لغة الأحلام عبدالمقصود عبدالكريم

لغة الأحلام

نحلم جميعا، وجميعا لانفهم شيئا من أحلامنا في معظم الأحيان. ومع أن الأحلام تشكل جزءا من حياتنا، ومع أنها تعبر عن نفسها في لغة تختلف كثيرا عن لغتنا اليومية، إلا أنه من الغريب حقا أنها لا تثير دهشتنا غالبا، ولا يتوقف معظمنا لحظة لتأملها.

فهم لغة الأحلام قد يؤدي إلى الكشف عن كثير من أسرار النفس البشرية، لهذا يسعى بعض العلماء جاهدين للتعرف على هذه اللغة وحل شفرتها. ولغة الأحلام ليست لغة منعزلة أو متقوقعة على ذاتها، بالعكس، إنها لغة متشعبة العلاقات وممتدة الجذور: إنها، من ناحية على علاقة وطيدة باللغة البدائية ولغة الأساطير ومن ثم يصفها إريك فروم ب"اللغة المنسية"، ويرى كارل جوستاف يونج أنها لا تعبر عن نفسها أبدا بطريقة منطقية مجردة ولكنها تعبر عن نفسها دائما في لغة المثل أو التشبيه، وهذه الخاصة التي تميز لغة الأحلام سمة مميزة أيضا للغة البدائية. ويضيف يونج أنه مثلما يحمل جسم الإنسان بقايا تدل على تطوره التاريخي، فإن العقل البشري يحمل الشيء نفسه ومن ثم فلا شيء يدعو للدهشة بشأن احتمال أن تكون لغة الاحلام المجازية بقايا النموذج البدائي في التفكير.

الحلم، والفن، والجنون

ومن ناحية أخرى، فإن لغة الأحلام ترتبط ارتباطا وثيقا بلغة الفن والإبداع. ألا يبدو الفنان شخصا حالما في كثير من الأحيان، شخصا يستعيد تلك اللغة المنسية النائمة في أعماقه، يستعيدها حين يبدع وحين يحلم، يفتش دائما عن صورها ورموزها. إننا في الحلم وفي الفن ندير شريط خبراتنا وذكرياتنا التي تبدو فى النهار، وكأن ذاكرتنا قد أهملتها. ولنتأمل لحظة، قبل ان ننتقل إلى علاقة الحلم بالجنون، كيف يحلم الشاعر الإنجليزي وليم بليك (1757 - 1827) في إحدى قصائده:

حلمت حلما- ترى ماذا يعني؟-
حلمت أنني مليكة بتول
يحرسني ملك لطيف
وحزني الأحمق لا يزول
طيلة ليلي بكيت، بكيت طيلة يومي
جفف دمعي
بكيت طيلة يومي وليلي
وأخفيت فرحة قلبي
لم جناحيه وطار
أشرق صباحى بحمرة ورد
سلّحت خوفي وجففت دمعي
بعشرة آلاف من الرماح والدروع
وسرعان ما عاد ملاكي
وكنت تسلحتُ عاد ملاكي سدى
فقد ولىّ زمان الشباب
وقد غزا الشيب رأسي.

وأخيرا، ترتبط لغة الحلم بلغة الجنون. ألا يمكن أن يكون الحلم نوعا من جنون الليل أو يكون الجنون نوعا من حلم النهار. في الحلم هلاوس - بصرية وسمعية ولمسية.. وفي الجنون هلاوس - سمعية وبصرية ولمسية..، في الحلم تسود الهلاوس البصر يقع وفي الجنون تسود الهلاوس السمعية. إن الحلم لا يخضع لقواعد المنطق التي تحكم تفكير اليقظة. إننا ننتقل في الأحلام بصورة لا منطقية عبر الأزمنة والأماكن، وقد نرى الأموات أحياء يتحدثون إلينا ونتحدث إليهم، وما نتمنى حدوثه الآن ربما نراه في الحلم وقد حدث منذ زمن، وقد نحلم في وقت واحد بحدثين لا يمكن أن يحدثا في الوقت نفسه، وقد ننتقل فجأة من مكان إلى مكان بعيد، ويمكن أن نوجد في مكانين في الوقت نفسه، وقد ندمج شخصين في واحد، أو يتحول شخص فجأة إلى شخص أو شيء آخر، أو يتغير حجمه وشكله ويبقى هو نفسه. وفي الحقيقة كما يلاحظ إريك فروم، أننا في أحلامنا نبدع عالما يفقد الزمان والمكان تأثيرهما فيه، يفقدان تأثيرهما الذي يحد من نشاطنا في النهار.

