لأول مرة صورة للفجوة السوداء
تتزن النجوم العادية، مثل الشمس، تحت تأثير قوة جاذبيتها نحو الداخل والقوة الناتجة عن ضغط الفوتونات المنطلقة من تفاعلات الاندماج النووي في لبّ النجم نحو الخارج. وعند نفاذ الوقود النووي (الهيدروجين) الموجود في لب النجم بعد ملايين أو مليارات السنين تبعًا لكتلة النجم، فإنه ينهار تحت تأثير قوة الجاذبية.
إذا كان النجم ضخمًا، وكتلته أكبر من كتلة الشمس بعشرات المرات، فإنه ينفجر في حدث هائل يسمى انفجار السوبرفوفا، وينكمش لبّه بصورة كبيرة جدًّا، وتصبح جاذبيته هائلة، ولا يمكن لشيء - حتى الضوء - مغادرته.
يسمى لبّ النجم في هذه الحالة بالفجوة السوداء أو الثقب الأسود. يفصل الفجوة السوداء عن الفضاء والمواد الأخرى حولها ما يُعرف بأفق الحدث، الذي إذا وصله أي شيء فإنه سيدخل إلى الفجوة السوداء لا محالة، ويُفقد إلى الأبد.
لا أحد يعرف ماذا يوجد داخل الفجوة السوداء التي لا يغادرها أي شيء، فقوانين الفيزياء التي نعرف لا تعمل في تلك الفجوة. وبالطبع فإن الأرض لا يمكن أن تتحول إلى فجوة سوداء بسبب صغر كتلتها، لكنها لو تحولت بفعل مؤثر خارجي، فإنها تصبح كرة صغيرة وأصغر من كرة تنس الطاولة.
إن الأرض وما عليها تصبح بهذا الحجم الصغير، مما يدل على غرابة الفجوات السوداء، وكما قال أحد العلماء فإنها تحوّل العلم إلى خيال علمي. تنبأت النظرية النسبية العامة التي نشرها ألبرت آينشتاين عام 1916 بوجود الفجوات السوداء، من دون أن يتمكن العلماء من تأكيد ذلك بصورة عملية مباشرة. كان الكشف عنها يتم بصورة غير مباشرة من خلال مجالها الجذبي الكبير وتأثيره على ما حولها.
الكشف عن الفجوة السوداء
استخدم الفيزيائي باردين معادلات النظرية النسبية العامة عام 1973، في محاولة منه لإيجاد طريقة عملية يمكن من خلالها الكشف عن الفجوة السوداء بصورة مباشرة.
وجد من الدراسة أن الفجوة السوداء إذا مرت أمام مصدر للضوء (نجم مثلاً)، فإنه يمكن مشاهدة ظل الفجوة السوداء فيما يعرف بالرسم بالظلال، ومع ذلك فقد توقّع عدم إمكان حدوث ذلك بصورة عملية.
ومع تطور وبناء تلسكوبات راديو حديثة خلال العقد الأخير من القرن الماضي، فقد أعاد أجول من جامعة واشنطن، وهيليا من جامعة أريزونا، وفالك من جامعة راد بود بألمانيا، وهم أساتذة في الفيزياء الفلكية، دراسة وتحليل معادلات باردين، وكان استنتاجهم أنه يمكن مشاهدة ظل الفجوة السوداء باستخدام تلسكوب ضخم باتساع الكرة الأرضية.
وبيّنت الدراسة إمكان الحصول على بقعة مركزية مظلمة (سوداء) قطرها يساوي حوالي 10 أضعاف قطر أفق الحدث، تحيط بها حلقة متوهجة من الضوء، أو الإشعاع الذي يصدر من الإلكترونات والمواد الأخرى التي تدور حول الفجوة السوداء تحت تأثير جاذبيتها ومجالها المغناطيسي الكبيرين.
