اقتصادات الخليج وتحديات النفط

اقتصادات الخليج وتحديات النفط

كيف يمكن لدول الخليج أن تنطلق في مسار التنمية المستدامة في ظل تراجع الإيرادات النفطية التي كانت تمول مختلف أوجه الإنفاق العام، الجاري والرأسمالي، ومن ثم تعزز القدرات الشرائية لدى مختلف شرائح المجتمعات الخليجية ومؤسسات القطاع الخاص؟

 

لا شك في أن هذا الاعتماد على الإيرادات النفطية بدأ منذ بداية عصر النفط الذي جاوز السبعين عاماً لبعض هذه الدول مثل السعودية والبحرين والكويت، ولذلك فإن أي مراجعات للأنماط الاقتصادية أو السياسات المالية سوف تواجه معارضات سياسية واجتماعية، وقد تؤدي تلك المراجعات إلى تعطيل أعمال وأنشطة بما يعني احتمالات ركود اقتصادي خلال فترات زمنية مقبلة.
لم تتمكن بلدان الخليج من خلق فرص حقيقية للتنمية المستدامة بما يتمثل بتنويع القاعدة الاقتصادية ودفع الأنشطة الاقتصادية غير النفطية لموازنة مساهمة القطاع النفطي في الناتج المحلي الإجمالي.
 
منظومة مجلس التعاون
كان يؤمل أن يؤدي قيام منظومة مجلس التعاون الخليجي لدول الخليج العربية GCC إلى تطوير مفاهيم مختلفة عما ساد قبل ذلك في الإدارة الاقتصادية. 
أُسس مجلس التعاون الخليجي في عام 1981. وجاء قيامه بعد أن ارتفعت أسعار النفط بعد حرب أكتوبر عام 1973، وبعد الثورة الإيرانية في عام 1979.
 حاول قادة دول الخليج أن يطوروا المنظومة الاقتصادية وتكريس مفاهيم جديدة للتعاون، وتم التوقيع على اتفاقيات مهمة مثل اتفاقية السوق الخليجية المشتركة واتفاقية الاتحاد الجمركي واتفاقية توحيد العملة. 
تم تحقيق التقدم في عدد من المجالات وجرى تطوير قوانين الملكية بما يمكن الخليجيين من تملّك الأصول المالية والعقارية في مختلف بلدان المنطقة من دون عراقيل كبيرة. كما أن اتفاقية الاتحاد الجمركي مكنت من تطوير آليات استيراد السلع والبضائع من مختلف البلدان، من خارج منطقة الخليج. وظلت الهياكل الاقتصادية في بلدان الخليج من دون تغيير، ولم يتم توظيف الإمكانات الاقتصادية المختلفة بشكل أفضل وأجدى. صحيح أن عدداً من بلدان الخليج قد عزز من توظيف دور القطاع الخاص في أنشطة مهمة، بما فيها القطاع النفطي وقطاع توليد الطاقة أو تقطير المياه، إلا أن تطوير منظومة اقتصادية متكاملة وتشريعات متوائمة بين بلدان المنطقة لإحداث التحولات المنشودة لم يتحقق حتى الآن.

