ضمنيات الخطاب في الرسوم المتحركة الموجهة إلى الأطفال

ضمنيات الخطاب في الرسوم المتحركة الموجهة إلى الأطفال

تفتقر الساحة التربوية والترفيهية العربية، بشكل عامّ، إلى أعمال تلفزيونية كرتونية (رسوم متحركة) أصيلة، تأليفًا وتمثيلا وإخراجًا، فتلجأ الأقنية الفضائية إلى استيراد الأفلام والسلاسل الكرتونية من الجهات المنتجة (الولايات المتحدة، اليابان، أوربا، الهند، ...)، وتعمل على دبلجتها باللغة العربية الفصحى أو باللهجة العامية أو بلغة وسطى.
انتشرت قنوات تتوجه إلى الطفل العربي بأجندات ثقافية ومحمولات قيمية متنوعة تختلف باختلاف الخط التحريري الذي تنتهجه كل قناة، وتعكس الرؤية التي تتبناها الجهة التي تقف خلف تمويلها وللأيديولوجيا التي تنطلق منها.
ثمة خطوط عريضة لا بد من التوقف عندها في رصد المنتجات المدبلجة المعروضة في هذه القنوات؛ بعض تلك الخطوط ذو طبيعة فنية تقنية، والآخر ذو طابع ثقافي قيمي حضاري:
أولًا: ثمة موجة من السلاسل والأفلام العالمية التي تنتشر في وقت متزامن باللغات العالمية، فلا غرابة في أن تعمد القنوات إلى العمل على دبلجتها وبثها لتكون مواكبة للموجة الوافدة.
ثانيًا: قد لا يكون القائمون على الترجمة والدبلجة من المتخصصين في المواد الثقافية والترفيهية الموجهة إلى جمهور الأطفال، بل يكونون هم أنفسهم من العاملين في تلك المواد الموجهة إلى البالغين.
ثالثًا: ينهض المضمون الأخلاقي السائد في الأعمال الموجهة إلى الأطفال بشكل غير مدروس، في معظم الأحيان، على قيم متضاربة: صراع الخير والشر، حماية البيئة، حسن المعاملة، ممارسة العنف الدفاعي أو الهجومي، الصداقة، بر الوالدين، بحيث لا توجد رؤية واضحة ولا رسالة متكاملة تُهندس الخطاب الثقافي الذي تبثُّه القناة، ماعدا القنوات ذات الخلفية الأيديولوجية المكشوفة أو ذات الرسالة الثقافية التي يغلب عليها طابع التطابق مع الموقف الرسمي للدولة أو الجهة المُموّلة للقناة.

مكانة مركزية
رابعًا: يُلاحظ في السنوات الأخيرة انتشارُ دخول الروبوت (الإنسان الآلي) بقوة وتغلغلُه في المسلسلات الكرتونية الموجهة إلى الأطفال، وغزارة موضوعات تتعلق بغزو الفضاء، وهذا ينتمي إلى منطق العصر الذي أصبحت الآلات الذكية تحتل فيه مكانة مركزية في تعزيز رفاهية الإنسان، ولكنها تحمل بذور الاستغناء عن المشاعر والعواطف الإنسانية (على عكس السنوات الماضية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، على سبيل المثال)، حيث كانت سلاسل الرسوم المتحركة تفيض بالمشاعر والقيم والمبادئ (بال وسيباستيان، سالي، بائعة الكبريت).
ومن الملاحظ أن الرسوم المتحركة تتراوح بين أنواع وتوجّهات متنوعة أهمّها المغامرات والترفيه والخيال العلمي والقصص العالمية.