محاولات أوليّة
حاول دوليمان أستاذ الفيزياء الفلكية في مرصد Haystack التابع لمعهد MIT الأمريكي وفريقه، عام 2007، استخدام ثلاثة تلسكوبات راديو معًا للحصول على ظل أو صورة الفجوة السوداء ساغيتاريوس الموجودة في مركز مجرتنا؛ مجرة درب التبانة.
واستخدم الفريق تلسكوبات في أريزونا وكاليفورنيا وجزيرة هاواي، وحصلوا على شيء غير واضح لم يتمكنوا من استخدامه للحسابات، لكنه يشبه ما هو مطلوب.
وقد أعاد الفريق التجربة مرة ثانية بعد عامين باستخدام أربعة تلسكوبات، وحققت التجربة بعض النجاح، لكن لم تكن قدرة فصل التلسكوبات وتكبيرها كافية للحصول على صورة واضحة يمكن استخدامها لحساب خصائص الفجوة السوداء، مثل الكتلة والقطر وغيرها.
تلسكوب أفق الحدث
استنتج الفريق من التجارب السابقة أنهم بحاجة إلى عدد أكبر من التلسكوبات في مواقع متباعدة على سطح الكرة الأرضية. وقد شجعت نتائج المحاولات السابقة باحثين آخرين للمشاركة في التجربة.
تعود فكرة تلسكوب أفق الحدث للدكتور فالك، وقد عمل أستاذ الفيزياء الفلكية في معهد MIT، د. دوليمان، على تطوير الفكرة وتنفيذها. وتقرر عام 2012 إضافة تلسكوبات أخرى ليصبح عددها 8 تنتشر على سطح الكرة الأرضية من جزيرة هاواي وأمريكا الشمالية (أريزونا) إلى أوربا (إسبانيا) وأمريكا الجنوبية (تشيلي والمكسيك)، وأخيرًا إلى منطقة القطب الجنوبي.
إذا عملت هذه التلسكوبات معًا في اللحظة نفسها، فإنها تعمل كتلسكوب افتراضي واحد. وأطلق على مجموعة التلسكوبات اسم تلسكوب أفق الحدث، وعيّن د. دوليمان مديرًا لمشروع التلسكوب.
استخدم الفريق التزامن، أي عمل التلسكوبات معًا، ساعات ذرية في منتهى الدقة، إذ إنها لا تتغير بأكثر من ثانية واحدة خلال 100 مليون عام. يشكّل عمل التلسكوبات في اللحظة نفسها صحنًا افتراضيًّا للتلسكوب بضخامة الكرة الأرضية. إن القدرة التحليلية الزاوية للتلسكوب هائلة، وتساوي 25 ميكروثانية، وهي أفضل من دقة تلسكوب هابل الفضائي بأكثر من 2000 مرة.
وإذا توافرت هذه الدقة لعيني شخص موجود في باريس، فإنه يتمكن من قراءة شاشة موبايل موجود في مدينة نيويورك بسهولة.
تسجيل البيانات
تؤثر الأحوال الجوية، وخاصة الرطوبة والغيوم، على دقة الصورة ووضوحها، ويجب بالتالي أن تكون الأحوال الجــــوية مناســــبة بجميع المحطات في الوقت نفسه. كان الثلث الأول من شهر أبريل عام 2017 مناسبًا للعمل، وتم توجيه جميع التلسكوبات في اللحظة نفسها للفجوة السوداء الموجودة في مركز المجرة (M87).
تبعد هذه المجرة عن الأرض 55 مليون سنة ضوئية، وبالتالي فإن الإشعاع الذي ستسجله المراصد كان قد غادر المجرة قبل 55 مليون عام. وقد استخدم الفريق في التجربة ترددات راديو عالية لزيادة وضوح الصورة، لأن هذه الترددات لا تمتص خلال الغلاف الجوي.