اختلالات بنيوية
أهم الاختلالات في مسيرة التطور في بلدان الخليج على مدى فترة زمنية جاوزت السبعين عاماً، أي منذ أن أصبح النفط المصدر الأساسي لإيرادات هذه البلدان، تمثلت في الاعتماد الكبير على الإنفاق العام وهيمنة الدولة على القطاعات الاقتصادية الأساسية، وكذلك الاعتماد على عمالة وافدة لتشغيل أنشطة مختلف القطاعات الاقتصادية.
وربما جرت على مدى العقود الثلاثة الماضية تحولات بنيوية، وإن كانت متفاوتة الدرجات بين هذه البلدان، حيث مكنت الدول القطاع الخاص ليقوم بدور اقتصادي أوسع، وعملت حكومات خليجية على نقل الملكية والإدارة لأنشطة عدة إلى شركات مملوكة من قبل القطاع الخاص، كما جرت عمليات شراكة بين القطاعين العام والخاص في عدد من الأعمال.
لقد أدى تطور الاقتصاد النفطي في بلدان المنطقة إلى تكريس دور مهيمن للدولة بعد أن أصبحت إيراداتها النفطية تمثل ما يقارب 84 في المائة من إجمالي إيرادات الخزينة العامة، كمتوسط لبلدان المنطقة، وكما أصبحت قيمة الصادرات النفطية تشكل 69 في المائة من إجمالي الصادرات.
من المعتاد أن يتواتر الحديث حول تعزيز دور القطاع الخاص من خلال عمليات إصلاح وتصحيح كلما تراجعت أسعار النفط وضعفت الإمكانات الإنفاقية لدى الحكومات، لكن الإصلاح يظل مستحقاً تحت شتى الظروف والأوضاع الاقتصادية، المريحة والصعبة، حيث لابد من دفع القطاع الخاص ليلعب الدور المحوري في التنمية الاقتصادية، ورفع درجة الكفاءة في الأداء وخلق فرص العمل للمواطنين. لكن لابد من توفير التشريعات والأنظمة التي تمكّن المستثمرين الأجانب من توظيف أموالهم في القطاعات الجاذبة وإنجاز شراكات مع القطاع الخاص الوطني في أي من بلدان الخليج.

