«أغنية هادئة»... إنسانوية في ثوب مرعب

«أغنية هادئة»...  إنسانوية في ثوب مرعب

منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفي سياق مرحلة أوج الثورة الصناعية، ومروراً  بالحربين العالميتين، ووصولاً  إلى لحظة «انشباكية العوالم المعاصرة»، عرفت المجتمعات الأوربية بخاصة تحولات سوسيو/ اقتصادية كبرى، أسهمت في إعادة تعريف «مؤسسة الأسرة»، وفي إعادة تحديد مفهوم «التربية التقليدية»، من خلال تزايد حدة التعارضات البنيوية بين «النجاح المهني» لكلا الجنسين و«النجاح الأسري». الأمر  الذي أسهم في انتشار «مهن المربيات»، بوصفها «مهناً نسوية» من جهة، وأنها مهن لم تعد حكراً على الطبقات الاجتماعية العليا من جهة أخرى. كل هذه المتغيرات جعلت هذه الفئة المهنية/ التربوية فاعلاً أساساً في إنتاج المقولات التربوية في عالم اليوم.

دفعت هذه التحولات، التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، الكاتبة المغربية الشابة ليلى سليماني إلى النبش في المعيش اليومي للمربيات الفرنسيات في سياق تفاعلهن مع مجتمع وثقافة متحولة وأكثر «سلعنة» و«سوقنة» للقيم والمعايير الإنسانية، ورابطة بين النجاح المهني والرضا عن الذات والعالم، من خلال روايتها الثانية / الساحرة «أغنية هادئة» 2016، الصادرة عن دار «غاليمار» الفرنسية العريقة. 
وعلى الرغم من انقسام الرأي العام الفرنسي بخصوص فوز ليلى سليماني بجائزة «غونكور (2016)، و«أحقيتها» بالتتويج بإحدى أعرق الجوائز الفرنسية فيما يتعلق بالأدب الفرانكفوني، نظراً لحداثة سنها الافتراضي (35 سنة)، والأدبي (تعد رواية «أغنية هادئة» روايتها الثانية بعد رواية «في حديقة الغول» 2014، إضافة إلى كونها ليست فرنسية المنشأ– في سياق عودة «أزمة الهوية والانتماء» داخل المجتمع الفرنسي بعد السنتين الأخيرتين - فإن الكل يتفق على كون الأمر يتعلق برواية وروائية استثنائيتين.    
بهذا تكون ليلى سليماني أول روائية عربية– والمرأة رقم 12 خلال 112 سنة - تفوز بهذه الجائزة العريقة، وثاني مغربية بعد الروائي الكبير الطاهر بن جلون عن روايته «ليلة القدر» (1987)، وثالث عربية بعد الروائي اللبناني أمين معلوف (عن روايته «صخرة طانيوس» سنة 1993).    
لا تكمن القيمة الأدبية لجائزة الغونكور في التعويض المادي (الذي لا يتجاوز 10 آلاف يورو)، ولا حتى في القيمة التسويقية للرواية وللناشر (يمكن أن تتجاوز مبيعات الروايات الحاصلة على جائزة الغونكور 300-400 ألف نسخة)، بل في تشجيعها للأدب الفرانكفوني والدفع به نحو العالمية، وهو ما يتيح فرصة ذهبية للروائيات الناطقات بالفرنسية من أجل معانقة العالمية، إضافة إلى انفتاحها على جيل الشباب لوضع خطوة في مسارهم الأدبي نحو «المجد» و«الخلود» (كما حدث مع السليماني). 
«توفي الرضيع. لم يستغرق موته سوى بضع ثوانٍ. وأكد الطبيب أنه لم يتألم»... بهذه العبارة تم تداول الرواية بين المواقع الأدبية والمجلات الثقافية بعد إعلان فوز الروائية بالجائزة، وكأن الأمر يتعلق برواية تسير في اتجاه إحياء «كلاسيكيات» أجاثا كريستي، وتندرج ضمن فئة «الأدب البوليسي» أو «أدب الرعب». 

