك الوطن»، «عندما يغلبنا الأسى»، ولكل من المتدارك والرّمَل والكامل والسريع قصيدة واحدة. وبصفة عامة فإن شعر فاروق شوشة، وخاصة في هذا الديوان، يتسم بالرؤية الواضحة والتمكن من الأدوات الشعرية، إلى جانب السهولة في التعبير والعذوبة في الغناء.

16 ألف حلقة من «لغتنا الجميلة»
اشتهر فاروق شوشة من خلال برنامجه الإذاعي اليومي الجميل «لغتنا الجميلة»، الذي ظل يقدمه لسنوات طويلة، وبالتحديد منذ عام 1967، وفيه يقرأ بصوته الرائع قصائد لكبار الشعراء العرب، ويتحدث عنها وعن جمال اللغة العربية وألفاظها وتراكيبها، والجميل في هذا البرنامج اليومي، الذي وصل عدد حلقاته إلى 16 ألفاً، أن الشاعر فاروق يستعين في مقدمته ببيت شعري بصوت الإذاعية صفية المهندس لشاعر النيل حافظ إبراهيم عن اللغة العربية يقول فيه:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن 
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟ 
هذا البيت الذي يشبه فيه حافظ إبراهيم اللغة العربية بالبحر العميق الذي يسكن في داخله الجواهر واللآلئ، وليس «لغتنا الجميلة» فقط هو ما قدمه شوشة من برامج عبر وسائل الإعلام، فقد قدّم أيضاً برنامجاً تلفزيونياً ثقافياً هو «أمسية ثقافية» منذ عام 1977، وكان يقدم برنامجاً إذاعياً آخر بعنوان «كلمات على الطريق»، يقدم فيه الأصوات الشعرية الجديدة، إضافة إلى كتاباته الأدبية الأسبوعية والشهرية في عدد من المجلات والصحف، مثل جريدة الأهرام ومجلة العربي التي كان يكتب بها باباً شهرياً يحمل عنوان «جمال العربية».

حبيبة والماء
اتجه شوشة إلى الكتابة للأطفال عندما أصبح جداً، فكتب لأحفاده شعراً جميلاً، إذ كتب لحفيدته حبيبة ديوان شعر بعنوان «حبيبة والقمر»، وكتب لحفيدته ملك ديوان شعر «ملك تبدأ خطوتها»، ثم كتب «الطائر الصغير» و«الأمير الباسم»، ومن ديوان «حبيبة والقمر» هناك قصيدة بعنوان «حبيبة والماء»، يقول فيها:
حبيبة الجميلة 
تود لو تكون مثل سمكة 
تعيش طول عمرها في الماء 
مزهوة بعرشها الجميل 
حين تطفو بأنها مبتلة 
وأن وجهها الصغير 
يلامس الموج الوثير 
والصغير مثلها 
وأن كفيها الصغيرتين 
تربتان وجه الماء في شقاوة وفي انفعال وتقذفان بالرمال
حبيبة الجميلة تركب طوقاً عائماً يأخذه التيار في كل اتجاه 
وحين يبعد المدى ويوشك الوجه الجميل أن يغيب لحظة عن العيون 
يندفع الكبار لكي يعيدوا الطوق مسرعين 
أقرب ما يكون إلى حمى الشط الأمين.

 الشعر أولاً والشعر أخيراً 
يمثل هذا الكتاب للشاعر فاروق شوشة دعوة إلى القراءة وحثاً على إحياء بعض قيم الزمن الجميل الذي كانت فيه الكتابة الأدبية والنقدية تعبيراً عن محبة الكاتب والكتابة الأدبية في نظر شوشة لابد أن تصدر عن محبة ووعي حقيقي بأهمية هذه المحبة في اختيار الموضوع وتحديد زاوية النظر إليه ومنهج التعامل معه، وهذه الدعوة تكشف تعامل شوشة مع الشعراء والكتاب والقصائد والموضوعات التي اختارها للنشر في كتابه «الشعر أولاً والشعر أخيراً»، الذي انتقى موضوعاته من مقالاته الأسبوعية التي كان ينشرها في «الأهرام» احتفاءً بالمشهد الشعري في الوطن العربي، وقد اتسعت الدائرة لتطل على الشعر الأرمني والروسي والتركي والصيني. اهتم شوشة بالشعراء القدامى أمثال المتنبي وأبومظفر محمد بن أحمد الأبيوردي الأموي، الذي عاصر استيلاء الفرنجة على بيت المقدس سنة 492 هجرية، والملك الشاعر المعتمد بن عبّاد ملك إشبيلية.
عدا ذلك حلّق شوشة في آفاق الشعر المعاصر، فكتب عن أمل دنقل وفدوى طوقان وجوزيف حرب ومحمود درويش وسعيد عقل وسليمان العيسى وأحمد مشاري العدواني؛ الذي يمثل مع رفيقيه عبدالعزيز حسين وحمد الرجيب ثلاثي النهضة والتقدم في المشروع الثقافي الكويتي المعاصر، والشاعر العماني سيف الرحبي، وعبدالعزيز المقالح، ويخرج من العالم العربي محلقاً في شرق العالم، فيكتب مقالات عدة، مؤكداً أهمية الاتجاه شرقاً والخروج من سيطرة ما هو أوربي أو غربي، ثم العودة إلى مصر ووقفة مع شعر العامية من خلال عبدالرحمن الأبنودي.

