ظُلم المرأة بين قسوة تاريخ وغفلة فقهاء

ظُلم المرأة بين قسوة تاريخ وغفلة فقهاء

في العاشر من شهر ديسمبر لعام 1948م، أعلن المجتمع الدولي، بتوصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن مجموعة قوانين ملزمة للأعضاء تقضي بحماية حقوق الإنسان. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ ميثاقاً قد صدر، يحمل في جنباته التزامات قانونية من الدول الأعضاء لضمان تفعيل الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 

 

كان هذا الميثاق تعهداً من الدول المنضمة واعترافاً بحق كل إنسان في الحياة والحرية والأمن والعيش بكرامة. وجاء ضمنا، تحريم الرّق والإقرار بالحرية الفكرية والدينية وحرية الرأي والتعبير وحرية الرضا في الزواج. ثلاثون مادة حواها الميثاق تؤكد مجموعة منها الحقوق الفردية والشخصية، وتتناول مجموعة أخرى علاقة الإنسان بالمجتمع والدولة. وقد أصبحت مواد هذا الميثاق أسساً عامة لدساتير العالم في ما بعد. 
لا بدّ لنا أن نُقر بأنّ الحقّ لا يُمنَح إلا بمقابل الواجب، فالحقّ والواجب متلازمان، أخذا وعطاء. ومن المجحف أن يأخذ الإنسان كل ما يحتاج إليه بلا جهد ولا عطاء، أو أن يعطي كل ما يملك بلا أجر ولا مردود، وإلا لكان الأول متسولاً، وصار الثاني سفيهاً. ومن نكد الدنيا على المرء أن يأخذ من منّان أو أن يُعطي جاحداً. أما التضحية، وهي أن تمنح حاجتك للآخرين، أو تقسم لقمتك مع المحتاجين، أو تُؤْثِر غيرك ممن رقّت به الحال على نفسك ولو كان بك خصاصة، فتلك أسمى العطاءات. ولا أرقّ حالاً من المسكين واليتيم والأسير، ثم الطفل والمرأة. لذلك حَملَ الإنسان أمانة هؤلاء، وبذلك قضت الشرائع والديانات والمواثيق.

مكانة اجتماعية
لم تكن المرأة يوماً هامشاً في الحياة، بل كانت ولا تزال أصلاً، شأنها في المكانة الاجتماعية شأن الرجل، فبهما نشأت الحياة الإنسانية واستمرت. أنثى هي، حباها الله عقلاً، ونفساً عظيمة تدور حلقاتها كموجات الصوت الحانية لتضم نفوساً أعلى وأدنى، نفوس الأب والأم والأخ والأخت والزوج والابن والابنة. وها هو التاريخ يحكي مسيرة التقديس للمرأة من حواء إلى ديفي الهندوسية وإنانا السومرية وعشتار البابلية وحتشبسوت الفرعونية وهيرا وأفروديتي اليونانيتين وفينوس الرومانية. وقد تبوأت، منذ القِدَم، مكانة اجتماعية تُمَيّزها، حين وصلت مكانتها لفرض إرادتها في الحياة السياسية، والحُكْم الذي كان يعتمد على النبوءات عن طريق الكهانة: بيثيا عرافة معبد أبولو في دلفي باليونان، والكاهنة ديهيا (داهية) الأمازيغية، وسجاح قائدة أحد جيوش المرتدين عن الإسلام. كما نالت المُلْك، فصارت رأسا لدولتها وقائدة لمجتمعها: بلقيس ملكة سبأ وزنوبيا ملكة تدمر وكليوباترا ملكة مصر، والملكة أروى بنت أحمد الصليحية داعية الفاطميين وحجتهم باليمن وشجرة الدرّ المملوكية. نالت المرأة مكانتها لدى العرب، وعزّز الإسلام تلك المكانة ورفعها مكاناً عَلِيّا. ولم يأتِ الظُلْم على المرأة إلا من تكريس الخرافات والأساطير، أو عدم فهم النصوص التاريخية فهماً صحيحاً.