معالم الإصلاح
كيف يمكن أن تحدث عملية التنويع الاقتصادي في بلدان الخليج؟ قدر الناتج المحلي الإجمالي لبلدان مجلس التعاون الخليجية بـ 1.7 تريليون دولار، ولا شك في أن هذا المستوى للناتج المحلي الإجمالي لم يكن يتحقق دون ارتفاع أسعار النفط في السنوات 2005/2014.
 إذاً يتعين على الإدارات الاقتصادية أن تصوغ سياسات اقتصادية ملائمة لتطوير دور القطاع الخاص والحفاظ على مستويات معيشة مناسبة والارتقاء بنوعية الحياة وتوفير الوظائف المنتجة للعمالة الوطنية.
ومعلوم أن ما ذكر آنفاً يمثل تحديات مهمة بعد تراجع أسعار النفط وعزم حكومات بلدان المنطقة ترشيد الإنفاق وتعديل سياسات الدعم، وربما التوظيف في الدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع العام.
لكن، هل يمكن تحميل القطاع الخاص، من خلال سياسات التنويع والتخصيص، مسؤوليات اجتماعية مهمة، مثل المساهمة في دعم التحملات الاجتماعية الضرورية للفئات الاجتماعية ذات المداخيل المتدنية، أو توفير برامج التعليم والتدريب المناسبة للعمالة الوطنية بما يؤهل هذه العمالة للانخراط في أنشطة بكفاءة واقتدار؟ 
كيف يمكن توفير ضمان وتأمين صحي للعاملين وأسرهم من قبل مؤسسات القطاع الخاص، بما يخفف من الأعباء عن الخزينة العامة؟
هذه أسئلة مشروعة، وقد طرحت في بلدان عدة، ومنها بلدان رأسمالية عريقة مثل بلدان الاتحاد الأوربي واليابان والولايات المتحدة، وتمكنت من خلال أنظمتها السياسية أن توفر الضمانات المناسبة دون الإخلال بالتوازن الاجتماعي أو تعطيل دور القطاع الخاص في النظام الاقتصادي. 
إن بداية المعالجة لأزمة التنمية في دول الخليج يجب أن ترتكز على أهداف واضحة المعالم تلتزم بها الإدارة الاقتصادية ومن ورائها النظام السياسي القائم في أي من بلدان المنطقة، وبتقديري أن تلك الأهداف تتمثل بما يلي:
أولاً: العمل على تبني فلسفة جديدة للتنمية البشرية تهدف إلى تعزيز دور المواطنين في سوق العمل وتأهيلهم بالمهارات والإمكانات التعليمية والتدريب للتصدي لمختلف استحقاقات المهن والوظائف.
ويعني ذلك اعتماد سياسات تعليمية تؤكد أهمية التعليم المهني، وبالدرجة ذاتها التي تولى للتعليم الجامعي.
وغني عن البيان أن التطورات التقنية المعاصرة تستلزم الاستيعاب ضمن البرامج التعليمية بما يساعد على تخريج العديد من المؤهلين للعمل في المهن الجديدة، والتي يمكن أن تتوافر في الصناعات البترولية أو الصناعات الأخرى، التي تتمتع بميزات نسبية في بلدان المنطقة.
كذلك يتعين تطوير أنظمة التعليم الأساسية والجامعية لتتوافق مع متطلبات سوق العمل في بلدان المنطقة. ومهما يكن من أمر فإن التعليم والتدريب يتطلبان استمرار الاهتمام والتطوير، ويجب توفير الموازنات المناسبة لذلك التعليم وبرامج البحث العلمي. وهكذا يمكن أن تتوافر القدرات بعد سنوات من جهود التنمية البشرية للانتقال من الاقتصاد المعتمد على النفط وريعه إلى الاقتصاد المبني على العلم والمعرفة، أو ما يطلق عليه بالأدبيات الاقتصادية بالاقتصاد المعرفي.
ثانياً: تبني توجهات اقتصادية مغايرة تهدف إلى إفساح المجال أمام القطاع الخاص لكي يلعب الدور الريادي والأساسي في العملية الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في مختلف الأنشطة، بما في ذلك قطاع النفط. وإذا كانت دول الخليج قد تبنت فلسفة الإصلاح والتصحيح ونقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، فإن هناك شوطاً طويلاً يجب قطعه للوصول إلى الأوضاع المنشودة.
لاتزال أنشطة اقتصادية أساسية محتكرة من قبل الدولة، ومنها ما يتعلق بالقطاع النفطي وقطاع المرافق، مثل توليد الطاقة الكهربائية، أو تقطير المياه أو الاتصالات وكذلك النقل الجوي، وربما النقل البري في عدد من هذه البلدان، إضافة إلى عديد من الأنشطة المرتبطة بالبنية التحتية مثل المطارات والموانئ وخدمات الإسكان للمواطنين.
وعندما تطرح فلسفة التخصيص، فإن ذلك يتطلب توفير البنية القانونية والتشريعية الملائمة، وإصلاح الأنظمة البيروقراطية الحاكمة للعمل الاقتصادي وتعزيز البيئة الاقتصادية التنافسية. يضاف إلى ذلك أنه لابد من تطوير الأنظمة المالية والمصرفية المؤهلة لتوفير التمويل لنشاطات عدة يتعين على القطاع الخاص الاضطلاع بها وتنويع أدوات التمويل، ومن ذلك التمويل طويل الأجل.
أيضاً، يجب أن تتطور الأسواق المالية لاستيعاب المزيد من الأدوات الاستثمارية المسعرة مثل السندات المختلفة وذات الآجال المختلفة.