آخر حواراتي مع فاروق 
شغل فاروق شوشة العديد من المواقع القيادية، فكان رئيساً للإذاعة المصرية، كما كان رئيساً لاتحاد كتّاب مصر من 1999 - 2001 وعضوا بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضو مجلس أمناء مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بالكويت، وشغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين) بالقاهرة، وطوال حياته الوظيفية لم يتخلّ عن الشعر في أعماله، فيقول في حواره: الشعر بالنسبة إليّ شعار حياة، يمثل مركز الدائرة في كل ما أمارسه، وتبقى الهوامش الأخرى مهما كانت أهميتها مجرد هوامش.
 وعن غياب المسرحية الشعرية من المسرح الآن يقول: أصبحت القصيدة المفردة تقوم بدور المسرحية الشعرية في الحشد والتجسيد وتعدد الأصوات ومساحة الوعي والأفكار الأساسية.
 أما عن قرارات المجمع بخصوص اللغة العربية، وأنها غير ملزمة لكثير من الجهات الرسمية، فيوضح أن المجمع بدأ التحرك في اتجاه إلزام الجهات الرسمية وغير الرسمية بقراراته، وأن الأمر كان معروضاً للمناقشة في مجلس الشعب. وعن العلاقة بين مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجامع اللغة العربية في بعض الأقطار العربية، قال فاروق إن العلاقة قائمة وفاعلة، ولدينا في القاهرة مؤتمر سنوي ينص عليه قانون المجمع نعرض فيه أبحاثنا وقراراتنا على سائر المجامع عندما يحضر ممثلوها.
 وعن دور المسابقات في تنشيط الحركة الشعرية واكتشاف شعراء جدد، أكد أن الشعر موجود ولا يحتاج إلى جوائز مهما كانت للاعتراف بقيمته.
رأيه في الشهرة 
يرى شوشة أن الشهرة مدغدغة للطموح هادمة للخصوصية والحرية الشخصية.
نار الصحافة
من ناحية أخرى يرى شوشة في مقولة إن الصحافة تؤثر في إبداع الأديب أو تقتله أمراً منافياً للحقيقة، بل هي تزيد من معلوماته وتفتح مداركه لأشياء لم يكن يصل إليها من خلال الأدب فقط، والشواهد على ذلك كثيرة تمثّلها المعارك الأدبية التي اتخذت مكاناً لها على صفحات الجرائد والمجلات، والتي استطاعت بفضل نشرها بصورة متتالية أن تنقل الصراع الدائر حول القضايا التي تهم القارئ مثل القديم والجديد والأصالة والمعاصرة والإبداع والعولمة. 
قصيدة النثر
 يبدو شوشة أكثر تحفظاً بشأن القصيدة المعروفة باسم «قصيدة النثر»، ويرى أنها مولود طبيعي لشعر التفعيلة، لكنه تخلى عن الموسيقى والكلام.

مسابقة وجائزة أمير الشعراء
ويؤكد شوشة أن وجود جوائز للشعر عمل عظيم لا شك في ذلك، والذي يستوقف الاهتمام هو أن تحمل الجائزة مسمى «أمير الشعراء»، وأن يفوز بها شاعر شاب عن قصيدة واحدة، ويرى أنه لا قصيدة واحدة ولا عشرات القصائد تصنع أميراً للشعراء، هذا اللقب ارتبط بظرف تاريخي معيّن وبشاعر معيّن، ولم يعد قابلاً للتكرار.
يضم الكتاب أيضاً مجموعة من الموضوعات، منها فاروق شوشة يقتحم أصواتنا الشعرية، فاروق شوشة في السبعين، فاروق شوشة... سئمنا الكلام عن الحداثة، فاروق شوشة... إننا نستقبل إبداع المرأة استقبالاً غير أدبي، فاروق شوشة... كلنا في مأتم الرومانتيكية .