حقيقة الوأد
عندما يُتناوَل وضع المرأة في المجتمع العربي قديما، عادة ما يرجع الباحثون إلى الكتب الدينية، إيماناً منهم بأنّ الإسلام قد رفع مكانتها الاجتماعية وصان حقوقها الإنسانية وأعزّ أمومتها وقدّس عفتها وطهارتها. وهذا صحيح، غير أنّ المبالغة في مقارنة الوضع بالمجتمع الجاهلي، جعلت المؤرخ الإسلامي يتطرف في ذكر فضائل الإسلام، ويجحف من حق مجتمعات ما قبل الإسلام في اختراق المبادئ الإنسانية والتحلل من الفضائل الأخلاقية. ونستطيع أن نصف المؤرخ الإسلامي بأنه ينقل بغير دِقّة حقائق مبتورة الأصل. من تلك الحقائق التي عجز المؤرخ عن توصيلها واضحة للقارئ، وضلّ في شرحها: «الوأد» و«التبضع». كان المجتمع العربي قبل الإسلام يئد المولودة الأنثى، هكذا يأتي النص! ولكن الحقيقة الدقيقة تؤكد أنّ الوأد لا يكون إلا لابنة الأَمَةِ من سيّدها، فابنة الحُرّة لا توأد. وتلك الحقيقة لم يأتِ على شرحها مؤرّخ أو فقيه، وعلى الرغم من تجريم الإسلام للوأد، والذي وصل إلى حدّ التحريم، فإننا نرى أنّ الوأد ليس فقط بدفنها حية تحت التراب، بل نرى أنّ ابنة الأَمَة قد وئدت دهراً من الزمان عندما لم يُعترف ببنوتها، حتى أتت حريتها بإعلان حقوق الإنسان وتحريم الرقّ عام 1948م. أما الذكر من الأَمَةِ فكان له حظ أكبر من الأنثى، فقد تم الاعتراف بنسب عنترة إلى أبيه شداد العبسي، وزياد ابن أبيه إلى أبي سفيان. وفي العصر العباسي صار عرفاً إن ولدت الأَمَة ذكراً غدت حُرّة لكونها «أم وَلَد»، وجاء كثير من الخلفاء العباسيين من أمهات ولد كالمأمون والمعتصم. وبمثل ما سبق من تطويع للحقيقة، أسقط المؤرخ الإسلامي، وتبعه الفقيه، على المجتمع الجاهلي، وصمة عار «التبضع»! وعندما نريد أن نشرح معنى «التبضع»، لا بدّ أن نقف لفحص وشرح أصناف ما يُباع ويُشترى من الرقيق. ولأنّ حديثنا عن الإماء، نستثني العبيد، أو الذكور من الرقيق، حيث كان سوق النخاسة، أو سوق بيع العبيد، يضم: الخادمة والقارئة والمُوَلِّدة والقينة والمحظية. وتقوم «الخادمة» بأعمال المنزل ونظافته، كنس ومسح وغَسْل وحَلْب وطبخ وتحضير، بينما تقوم «القارئة»، وهي التي لها علم ودراية بشيء من القرآن الكريم والسنة والقصص والتاريخ، بتعليم الفتيات والنساء في دار سيدها. أما «المُوَلِّدَة» فهي من تُشترى من أجل الإخصاب وإنجاب الذكور والإناث من أجل البيع. ولعل «القينة» هي الأعلى أجرا، حيث يتوافر فيها جمال الصوت ومعرفتها بالشعر والعزف والرقص والغناء، وهي بذلك تكون أشبه بالنظام الترفيهي والترويحي، المرئي والمسموع. وعن «المحظية» نؤكد أنها تُشترى في العادة بِكْرا، ويُشترط فيها الجمال وصِغَر السّن، فإذا اشتراها الأب محظية له فهي مُحَرَّمَةٌ على الأبناء، وإذا كانت للابن حُرّمَت على الأب والإخوة، وإن بيعت لا تباع إلا لأجنبي. 

