أيهما أسبق بمعرفة الطباعة بالأحرف المنفصلة الكوريون أم جوتنبرج؟

أيهما أسبق بمعرفة الطباعة  بالأحرف المنفصلة الكوريون أم جوتنبرج؟

عرف الكوريون الطباعة بالأحرف المعدنية المنفصلة في عام 1234م، أي قبل ظهور اختراع جوتنبرج إلى النور في 1455م. فقد ظهرت الطباعة عند الكوريين بشكل أساسي بغرض طباعة التريبيتاكا الكورية، التي تحتوي على تعاليم الديانة البوذية، حيث نقشت في بادئ الأمر على لوحات خشبية كبيرة بلغ عددها أكثر من 80 ألف لوحة، وهي محفوظة الآن في معبد ها- إين - سن.

استخدم الكوريون اللغة والكتابة الصينية لتدوين كتبهم الأدبية والدينية. وجاءت من الصين أيضاً في نهاية القرن الرابع الميلادي الديانة الجديدة (البوذية)، التي أثرت بشكل حاسم في تطور الثقافة الروحية والكتابة والطباعة في كوريا، ومن هنا يُعتقد أن الكوريين تعلموا فن الطباعة من الصينيين.
 وتعتبر كوريا مهد الطباعة بالقوالب الخشبية، ففي أكتوبر 1966م، تم الكشف عن أقدم نص مطبوع بوساطة القوالب الخشبية معروف حتى الآن، وهو عبارة عن الكتاب البوذي «دهاراني سوترا»، حيث عثر عليه في باغودة (أي برج بوذي على شكل هرم أو قبة) بولجوسكا بمعبد مدينة كونغ - جو (تقع في جنوب شرق كوريا الجنوبية). 
ويتكون هذا النص من اثني عشر لوحاً خشبياً، يبلغ عرض كل لوح 8 سم، وطوله 6.2 أمتار، ومن المرجح أن يعود هذا الكتاب إلى عام 706م. 
تُرجم هذا الكتاب من اللغة السنسكريتية إلى اللغة الصينية في عام 704م ثم انتقل من الصين إلى كوريا، حيث طبع في عام 706م على أقل تقدير، ويحفظ «دهاراني سوترا» اليوم في المتحف الوطني في سيول. ويعتقد بعض الخبراء أن الكوريين سبقوا الصينيين في الطباعة بالقوالب الخشبية، نظراً لأنه لم يكتشف حتى اليوم في الصين أي نص مطبوع بالقوالب الخشبية يعود إلى ذلك الوقت. وأدخل الكوريون تطويراً مهماً على تقنية الطباعة منذ القرن الثالث عشر للميلاد، وهو استخدام الأحرف المعدنية المتحركة بدلاً من الخشب.


التريبيتاكا الكورية 
تحفـــظ التريــــبيتاكا الكــــورية في معــبـــــد ها - إين- سن في جنوب شرق كوريا الجنوبية. وتعتبر التريبيتاكا الكورية جزءا من برنامج «اليونسكو» لذاكرة العالم. 
التريبيتاكا هي كلمة سنسكريتية تعني «السلال الثلاث»، ويشير مصطلح التريبيتاكا إلى التعاليم البوذية بشكل عام. ومن أجل الحفاظ على هذه التعاليم ونشرها، تم إنتاج 20 نسخة من هذه التعاليم وتوزيعها على البلدان الآسيوية. وتعتبر التريبيتاكا الكورية هي النسخة الأكثر دقة واكتمالاً من هذه النسخ العشرين.

التريبيتاكا في أرقام
-  بدأ العمل في طباعة التريبيتاكا الكورية تقريبا في عام 1237، واستمر 16 عاماً، وتم الانتهاء من طباعتها في عام 1251. 
-  استغرق نقش الأحرف على القوالب الخشبية ما يقرب 50-60 عاماً، واستخدم 81.258 قالب طباعة خشبياً، وهو ما يصل وزنه إلى 280 طناً. 
-  يبلغ سمك كل قالب 4 سم تقريباً، لذلك إذا وضعت هذه القوالب جميعاً، يصل ارتفاعها إلى 3200 متر تقريباً، أي أعلى من قمة جبل با-إيكدو (2744 متراً)، وهو أعلى قمة جبلية في الجزيرة الكورية.
- حفر 52382960 حرفاً على القوالب الخشبية يستغرق 30 عاماً لقراءتها جميعاً، وذلك بمعدل 4000 أو 5000 حرف يومياً. 
وعلى الرغم من طباعة التريبيتاكا الكورية في القرن الثالث عشر الميلادي، فإن جمال الأحرف المنقوشة على اللوحات الخشبية يتجاوز بكثير التريبيتاكا المطبوعة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث أنجز مهمة حفر الأحرف على القوالب الخشبية فريق عمل مكون من نحو ثلاثين نقاشاً، فيما تتمتع الأحرف بشخصية واحدة ورح متوازنة لا تختلف عن بعضها.
في عام 2000 تمت رقمنة كل القوالب الخشبية من التريبيتاكا الكورية، بعد أن استغرق العمل فيها 9 سنوات متصلة، وتكلف المشروع 8 ملايين دولار، لكن في عام 2004 بدأ مشروع أكثر طموحاً، وهو نقل التريبيتاكا من القوالب الطباعية الخشبية إلى القوالب الطباعية النحاسية، لأن الدورة الحياتية للقوالب الخشبية هي 1000 عام، في حين أن الدورة الحياتية لقوالب الطباعة النحاسية 10000 عام.