نقطة قوة
لكن القارئ «سيصدم» بتداخل الأحداث والأزمة الــــسرديـــة، وتـــــرابـــط الشخـصيات وانصهارها في عمق البؤس الاجتماعي والاقتصادي، و«سينجر» نحو البحث بمفرده عن طبيعة الشروط السردية المحددة لسير الحبكة الروائية، وتلك نقطة قوة الكاريزما الروائية لليلى سليماني: لم نعد نتحدث عن القاعدة السردية الكلاسيكية (حدث، عقدة، حل)، بل عن تداخل وانشباكية سردية تدفع القارئ نحو المشاركة في إنتاج الخطاب السردي، بشكل يتحول بموجبه من مجرد مستهلك لسردية - أدبية ليصبح مقحماً بذاته ومعيشه في النسق العام لأحداث الرواية، وبالتالي يتحول الأدب من مجرد سرد محايث للمعيش أو مفارق له إلى «مساعد في العيش».
في حقيقة الأمر، لا يمكن فهم هذه الاختيارات السردية للروائية، التي جعلت روايتها تتمايز عن بقية السرديات في سياق العودة القوية للرواية في الحقل الثقافي العالمي، دون فهم طبيعة التكوين العلمي والأدبي لليلى سليماني: صحيح أن الروائية قد اقتحمت عالم الأدب من خلفية صحفية (اشتغلت بصحيفة «جون أفريك» قبل تفرغها للكتابة) وسياسية (حاصلة على دبلوم من معهد العلوم السياسية في باريس)، إلا أنها قارئة عاشقة ونهمة للأدب الروسي (ديستوفسكي)، والتشيكي (ميلان كونديرا)، الأمر الذي يفسر تركيزها على التحليل النفسي الاجتماعي لشخوص روايتها، واهتمامها بالتفاصيل وكل ما يحمل صفة «اللامفكر فيه» أدبياً، وإبرازها لعبثية المعيش والحياة في عالم يزداد توحشاً وانعزالية. كل ذلك في قالب سلس يجذب القارئ (نفسياً) أكثر مما يصدمه (درامياً)، ويجعل من «التفاصيل» سنداً قوياً للكشف عن مكونات ودافع «سوء» النفس الإنسانية.

فيزياء جديدة
أضحى انفتاح الأدب على المعيش خياراً أنطولوجياً في ظل استمرار مسلسل اللامساواة واللاتكافؤ العالميين، وبحثاً عن «فيزياء» جديدة للرواية/القصة / الشعر لمواجهة الحياة والواقع. إن ما يدفع القارئ إلى قراءة الرواية والإدمان عليها - في فرنسا، تتجاوز مبيعات الروايات مبيعات كتب العلوم الاجتماعية والإنسانية - هو البحث عن ذاته، وحميميته، أذواقه، واستلهاماته، ومخاوفه... في الحقيقة، نجحت «أغنية هادئة» في استرعاء انتباه القارئ من خلال بعدين اثنين:
 أولاً: كيف يمكن للمعيش اليومي والاعتيادي أن يتحول إلى رعب دموي، وهي بذلك تسمو بالسرد نحو الكشف عن مكنونات النفس البشرية بشكل تصبح معه مقولات الخير/ الشر، والحب/ الكراهية مجرد أقنعة «سردية» لاستنطاق التناقضات التي تخالج الذات الإنسانية.
 ثانياً: يمكن للعبث والعبثية الوجودية إعادة إنتاج اليومي والمعيش في قالب أكثر حدة وعمقاً، بالشكل الذي يجعل السرد منفتحاً على المستقبل وغير محدد بالاستراتيجيات السردية التقليدية. 
ولعل خاتمة الرواية «تعالوا يا أطفال للاستحمام» (على لسان الشخصية الرئيسة لويز)، تجعلنا نعيد التفكير في ترسيماتنا التقليدية لمقولات الشر والخير في الحياة المعيشة.

