صدمة العولمة في خطاب النخبة

صدمة العولمة في خطاب النخبة

شكّل موضوع العولمة، ولايزال، حديث المفكرين والكتّاب من مختلف التيارات الأيديولوجية والمشاريع الفكرية، بين مرحّب بها، وبين ناقد، ومن دون التعمق في بسط الحديث عن ذلك، نتوقف هنا مع الكاتب والمفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب وقراءته الخاصة للعولمة.


العولمة بمعناها الظاهر هي التبادل المعمم على المستوى الكوني، وبالإمكان عكس هذا التعريف، للقول إن العولمة هي تعميم التبادلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نطاق الكرة الأرضية. إنها عملية تحريك للأشياء والأفكار والأشخاص. هذه الظاهرة الكونية أو الطفرة الحضارية، يرى علي حرب أنها نجمت عن ثورة المعلومات والانفجار في تقنيات الاتصال، على نحو أتاح النقل الفوري والمباشر للمعطيات اللامادية من صور ورسائل ورموز ونصوص بسرعة الضوء.
وقد أحدث هذا الأمر تغييراً في مشهد العالم، تغيرت معه خريطة العلاقات بالأشياء والكائنات: بالزمان والمكان، بالاقتصاد والإنتاج، بالمجتمع والسلطة، بالذاكرة والهوية، بالمعرفة والثقافة. والحدث الأكبر أو الخطر في نظر حرب، هو انقلاب العلاقة بين الزمان والمكان بصورة تغيرت معها أطر الوعي وبنية الإدراك، أو وسائط الفكر ووسائل المعرفة. والمقصود بذلك سيطرة الزمان الفعلي على المكان التقليدي، عن طريق النقل الفوري للمعطيات والترجمة العددية للمعلومات، أي سيطرة الزمان الذي يجري بسرعة الضوء على الأزمنة المحلية الخاصة بالشعوب والثقافات.
من هنا فإن هذا الانقلاب في العلاقة بين الزمان والمكان، وفقاً لتصور علي حرب، يتجسد في تشكّل فضاء جديد للتحكم والاتصال والمراقبة، هو الفضاء السبراني الذي «يخربط» علاقة الإنسان بالعالم من غير وجه وعلى غير صعيد.  وبالتالي سنكون أمام عولمة للهويات والمجتمعات والأوطان، عبر الشبكات والأسواق والهجرات التي تبدو أقوى وأولى من العقائد والأيديولوجيات. وتلك هي ثمرة الطرقات السريعة للإعلام من جهة، وللسرعة في تحرّك الأشخاص عبر القارات بلا حدود نهائية، وبلا هويات متميزة بصورة حاسمة. وبذلك تصبح خارجية المكان الوجه الآخر لمرونة الهويات، الأمر الذي يضع الهويات موضع التساؤل، لأن العولمة تشكّل لنا هويات متعددة الانتماءات. وهناك نقطة لها أهميتها، وهي كيف تُستقبل العولمة في الخطاب الثقافي لدى الدعاة والحماة؟ يرى حرب أنها تُقرأ قراءة خلقية مثالية أو قراءة أيديولوجية نضالية، من خلال ثنائية الأنا والآخر، أو الخير والشر. إذن فالقراءة الأيديولوجية هي قراءة وحيدة الجانب تقوم على التبسيط والاختزال، وذلك حيث تُقرأ العولمة بتعابير التمركز والاغتصاب، أو الغزو والاكتساح. وهناك مثالان على ذلك:
الأول يقدمه صادق جلال العظم الذي لا يرى من العولمة سوى بعدها الاقتصادي ووجهها الأيديولوجي الرأسمالي.
والثاني يعلنه بيير بورديو، الذي يغلب على قراءته البعد السوسيولوجي، فقد أعلن أن التلفزيون ليس وسيلة للاتصال بقدر ما هو أداة رهيبة للهيمنة والرقابة والحجب، وأن العولمة ليست ليبرالية جديدة متوحشة.
ويرى حرب أننا إزاء قراءة طوباوية للعولمة، تقوم على نفي الحدث والتنكر للإنجازات، ومن هنا اعتبر أن القراءة الأيديولوجية قراءة رجعية، بل هي هشة تشهد على عجز أصحابها عن مواجهة العولمة. إن العولمة كواقع يومي معيش بحاجة إلى من يقرأها بلغة المفهوم. فهي ليست مجرد «أدلوجة» يمكن نقضها، ولا مظهر للأمركة تنبغي مقاومته، بل هي معطى وجودي يمكن تحويله بالاشتغال على الأفكار والعمل على تغييرها.
السؤال المطروح والمهم هو: هل العولمة تشكّل خطراً على الهوية؟ يرى حرب أنه حتى لا نغرق في التوهيمات حول معنى الثقافة، فالثقافة تتجلى في النهاية بالنصوص والخطابات، أو بالمؤسسات والمشروعات، أو بالتصرفات والممارسات. إذن وفق علي حرب، إذا كان المقصود بالثقافة النصوص، فهو يرى ألا خشية عليها من شيء، إذ إنها روائع وآثار باقية، لا أحد سيقضي عليها، وإنما هي تشكّل رأسمال رمزي علينا أن نحسن صرفه وتحويله إلى قيم معرفية وجمالية.
أما إذا المقصود بالهوية الثقافية تلك المنظومات العقائدية للأحزاب التي تمارس وصايتها على الحقيقة والشريعة، فإن أفضل وأنفع ما تفعله العولمة هو فسح المجال لتفكيك تلك الهويات المتحجرة. أما إذا كان المقصود بالهوية الثقافية، الاتجاهات الأيديولوجية المسيطرة في الثقافة العربية، من قومية وإسلامية وليبرالية، فإن هذه التيارات وصلت إلى مأزقها، بعد انهيار مشروعاتها الفكرية في مهامها المتعددة. 
والحل في نظر حرب هو أنه لابد من إعادة التفكير في نظام الفكر وقيمه ونتاجاته، بغية تركيب العالم من جديد. وهي مهمة تحتاج إلى سياسة فكرية جديدة، تتعامل مع الأفكار لا كأصول ونماذج، ولا كأقانيم ومقدسات، بل بوصفها «شبكات تحويلية» نتغير بها ونغيّرها، بقدر ما ننسج علاقات مغايرة مع الواقع والحدث. وما يحدث على مستوى العالم الذي «يتعولم» اليوم ليس جحيماً ولا فردوساً، بل هو إعادة خلق للأشياء التي لن تعود كما كانت عليه، مع ظاهرة العولمة.
أخيراً وليس آخراً، إن العولمة فتح كوني عظيم وواقع معيش، والانخراط فيه أمر محتوم، وإلا سنكون ضحية انعكاسات ذلك على المستويات كافة، ومن هنا فإن انتقاد علي حرب القراءة الأيديولوجية للعولمة غاية الأهمية. ويبقى السبيل هو عولمة الثقافة حتى لا تكون فريسة للغزو الثقافي الآخر؛ ففقدان الثقافة الوطنية العربية هو فقدان للهوية، وبالتالي فقدان تاريخ وحضارة ■