قسوة التاريخ
هذا ما قضت به الأعراف في المجتمع العربي، قبل وبعد الإسلام. وفي «المولّدة» أتى القول بأنّ من مثلها يُشترى ويباع من أجل ولادة العبيد والإماء، وهي تجارة كانت رائجة جداً، وكان من أشهر تجارها أُميّة بن خلف، وهو الذي كان سيّداً ومالكا لمؤذن الإسلام الأول بلال بن رباح – رضي الله عنه -. وعندما يرى السيد المالك للأَمَة المولدة، مزايا في رجل ما، كالقوة أو الشجاعة أو الكمال الجسماني أو العقل أو الحكمة أو الكرم، يُرسل إليه أَمَته، ويأمرها بأن تعاشره، «تتبضع منه» اصطلاحاً، حتى تُنجِب منه ما يستحق البيع أو الامتلاك. هنا نقف لفهم حقيقة دسّ عبارة «يقول لامرأته: اذهبي وتبضعي منه»، فالمرأة هي في الحقيقة أَمَة مُوَلّدة، ولكنها تُفهم بهذا الشكل الذي جاء في الكلام على أنّها زوجته. لقد أراد المؤرخ عن عمد التجريح بمبادئ وأخلاق المجتمع الجاهلي وفسادها، ومن ثم استند الفقيه دون قصد ولا عمد إلى قول المؤرخ فأخطأ.
هل هي قسوة التاريخ أم هي غفلة الفقهاء؟ لتحمل المرأة وِزر القسوة والغفلة! جُلّ تاريخ العالم كتبه الرجال، وانحازوا لجنسهم. وعندما تبحث عن إنجازات للمرأة في كتبهم، لا تجد سوى قذاذات انقطعت وجذاذات قد تبعثرت، فيصعب على القارئ احتواؤها، ومن ثم يكون من الصعوبة استيعابها بما كانت عليه أصلاً. 
وها نحن في القرن الحادي والعشرين نقرأ التاريخ بعين وقلب كاتبه، فنهيم بما لا يستقيم، ولا نجني من ورد الروض سوى شوكه. وقد يكون شرح النصوص بالعقل والمنطق مغامرة إن لم يقم الدليل القاطع المعتمد على هذا النَّصّ. وإذا أتينا على تدوين التاريخ الإسلامي مثلاً، فإننا نستطيع الجزم بأنّ بداياته الكبرى كانت في العصر العباسي. هنالك، استطاع المؤرخون أن يدعموا الأحداث التاريخية بفكرة الدين وتعاليمه، التي غدت المبادئ الأساسية لمفهوم الدولة والمجتمع والفرد. وقد بالغ بعض المؤرخين في التقليل من شأن إنجازات الحضارات والأديان المعاصرة الأخرى، وقللوا من شأن المجتمعات السابقة للإسلام، السبب الذي حفز معاول الهدم لتقويض بناء الدعوة الجديدة كردة فعل. 
وقد أظهرت تلك المعاول التي تمثلت بأطروحات فكرية وفلسفية مثالب عدة في أساليب دعوة الدولة الإسلامية آنذاك، نتج عنها بعض الثورات والمعتقدات الفكرية، بدأت في النصف الثاني من العصر الأموي واستمرت واضحة حتى نهاية العصر العباسي الأول، نهاية القرن الثالث الهجري تقريباً. ومن الإنصاف أن نذكر موقف المعتزلة في الرد على أكثر من هجوم، وكسر معاول الهدم في أكثر من موقع.