فرز ضروري
خامسًا: ثمة منهجية لدى المنتجين الأمريكيين للمواد الثقافية والترفيهية الموجهة إلى الأطفال في بث القيم الأمريكية والعولمة، أما منهجية الدول الآسيوية، ولا سيما اليابان فتنحو نحو التعريف بالثقافة المحلية وإظهار أبعادها الأخلاقية وخصوصياتها القيمية.
سادسًا: لمّا كان خطاب الرسوم المتحركة ينطلق من زوايا الخيال فينميها ويطورها، فقد ارتبط ذلك بفرز ضروري لمجالات إباحة توسيع الأَخْيِلة، بما لا يتضارب والمعتقداتِ المجتمعية السائدةَ.
وهنا تُطرح مسألة جدلية الحرية الإبداعية والتطابق مع قيم المجتمع الذي يتم بث تلك الأعمال الفنية في مجاله التداولي.
   ومن المعلوم أن الرسوم المتحركة التعليمية وسيلة ناجعة للتثقيف والتسلية في آن، ولعل التجارب الرائدة في هذا المجال في السياقات الغربية، تجعل مواكبتها من التحديات الكبرى، وتبدو الدبلجة حلًّا مؤقتًا يعبّر عن الحاجة إلى المتابعة، ولكن الحل الجذري المسهم بالفعل في حل مشاكل التقليد، هو تهيئة الأرضية المناسبة لإطلاق أعمال إبداعية مبتكرة مشتقة من صميم احتياجاتنا الثقافية، بحيث لا نكتفي بالانتقاء والمحاكاة والترجمة والنقل والاقتباس، بل نبتكر ونبدع ونضع نموذجنا الخاص... لكن هذه المرحلة لا بد أن تسبقها تلمذة راشدة على أيدي مهرة صُنّاع الأفلام والمسلسلات الكرتونية العالميين، واستقاء أسرار الإبداع في هذه المجالات ومفاتيح التطوير والتبيئة وحسن الاستعمال. 
ولعلّ عملية التبيئة تشمل مستويات متنوعة:
- التصرف في الشخصيات (تعريب الأسماء، أو إيجاد أسماء مقابلة لأسماء الشخصيات الكرتونية الخيالية، من قبيل: السنافر وشرشبيل...).
- التصرف في تعريب نص الحوار بين الشخصيات، عبر إضفاء طابع عربي خالص على النص، (مثل اعتماد السجع في «حكايات ماشا» التي تبثها بعض القنوات الموجهة إلى الطفل).
- ثمة محاولات (وإن كانت قليلة، مثل «عمي مصلح»)؛ لاقتباس القصص التراثية والعالمية وإضفاء القيم العربية الإسلامية عليها، واستبعاد القيم الدخيلة.
لعل الأهداف التجارية لكثير من القنوات الموجهة للأطفال (لبيع المنتوجات وترويجها: ملابس، إكسسوارات، أطعمة،...)، تجعل السلاسل ممهدة لتعزيز النزعة الاستهلاكية ولتشكيل العقلية السلبية التي تفتقر إلى التحليل الناقد، وإنما تستسلم للقيم الأمريكية المعولمة.
وتحتاج ساحة الإنتاج الخيالي الموجه إلى الأطفال العرب إلى:
- تعزيز حضور المتخصصين التربويين في بيداغوجيا الطفل، وعلماء نفس الطفل في مراجعة الأعمال الخيالية الموجَّهة للطفل، وتقديم التوجيه المناسب عند صياغة تلك الأعمال وتجهيزها للعرض.
- القيام بدراسات ميدانية تستكشف تطلُّعات الأطفال واحتياجاتهم المعرفية والنفسية لتحقيق التوازن المطلوب، بين المعرفي والقيمي والمهاري؛ وفق أسلس الطرائق وأفضل السبل المدروسة والمعتمدة، مع الاستئناس بأفضل التجارب العالمية في هذا المجال.
- تمكين الفنانين الموهوبين من الإمكانات اللازمة والحرية الإبداعية المسؤولة من أجل ابتكار سلاسل وقصص وأفلام موجهة إلى الأطفال تكون مطبوعة بطابع الأصالة والانفتاح بطريق مدروسة شائقة، وليست مثقلة بالوعظ والمباشراتية. نتذكّر بكلّ شغف سلسلة «النقار الزهواني» (Woody) التي نجح المخرج عبدالقادر الجربي وطاقم الممثلين في تبيئتها في بيئة تونسية لا تخلو من طرافة خلال حقبة زمنية سابقة للطفرة التي شهدناها أخيراً في الأعمال والقنوات الموجّهة إلى الطفل.
- الملاحظ أن الرسائل قد تختلط بين رسائل يرسلها الكبار إلى الصغار (الجمهور المستهدف) وبين رسائل يرسلها الكبار إلى الكبار، ولكنهم يتخذون المحمل (الرسوم المتحركة: وهو محمل موجّه إلى الأطفال في الأصل) قناعًا لتجنّب المؤاخذة التي قد يُؤاخذون بها لو نزعوا القناع وصرّحوا برسائلهم بطريقة مباشرة أو في محمل موجّه للبالغين. فتصبح الرسوم المتحركة في هذه الحال ضربًا من القالب الذي تُصبُّ فيه مضامينُ ليست خاصة بالأطفال بالضرورة، ولكنها موجّهة إلى جمهور يُقصد من طرْف خفيّ. 
- تقوية حضور اللغة العربية المبسطة والإدخال المدروس لمعجم وتراكيب عربية تجمع بين مواكبة العصر والاستجابة لقواعد العربية وأصولها.
- الخروج من نمطية التجديد الشكلي، وجعل التجديد عميقًا يشمل معالجة المضامين معالجةً تُنقِّيه من الرواسب والتأثيرات غير المرغوب فيها.
إن الخطاب الترفيهي الموجّه إلى الأطفال يعني في أدناه توجيه سلوك الجيل القادم، ويمكن أن يبلغ في أقصاه برمجة سلوكهم ورسم أُطُر أحلامهم وتشكيل أذواقهم وتحديد قيمهم ومُثُلهم العليا. صحيحٌ أن الخطابات المتجهة للأطفال كثيرة ومتدافعة، ولكن ثمة خطوطا عامّة مشتركة تتعلق بالانتقال من مجتمع الجماعة (الأسرة، القبيلة، المجتمع، الدولة) إلى المجتمع المعولم، ذي الخصائص الكونية.
فالشركات العالمية المحتكرة للإنتاج الموجّه إلى الأطفال تعمد إلى إفراغ الطفل من مخزوناته الثقافية الأصيلة والمحلية، تمهيدًا لملئه بقيم معولمة تجعله النسخة المناسبة والطيعة لتعليمات الشركات العابرة للقارات، والتي ازداد نفوذها بالأواصر الشبكية (عبر مختلف الوسائط السمعية البصرية ولا سيما عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي).
ثمة قيم أخلاقية كونية تنقلها القصص الموجهة إلى الأطفال والتي تجد طريقها إلى التعبير عنها وفق صياغات لغوية أضحت المقابلاتُ التي تُعبِّرُ عنها معهودةً في مختلف اللغات الحيّة.