إننا نحلم أحلاما ترجمت - إذا جاز التعبير - إلى لغة التصورات الحسية، وهذه الترجمة تساعدنا على ربط الأحلام بقدراتنا الواعية. إن الحلم عبارة عن تصورات حسية، قد تكون بصرية او سمعية..، تصورات تمتد من الأحاسيس الجسدية إلى التصورات الأسطورية والأفكار المجردة، وتسود في الأحلام، كما ذكرنا، التصورات البصرية. والتواصل بالصورة شكل "أولي" من أشكال التواصل، شكل يشبه طريقة إدراك الطفل الصغير للعالم ويشبه طريقة تواصل الفنان مع المتلقي.

لغة الصور

إن الصورة هي وسيلة التواصل في بعض الكتابات القديمة التي تستعين بالصورة كما في الكتابة المصرية القديمة والكتابة الصينية المبكرة وكتابات سكان أمريكا الأصليين. ومع أن الكتابة التصويرية يمكن لأى شخص أن يراها فإن فك رموزها يستعصي إلا على الخبراء بها. وبالمثل فإن صور الحلم متاحة لكل من يحلم، لكن معانيها تنكشف فقط لمن يمتلكون القدرة على فهم صورها المجازية أو الرمزية. إن الثراء البلاغي للحلم يفوق التصور، فما من صورة من الصور البلاغية التي تعرفها اللغات النهارية إلا وجدناها في الحلم. ويرى دكتور مصطفى صفوان أن الحلم بوجه عام يسرف في استخدام الصور البلاغية إسرافا يؤدي إلى العطل الظاهري من المعنى على نحو مايقع في شعر السرياليين. وللتمكن من التعامل مع هذا المستوى من التواصل يلزم قدر كبير من التناغم الفني والعاطفي والحدس وقدر من المنطق العقلي.

لابد لنا في دخول عالم الأحلام بتعاطف إذا أردنا التعامل مع أبعاده المجازية والرمزية والدرامية. وعلينا أن نستعين بوعينا العقلي للتوفيق بين نتاج الحلم والمفاهيم السيكولوجية. وتعتبر الصورة تمثيلا كنائيا أو أليجوريا Allegary ( الأليجوري قصة تدل الشخصيات والأحداث فيها على معنى آخر غير المعنى الظاهري، معنى يمكن معرفته دون التصريح به) إذا أمكن ترجمتها إلى مفاهيم عقلية واضحة. وتعتبر الصورة رمزية إذا كانت تشير إلى شيء فوق إدراك الإنسان، شيء يمكن إدراكه فقط بصورة جزئية.

التمثيل الكنائي ولغة الأحلام

تستدعي صور الأحلام مجموعة من التداعيات والتفسيرات، والإسهابات. ويرى يونج أن صور الأحلام تكون لغة مجازية حين تشق طريقها في نسيج تلك المجموعة من التداعيات والتفسيرات والإسهابات، ويقدم هذا النسيج بدوره السياق السيكولوجي اللازم لفهم معنى الصور. وحين تشير هذه الصور المجازية إلى سياق يمكن إدراكه والتعبير عنه بصورة عقلية، نعتبرها تمثيلا كنائيا (صورا أليجورية). وحين يكون معناها أو سياقها أبعد من أن ندركه تماما بصورة عقلية، تكون صورا رمزية.

تصف الصور الأليجورية في الحلم الأوضاع الخارجية لا "الموضوعية" أو الأوضاع الداخلية "الذاتية" التي تعكس الاهتمامات السيكولوجية للحالم. وحين تعمل هذه الصور الأليجورية بشكل تام فإنها تشبه صور الأشعة السينية، سواء بالنسبة للأوضاع الخارجية التى قد يكون لها معنى سيكولوجي واضح أو بالنسبة للبنيات السيكولوجية العميقة. إنها تكشف مالا تستطيع أن تراه العين المجردة للوعي النهاري بصورة مباشرة، ولكن هذا الوعي النهاري يستطيع إدراك هذه الصور على المستوى السيكولوجي والمستوى العقلي بمجرد أن يتنبه لمفردات (صور) اللغة المجازية. أي أن الصور الأليجورية في الحلم تشير إلى حقائق أو ديناميات سيكولوجية يمكن فهمها بصورة عقلية، لكن إدراك وعينا النهاري يغفل عنها أو لا يصل إليها.