إعادة كتابة التاريخ 
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، دعم مجلس الوزراء الكويتي مجموعة من المفكرين العرب، أطلقت على نفسها «جماعة الدراسات العربية في التاريخ والمجتمع»، عهدوا على أنفسهم إعادة كتابة التاريخ الإسلامي. أذكر منهم شاكر مصطفى وأحمد عبدالرحيم مصطفى ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط. ولم يطل عمر هذه الجماعة، فسرعان ما تبدد الجَمْعُ وتفرقت الآمال، واختلفت وجهات النظر. كانت رؤية تلك الجماعة واتفاقهم على أنّ التاريخ العربي والإسلامي لم يُكتَب ولكنه دُوِّن، وأنّ المؤرخ إنّما ينظر إلى الأحداث من نافذته. لذا، ترى هذه الجماعة أن بالإمكان إعادة كتابة التاريخ على ضوء المعطيات العصرية الجديدة، التي سوف تفتح نوافذ عديدة على الماضي، مما يؤدي إلى تقييم أفضل لحقائق الوقائع في معرفة الأحداث والشخصيات في بناء متكامل. 
كان هذا من المشاريع الفكرية التي أولت عنايتها إلى كتابة التاريخ، قراءته وفهمه وتحليله ومقارنته بالأحداث المحلية والإقليمية والعالمية في كل فترة من فترات التاريخ، وربطه بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية في زمانه، كانت تأمل حذف المبالغات فيه والتنبيه على ما شابه من أساطير وخرافات، تلك التي سجلها المؤرخ في دائرة ثقافة عصره كمعجزات وكرامات أولياء، أو ربما سحر ساحر.
إنّ التاريخ لثوب جميل، ولكن لا بدّ لنا أولاً تنقيته من الشوائب، التي لا يمكننا في هذا العصر تصديقها، ليس لأنها ضد العقل والمنطق فقط، بل لأنها ضد مجريات الطبيعة الكونية والحقيقة الأزلية. وتكمن المشكلة بأنّ كثيرا من هذه الخرافات والأساطير قد ارتبط ارتباطاً شرطياً بإيمان أهل عصر من الزمان، فأخذ الفقيه عن المؤرخ وبنى عليها أحكاماً، وألزمنا أهل زماننا باتباع تلك الأحكام التي صدرت إما على متغير وإما على غير معقول. ولو تتبعنا درب فتيا المجتهدين فسوف نرى عجبا، ليس في الاستنباط أو حجية الأحكام، إنما في البناء الشرطي والحكم الثابت على المتغير. وقد نتفق في الرأي أو قد نختلف، إلا في الدين، الحلال والحرام، وفي هذين الأمرين لا يجوز الاختلاف، فالحلال بيّن والحرام بيّن، حيث إنّ الحلال هو القاعدة الأصل، أما الحرام فلا يكون إلا بنصّ شرعي قطعي من الكتاب والسنّة، ولا يكون باجتهاد أو رأي فقيه. وربما اتُفق على «الإجماع» في اجتهاد علماء الأمة في مسألة ما، ولكن هناك قواعد أساسية لا بد من الأخذ بها، كالحاجة والضرورة والعلة في التحليل والتحريم. 
ولا يؤخذ «الورع» قاعدة لفتوى عامة لتُحفَّز به المرأة وتُحبس، ولا يجوز تعميم الخاص دون فهم لأصل النص فيكون صوت المرأة «عورة».
  أذكر هنا، وعلى سبيل المثال، تحريم طائفة من علماء الدين استعمال «السواتل» Satellites في استقبال القنوات الفضائية، وكان ذلك في البدايات، إلا أننا سرعان ما رأينا انتشار القنوات الفضائية الدينية على فضاء العالم دون أن نسمع تراجعاً من العلماء أنفسهم عن فتياهم! لقد أصبح عالم الدين يفتي في الطب والصيدلة وكل العلوم بغير علم ولا هدى أو نصّ شرعي مكين. ومع كل الإجلال والتقدير لفقهاء أمة الإسلام نقول: إنّ هذا العصر «عصر التخصص»، فلتكن الفتوى من العلماء المسلمين، كل في تخصصه العلمي، سواء كان طباً وصيدلة وفيزياء وتكنولوجيا وغذاء، أما الفقهاء فمجالهم فقه العبادات ■