معطيات ثقافية
غير أن ثمة معطيات ثقافية مرتبطة بطقوس ذات طابع ديني معيّن أو بعادات وقيم متصلة برؤية إلى العالم تحتكم إلى خصوصيات البيئة التي أُنتجت فيها القصص الموجهة للأطفال، ومن ثم فهي مناسبة للجمهور الأصلي المستهدف باللغة التي أُلِّفت بها تلك القصص.
كما أن التعامل مع حيوان الخنزير، على سبيل المثال، في سلسلة «بابا بيغ» (Peppa Pig) لا نتصوّر أنه سيكون مستساغاً في سياق مجتمع إسلامي، على اعتبار أن المنظور الديني القائم على تحريم أكل لحم هذا الحيوان، يحول بالاستتباع دون قبول تشخيصه والتعامل معه بشكل يُسوّي بينه وبين سائر الشخصيات الحيوانية. فالرمز الذي يرتبط به في السياق الإسلامي هو الحظر والمنع. ولذلك فإننا نجد أن الترجمة العربية لأهزوجة «عمي عنده ضيعة كبيرة» قد أهملت المقطع الذي يتحدث عن الخنزير، وتجاوزته. فهنا نلاحظ أن عملية التبيئة سلكت مسلك الحذف، وقد تسلك في مواضع أخرى وسياقات أخرى مسلك التحوير أو التعديل أو التصرّف أو الالتفاف .