معوقات القيم
بطبيعة الحال، أوضاع القطاع الخاص في هذه المنطقة من العالم ليست مثالية. وقد يتطلب الأمر الدفع للشراكة بين القطاع الخاص المحلي في أي من بلدان الخليج وشركات أجنبية، وكذلك الدفع للشراكة بين مؤسسات القطاع الخاص الخليجية، عابرة للحدود، لتعظيم القدرات والإمكانات المالية والإدارية المطلوبتين.
يضاف إلى ما سبق ذكره أن إمكانات الشراكة بين القطاعين العام والخاص تظل مفيدة وضرورية في أعمال وأنشطة عدة، مثل المرافق والبنية التحتية والقطاعات النفطية.
هناك الآن مشروعات مهمة تتطلب مثل هذه الشراكات بين القطاعين للتمكن من تجاوز التعقيدات الإدارية التي تعانيها المؤسسات الحكومية، وكذلك للاستفادة من تمويلات للمشاريع توفرها الحكومات، وأيضاً، لتمكين القطاع الخاص من توظيف أمواله في مشاريع وأعمال ذات قيم اقتصادية ومردود اجتماعي. ويمكن أن تقوم هذه الشراكات في مشاريع الإسكان والتي تعاني التعطل وعدم الإنجاز في الآجال المستحقة.
أما مشاريع الكهرباء والمياه والنفط والخدمات الارتكازية، فهي تمثل فرصا اقتصادية واضحة من المؤمل أن ترتقي من خلال الشراكات الحكومية والخاصة PPP بمستويات إنجازها، ثم في تشغيلها بكفاءة أفضل وتوفير فرص عمل للمواطنين بعد تأهيلهم تعليمياً ومهنياً. 
ربما سيكون التحدي الديمغرافي، أيضاً، من أهم المشكلات التي ستواجه الإدارة الاقتصادية في محاولاتها لتحقيق التنمية المستدامة. هذا التحدي لا يتمثل، فقط، في إعادة التوازن بين المواطنين والوافدين، أو رفع نسبة المواطنين في التركيبة السكانية في مختلف بلدان المنطقة، ولكن هناك النمو المتسارع بين المواطنين.
هذا النمو المتسارع قد يؤدي إلى ارتفاع التحملات الاجتماعية وتكاليف التعليم والرعاية الصحية، فضلاً عن تكاليف رعاية كبار السن ومخصصات المتقاعدين. يتراوح معدل النمو الطبيعي للسكان من المواطنين في بلدان الخليج بين 2.5 و3.0 في المائة سنوياً.
وتتعزز ظاهرة صغار السن بين السكان من المواطنين في منطقة الخليج، حيث لايزال 50 في المائة من المواطنين دون سن الخامسة والعشرين، وفي بعض البلدان دون العشرين. كذلك فإن من تقل أعمارهم من المواطنين دون الخامسة والثلاثين تصل نسبتهم إلى ما يزيد على السبعين في المائة.
إذاً فإن الالتزامات تجاه التعليم ورعاية الصغار صحياً، ثم توفير فرص العمل سوف تكون مكلفة خلال السنوات المقبلة أنماط الحياة الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية لا تؤشر إلى تحولات نوعية في النمو السكاني الطبيعي، كما حدث في أوربا أو بلدان جنوب شرق آسيا أو بلدان أمريكا اللاتينية بفعل التحول من الاقتصاد الزراعي إلى اقتصاد الصناعات التحويلية.
مثل تلك التحولات تتطلب التحرر من آليات وأدوات الاقتصاد الريعي المعتمد على الإنفاق العام وتوفير الوظائف الحكومية والتزامات الدعم الحكومية الجزيلة. لن تتغير الأوضاع الديمغرافية دون قيام حكومات بلدان المنطقة بتعديل سياسات الدعم الاجتماعي. 
وإذا كانت العوامل الديموغرافية مهمة في عملية التنمية المستدامة فلابد، إذن، أن نؤكد دور المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية. ويزعم المراقبون أن المرأة قد تبوأت موقعها الملائم في المجتمعات الخليجية، وأكدت دورها في سوق العمل خلال العقود المنصرمة، كما أنها نالت قسطاً راقياً من التعليم. 
ولا شك في أن الربط بين أوضاع المرأة والعوامل الديموغرافية في منطقة الخليج مفيد لاستشراف آفاق التنمية. وحدثت تطورات في معدلات الخصوبة للمرأة الخليجية منذ عام 1970 وحتى يومنا هذا، فقد انخفض معدل عدد الأطفال للمرأة في سن الإنجاب من 6.8 إلى 3 في الوقت الراهن. 
وقد ساهمت العوامل الاقتصادية، وتنامي انخراط المرأة في سوق العمل، وارتفاع المستويات التعليمية لنسبة مهمة من النساء، وربما تأخر سن الزواج للذكور والإناث، في هذا التطور الديموغرافي. ويذكر عدد من علماء الاجتماع أنه يمكن أن يكون لوجود جاليات عربية وأجنبية في دول الخليج تأثيرات اجتماعية على المواطنين في المنطقة، بما دفع البعض منهم إلى تعديلات في الأنماط الأسرية.
يظل دور المرأة مهماً ويستحق الاهتمام من قبل السلطات والمنظمات المدنية في دول الخليج، حيث إنه مهما حدث من تطور في التعليم وسوق العمل والحياة السياسية، لاتزال المرأة بعيدة عن الحقوق المشروعة وعن لعب الدور الحيوي والمحوري في عملية التنمية.
 