إن الصور الأليجورية قد تستخدم المجاز والانحراف الشعري والمبالغة الدرامية لكنها تشير دائما إلى أنها وضع يمكن الإفصاح عنه، ومن الممكن تفسيرها وفهمها بالرجوع إلى حياة الحالم. إنها تشير إلى الأحداث الخارجية ذات "المستوى الموضوعي"، أو تشير إلى أحداث وديناميات الحالم السيكولوجية الداخلية ذات "المستوى الذاتي".

الرموز ولغة الأحلام

وتشير الرموز، بالمقارنة بالتمثيل الكنائي، إلى ما يمكن أن يرى فقط (بصورة مبهمة عبر العدسات". ويعرف يونج الرمز بأنه "الوصف الأمثل، أو الصيغة المثلى لحقيقة غير معروفة إلى حد ما، ومع هذا نعرف أنها موجودة أو نفترض وجودها". إن الرمز "تعبير مجسد على نحو لا يمكن إنكاره عن شيء يفوق إدراك الإنسان ويتم استيعابه فقط بصورة جزئية، قد يكون الرمز هو التعبير الأمثل ولكنه مع هذا تعبير لا يفصح بصورة تامة عن السر الذي يسعى لوصفه".

وبينما تكون المفاتيح واضحة ومعروفة في حالة التمثيل الكنائي، فإن اختيار مفتاح الرمز يترك للمفسر وتكون العلاقة بين الرمز وما يدل عليه واضحة فى بعض الحالات، وخفية بصورة محيرة في بعضها الآخر. وتدل هذه الحالة الأخيرة، في رأي فرويد، على أن هذه العلاقة ذات طبيعة نشوئية: "فالأشياء التي ترتبط اليوم برباط رمزي كانت على الأرجح تتحد في الأزمنة قبل التاريخية في وجود تصويري ولغوي، فالعلاقة الرمزية تبدو أثرا من وجود غابر وعلامة عليه".

واللغة الرمزية، في رأي إريك فروم، هي لغة يتم بواسطتها التعبير عن الخبرات والمشاعر والأفكار الداخلية، كما لو كانت خبرات حسية أو أحداثا تدور في العالم الخارجي. إنها لغة لها منطق يختلف عن منطق اللغة التقليدية التي نتكلمها نهارا. إنها لغة عالمية طورها الجنس البشري بمختلف ثقافاته عبر التاريخ، وهي لغة لها نحوها وتراكيبها الخاصة بها، لغة على المرء أن يفهمها إذا أراد أن يفهم الأساطير وقصص الجنيات والأحلام. إنها لغة ينساها الإنسان المعاصر حين يستيقظ ويتذكرها حين ينام.

وللرمز في كثير من الأحيان أكثر من معنى، وهذه المعاني لا يمكن فهمها في كل مرة فهما صحيحا إلا من السياق. ويرى فرويد أن تعدد معاني الرمز في الأحلام يلتقي بما يتميز به الحلم من قبول تفسيرات متعددة، أي من القدرة على أن يصور في بعض محتواه أفكارا ورغبات قد تختلف اختلافا كبيرا في طبيعتها.

تتميز لغة الأحلام، إلى جانب استخدامها للصورة والتمثيل الكنائي والرمز، بالتكثيف الشديد، تكثيف يذكرنا مرة أخرى بعلاقة الحلم بالفن. يقول فرويد في تفسير الأحلام: إن أول ما يتبين للباحث عند المقارنة بين محتوى الحلم وأفكار الحلم هو أن ثمة عملية تكثيف قد أجريت على نطاق واسع: فالحلم مقتضب، هزيل، مليء بالثغرات، إن هو قورن بسعة أفكار الحلم وغناها. فهو إذا كتبته قد يستغرق نصف الصفحة، فلو سطرت التحليل الذي ينشر أفكار الحلم المتضمنة فيه لملأت ضعف ذلك ست مرات أو ثماني مرات أو اثنتي عشرة مرة. وتختلف هذه العلاقة باختلاف الأحلام. من المستحيل أن نحدد مقدار التكثيف.

وفي النهاية يمكن أن نقول إن الحلم لغة. لغة طورها الإنسان عبر التاريخ، لغة تستخدم الصورة كاللغات البدائية، ولا تخضع للمنطق المعتاد كلغة الجنون وألاعيب الأطفال اللغوية حين يعاملون الكلمات معاملة الموضوعات ويبتدعون لغات جديدة وصورا نحوية مصطنعة، لغة تستعين بالتمثيل الكنائي والرمز والتكثيف مثلما تفعل لغة الفن، إنها لغة نتذكرها نياما وننساها أيقاظا، ولذا تستحق وصف "اللغة المنسيقا"، الوصف الذي أطلقه إريك فروم.

 

عبدالمقصود عبدالكريم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لغة الأحلام