عملت التلسكوبات خلال 4 أو 5 ليال ما مجموعه 65 ساعة. قدّر الباحث كرو من معهد MIT المعلومات التي تم تسجيلها بحوالي مليار مليون بايت (أي واحد وأمامه 15 صفرًا من البايت)، تعادل هذه المعلومات سماع موسيقى من mp3 لمدة 5000 عام. سجلت المعلومات على سواقات صلبة سريعة ودقيقة، صنعت خصيصًا للتجربة في معهد MIT.
أرسلت الأقراص الصلبة التي قدّر وزنها بحوالي نصف طن إلى معهدي MIT، وماكس بلانك في ألمانيا للفحص والتدقيق.
استخدم الخبراء حواسيب خاصة لتدقيق البيانات وفحصها، واستمرت العملية عامًا كاملًا. وأرسلت البيانات بعد ذلك إلى أربع مجموعات منفصلة من الفريق لرسم أربع صور ومقارنتها. استخدمت المجموعات الأربع حواسيب وبرمجيات معقّدة كتبت خصيصًا للتجربة، وحصلت على صور متشابهة إلى حد كبير.
صورة الفجوة السوداء
تبيّن الصورة التي تم الحصول عليها من المجموعات الأربع دائرة مركزية مظلمة (ظل الفجوة السوداء) تحيط بها حلقة متوهجة من الإشعاع.
تم الإعلان عن الصور ونتائج التجربة في الوقت نفسه خلال 6 مؤتمرات حول العالم يوم الأربعاء 10 أبريل الماضي. تؤكد هذه الصورة صحة ودقة النظرية النسبية العامة.
إن الألوان في الصورة ليست حقيقية، وتبيّن الفرق في شدة الإشعاع الصادر من الإلكترونات التي تدور حول الفجوة السوداء، إذ إن إشعاعات الراديو التي سجلتها التلسكوبات لا لون لها.
وقد اختار الباحثون اللون الأصفر ليبيّن أعلى شدة في الإشعاعات الصادرة، يليه اللون البرتقالي. أما اللون الأسود فيعني ضعف أو انعدام الإشعاعات الصادرة من الفجوة السوداء.
عند اقتراب المادة من أفق الحدث، فإن الذرات تتحطم، وفي حين تسقط النوى في الفجوة السوداء (داخل أفق الحدث) لغير رجعة، فإن الإلكترونات تدور بسرعة قريبة من سرعة الضوء حول الفجوة تحت تأثير قوة جاذبيتها ومجالها المغناطيسي.
تمثّل الدائرة المظلمة المركزية ظل الفجوة السوداء، أما الحلقة المتوهجة حولها فتبيّن الإلكترونات والأجسام المشحونة الأخرى التي تدور حولها بسرعة كبيرة جدًا.
قدّر الباحثون كتلة الفجوة السوداء بحوالي 6.5 آلاف مليون كتلة شمس (أي 13 وأمامه 39 صفرًا كيلوغرام). أما قطر أفق الحدث (الفجوة السوداء) فكان 38 ملـــــيار (ألف مليون) كـــــيلومتر، وهي بالتالي أكبر من مدار كوكب نبتون حول الشمس الذي يستغرق في دورانه 200 عام.
ويبدو حجمها لنا، بسبب بُعدها الشاسع، كحجم برتقالة على سطح القمر. إذا دار حولها كوكب أو نجم، فإن سرعته، وبسبب قوة جاذبيتها الهائلة، تكون قريبة من سرعة الضوء، ويكمل دورته حولها خلال ما يقرب من أسبوع.
شارك في التجربة التي كلفت حوالي 50 مليون دولار 200 من العلماء حول العالم بتخصصات الفلك والفيزياء والرياضيات والهندسة.
انضمت لتلسكوب أفق الحدث تلسكوبات أخرى، ليصبح عددها في الوقت الحاضر 11 تلسكوبًا. يعمل الفريق على دراسة وتحليل معلومات الفجوة السوداء الموجودة في مركز مجرة درب التبانة. ويتوقع أن يحصل بعض أعضاء الفريق على جائزة نوبل في الفيزياء خلال الأعوام القليلة المقبلة .