مسؤوليات الإدارة الاقتصادية
ما سبق ذكره يشمل قضايا عديدة ومتشعبة، وقد تتجاوز حدود وصلاحيات وإمكانات الإدارة الاقتصادية. ويشمل عديد من الأمور والقضايا المثارة أوضاعاً اجتماعية تكرست على مدى عقود وقرون، وأسست منظومات للقيم يصعب تجاوزها.
هذه حقائق لابد من أخذها بعين الاعتبار، ولا يمكن القفز عليها، الإدارة الاقتصادية يمكن أن تحدد الأهداف وتضع السياسات التي قد تؤدي إلى تعديلات في القوانين والأنظمة الحاكمة لكل مناحي الحياة بعد حين، وربما تدفع إلى تشكيل منظومات قيم جديدة تساعد على تحقيق أهداف التنمية بشكل أفضل.
ويفترض بالإدارة الاقتصادية أن يتوافر لها الدعم من السلطات الحاكمة لكي تنجز الأهداف. إن من أهم الأمور في عملية التنمية هو السعي إلى خلق المجتمع المنتج والقادر على رفع كفاءة أفراده اعتماداً على العلم والمعرفة وكسب المهارات وتطوير ملكات الإبداع والتطوير. 
وكما هو متفق عليه بين العديد من الخبراء الاقتصاديين في منطقة الخليج، فإن تحقيق ذلك المجتمع الفاضل قد يكون سراباً في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة والمحكومة بمفاهيم وقيم الريع والاتكال على دور الدولة في توفير كل متطلبات المعيشة. من جانب آخر، فإنه على الإدارة الاقتصادية في بلدان الخليج الاستفادة من تجارب التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتجارب التعليم في البلدان الناشئة، التي اعتمدت على فلسفة اقتصادات المعرفة، ومن هذه البلدان سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان واليابان.
تلك البلدان لم تملك الموارد الطبيعية، مثل البترول، لكي ترتقي باقتصاداتها وتحسّن مستويات المعيشة لشعوبها، أو توفر لمجتمعاتها نوعية حياة عصرية متميزة، لكنها اعتمدت على كسب العلم والمعرفة والخبرة من البلدان الصناعية المتقدمة ووضع الأهداف والعمل على تحقيقها بمثابرة.