تمازج سحري
ولابد من الإشارة إلى أن التمازج السحري للسرد التخييلي والسرد الواقعي في ثنايا الراوية، أو بلغة أخرى إضفاء الطابع التخييلي على أحداث واقعية وإلباسها ثوب الذاتية، راجع إلى مجموعة من الأسباب: 
أولاً: استثمار الروائية لتجربتها الشخصية المزدوجة، إذ إنها حظيت في طفولتها بعديد من المربيات، نظراً للظروف المهنية لأسرتها، وأعادت إنتاج الصورة نفسها مع طفلها «إميل»، الذي عهدت به إلى إحدى المربيات في سياق الحفاظ على التزاماتها المهنية والأدبية. 
ثانياً: لقد استلهمت الكاتبة فكرة كتابة الرواية من خبر صحفي قرأته حول إقدام مربية بورتريكية على قتل طفلي مشغليها بنيويورك دون وجود أي دافع مباشر إلى ذلك. كل هذا جعل من الرواية «تحليلاً نفسياً» عميقاً لواقع سوسيومهني جديد فرض على الأسر النووية اليوم الاستعانة بخدمات المربيات من أجل إعطاء فرصة للزوجين من أجل البحث عن النجاح المهني، واستقدام طرف جديد إلى «المعادلة الأسرية» كان حكراً على الطبقات العليا، وبالتالي فإنهـــــا توجه نقداً لاذعاً لهذا الشرخ والانقــــسام الذي أضحــــت تعرفـــــه الأسر اليوم وتفضيل النجاح المهني على الأسري، والعهد بهذا الأخير لطرف «مجهول الوجدان».
بين «ستيفاني» و«روز غرينبرغ» و«جاك» و«هيكتور روفيي» و«بول» و«مريم» و«لويز» (شخوص الرواية) اختلافات وتناقضات اجتماعية وطبقية وثقافية عميقة، لكن يجمع بينهم شيء واحد ووحيد هو «البؤس» بمختلف أنواعه وأصنافه (بؤس الحياة، بؤس الوجدان، بؤس الذات، بؤس المعيش، وبؤس المستقبل...). هذا البؤس في الواقع، مرتبط في جوهره بالتحولات الاجتماعية والثقافية التي يعرفها المجتمع الفرنسي في سياق «مجتمع ما بعد التصنيع»، وانعكاسها على تمثل الذات والواقع الآخر، والمستقبل. 
قد لا نجازف إذا اعتبرنا أن الانفتاح على بؤس الحياة، في ثوب سلس ومرعب في الآن نفسه، يعبر عن «فلسفة وجودية» للرواية مستقاة من تأثر الروائية بالفلسفية النفسية العميقة للروائي الروسي «فيودور دوستويفسكي»، وهي التي صرحت في كثير من حواراتها عن اكتشافها المتأخر والعميق له.   
بسلاسة لغتها، وعمق ورعب معانيها، تضع ليلى سليماني أولى خطواتها نحو «الخلود»، نظراً لحداثة سنها وفرادة أسلوبها الأدبي، على خطى «الطاهر بن جلون» و«آسية جبار»، و«ياسمنا خضرا»... وهي التي استفادت من تكوينها المتعدد التخصصات (في العلوم السياسية والاجتماعية والصحافة) لتقدم تجربة روائية منفتحة على المعيش والمستقبل، جاعلة من البؤس مدخلاً للفت الانتباه إلى تزايد حدة اللاتكافؤ واللامساواة في واقعنا المحموم. 
إن مستقبل الكتابة الروائية الفرانكفونية، وتجديد الحوار المغيب بين الغرب والشرق؛ والشمال والجنوب، في أيدٍ أمينة، إذا ما تم الوعي بكون الأدب قد أضحى اليوم أداة أساسية للوقوف عند تناقضات العوالم المعاصر وطبيعة الصور والتمثلات التي تحملها الأنا عن الآخر. 
ما يجب الإشارة إليه، هو أن نجاح الرواية وترجمتها إلى عديد من اللغات الحية، سيدفعان كثيرا من المخرجين والمنتجين السينمائيين إلى التفكير في تحويل هذه الرواية إلى عمل سينمائي، وهو الأمر الذي سيفقد الرواية، لا محالة، خصوصياتها السردية وعمقها الإنساني، وسيعمل على «سوقنة» و«سلعـــــنة» القيــمة الأدبية للعمل، كما وقع مع كثير من الأعمال العالمية .