تحديات اقتصادية
وغني عن البيان أن بلدان المنطقة مقبلة على تحديات اقتصادية مهمة خلال السنوات والعقود المقبلة كما سبق بيانها، سواء كان ذلك ناتجاً عن الانكشاف على سوق النفط، أو متغيرات أو تقلبات الاقتصاد العالمي، أو التطورات الديموغرافية المحتملة داخل هذه البلدان.
هذه التحديات تتطلب الوعي والمعرفة والمتابعة من أجل إنجاز التنمية المستدامة وتحمل تبعات تلك التحديات المتوقعة، أي إن المطلوب بناء مجتمعات تتمتع بمناعات هيكلية وتتميز بقدرات لمواجهة المتغيرات في أنماط الاقتصاد العالمي ومتطلبات الأوضاع المحلية.
وقد أشارت دراسات محلية وعالمية إلى أهمية تنويع القاعدة الاقتصادية في بلدان الخليج والتحرر من الاعتماد على النفط. هل يمكن تحقيق ذلك، وما هي الأنشطة التي تحظى بميزات نسبية ويمكن أن تكون مجدية اقتصادياً؟ 
تمكنت بلدان خليجية، ومنها دولة الإمارات العربية المتحدة، من تحفيز الأنشطة الخدمية، مثل أنشطة السياحة التي تعززت بالمعارض والمؤتمرات والتسويق. لكن هل بلدان المنطقة قادرة على جذب الزوار ورفع مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي؟ لابد أن الأمور ليست بهذه السهولة، كما أن هذه الأنشطة تعتمد على عمالة وافدة كبيرة، وبما يتناقض مع أهداف التوازن السكاني.
لن يكون التنويع الاقتصادي ذا أهمية اقتصادية استراتيجية دون الارتباط بتحفيز العمالة الوطنية للعمل في أنشطة القطاع الخاص.
من المهم في هذا المضمار البحث عن الأنشطة الاقتصادية التي يمكن لها أن تحقق المردود الاقتصادي والاجتماعي المناسبين. وقد أقيم في بلدان المنطقة عديد من الأنشطة الصناعية التي تحملت دول المنطقة توفير الدعم البنيوي لها، وقدمت لها التسهيلات الملائمة والتمويلات الميسرة، ولكنها انتهت من دون أن تحقق النتائج المرجوة للمبادرين، أو توفر فرص عمل، أو السلع المطلوبة في الأسواق المحلية، أو تزيد من قيمة الصادرات.
وعند الحديث عن الاستثمار والتنويع الاقتصادي يجب تأكيد أهمية مشاركة المستثمرين الأجانب والمؤسسات العالمية المتخصصة في هذه الأعمال من أجل كسب الخبرة والتقنيات الحديثة وحسن الإدارة. ولاتزال دول الخليج بعيدة عن الاستفادة المثالية من الاستثمار الأجنبي في أنشطة اقتصاداتها.
وكانت قيمة هذه التدفقات في عام 2012 نحو 28 مليار دولار وبلغت 40 ملياراً في عام 2016. ولا شك في أن هناك أهمية لتحسين بيئة الاستثمار في بلدان المنطقة وتطوير الأنظمة والقوانين الحاكمة للعمل الاقتصادي. قد تكون هناك بلدان في الخليج أكثر قدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية من بلدان أخرى في المنطقة، نظراً إلى بيئة العمل وسلاسة الأوضاع الإدارية، ولذلك يتعين أن تتوحد منظومة القوانين والأنظمة بما يحسّن من بيئة الاستثمار في هذه البلدان بموجب مقاييس متجانسة. وغني عن البيان أن الاستثمار المباشر في دول الخليج أصبح مهماً، وعلى هذه الدول الاهتمام بتطوير بنيتها الاقتصادية، وتأكيد الانتقال إلى أوضاع تمكن من الانتقال من اقتصادات تعتمد على النفط إلى اقتصادات تؤسس على المعرفة والابتكار والإبداع والاستفادة من تطورات التقنيات الحديثة.

الخاتمة
إن تحديات التنمية في بلدان الخليج تتطلب تحديد الأهداف لفلسفة التنمية المستدامة وتوضيح معالم الطريق لبلوغها. والتنمية تتطلب توفير إدارة اقتصادية متمكنة وذات عزيمة وتملك الصلاحيات الملائمة. هذه الإدارة العتيدة يفترض أن تعمل بموجب قوانين وأنظمة عصرية تشمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ولابد أن تواجه الإدارة الاقتصادية في مساعيها لتحقيق التنمية عدداً من الاعتراضات والعقبات وتعقيدات منظومة القيم، ولكن تطور البناء التنموي وانعكاسات إنجازاته لابد أن يحدثا متغيرات في منظومة القيم ويحدا من العقبات الأخرى.
التساؤل الأخير والكبير: هل يمكن لبلدان الخليج أن توظف مواردها البشرية والمادية بكفاءة متناهية، مثل توظيف قدرات القطاع الخاص والعمالة الوطنية ومنظومة التعليم والمعرفة للانتقال إلى أوضاع اقتصادية حديثة، وفي الوقت ذاته تطوير المجتمعات الخليجية إلى مجتمعات مؤهلة للإنتاج والتنمية من دون الاتكال على العمالة الوافدة والإنفاق الممول بإيرادات النفط؟ ■