متحف التريبيتاكا الكورية
حفظت التريبيتاكا الكورية في بادئ الأمر في جزيرة كانغوا، لكن بدءاً من عام 1938 تم حفظها في معبد «ها - إين - سن» في الجنوب من شبه الجزيرة الكورية، والذي يعتبر المكان الأفضل والمثالي، حيث يقع في جنوب كوريا، بعيداً عن هجوم أي جيوش غازية أو قراصنة المحيط.
حفظت التريبيتاكا في 108 أعمدة، وبحسب المعتقدات البوذية، فإنه إذا حلت كلمات بوذا في مكان نجس، فإنها تنيره وتطهره. ويتميز معبد ها-إين-سن بمناظره الملونة وكذلك درجة الحرارة والرطوبة المعتدلة التي تساعد على حفظ القوالب الخشبية للتريبيتاكا. وصنعت رفوف التخزين من خشب صلب وسميك، مربع الشكل، وتم ترتيب الألواح الخشبية على الرفوف مثل الكتب، ولكن في طبقتين، واحدة فوق الأخرى.
في عام 1960 أمر الرئيس الكوري بارك يونج - هي ببناء متحف خاص بالتريبيتاكا، وأن يكون مكان هذا المتحف بالقرب من الجبل المشيد عليه معبد ها-إين-سن، وذلك للحفاظ على القوالب الخشبية من خطر الحريق، لكن مع بدء نقل بعض الألواح الخشبية إلى المبنى الجديد للتجربة، تبين ظهور بعض الفطريات على الألواح الخشبية، لذلك تم التخلي عن فكرة نقلها. 
وعلى الرغم من نشوب 7 حرائق في معبد ها-إين-سن على مدار تاريخه، فإن مكان حفظ ألواح التريبيتاكا الخشبية لم تصل إليه الحرائق، وهو ما يعتبره الكوريون هدية السماء لهم.

الطباعة بالأحرف المعدنية 
شهدت الطباعة في كوريا تطوراً كبيراً خلال القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد نتيجة للتطور الكبير للتعليم في البلاد. فقد تأسست حينذاك في كوريا جامعة رسمية ومدارس كثيرة خاصة، ولأجل هذه الجامعة والمدارس فقد كانت الكتب تطبع في المكتبة الملكية، بينما كان الرهبان يتولون طباعة الكتب الدينية غالباً في المعابد.
واستطـــــاع الكوريــــون خـــلال حكـــــم الملــــك سي - جونج (1397-1450) تطوير صناعة الأحرف المعدنية من مادة الرصاص، فقاموا بصب قاعدة حروف في عام 1434م تحت مسمى «قاعدة حروف كابين Kabin typeface»، التي أصبحت شائعة الاستخدام حتى القرن العشرين. 
ومن خلال الفحص المقطعي لهذه الأحرف المعدنية، تبين أنها تتكون من 84 في المائة نحاس، 3-7 في المائة زنك، 5 في المائة رصاص، 0.1 في المائة حديد، وتعتبر هذه المعادن المزيج المعدني لصب أحرف طباعية قوية وصلبة.
ومن أهم إنجازات الطباعة الكورية: جيكجي أقدم كتاب مطبوع بالأحرف المعدنية المنفصلة، والتريبيتاكا الكورية أضخم مطبوع بالقوالب الخشبية.
أما أقدم كتاب طبع بوساطة الأحرف المعدنية المتحركة فكان «قواعد مفصلة وأصلية لأصول السلوك»، الذي طبع عام 1234م في 28 نسخة بجزيرة كانغاوا (على الشاطئ الغربي من كوريا). ومع أنه لم يبق إلى اليوم أي نسخة من هذا الكتاب، فلا يوجد هناك شك في صدوره، إذ إن لدينا معطيات عنه في كتاب آخر طبع بعده بوساطة القوالب الخشبية، حيث يذكر فيه بوضوح أنه طبع بالاستناد إلى طبعة سابقة أنجزت بوساطة الأحرف المتحركة.
لذلك، أسست كوريا متحفاً أو ورشة محاكاة لصف الأحرف المعدنية المتحركة، حيث يقوم أحد المتخصصين بمحاكاة عملية صب الأحرف الرصاص بدءاً من صهره وحفر القالب السلبي، ثم صب الرصاص المنصهر في القالب بعد حفر الحروف المختلفة، ثم الحصول في النهاية على شجرة أحرف معدنية.

كتاب جيكجي
أقدم كتاب مطبوع بالأحرف المعدنية المنفصلة موجود حاليا هو جيكجي، ويعرف هذا الكتاب باسم Buljo Jikji Simche Yojeol، لكنه يعرف اختصاراً باسم Jikji ، وطبع في عام 1377، أي إنه سبق ظهور أول كتاب لجوتنبرج بحوالي 87 عاماً.
 وهذا الكتاب محفوظ حاليًّا في المكتبة الوطنية الفرنسية، وهناك مطالبات عديدة لإعادته مرة أخرى إلى كوريا. ويتضمن كتاب Jikji مجموعة تعاليم للمعلم باو-كيون هواسانج، وطبع في مدينة تشيونجو في يوليو عام 1377.

جيكجي ورحلة البحث عن مكان للاستقرار
في بداية القرن العشرين، تم حفظ Jikji في مجموعة القنصل الفرنسي في سيول كولين دي بلانسي. لكن الكتاب بيع إلى جامع التحف والكتب القديمة هنري فيفير في أثناء مزاد أقيم عام 1911، وبعد موت فيفير عام 1950، تم إهداؤه إلى المكتبة الوطنية الفرنسية، حيث يحفظ حتى يومنا هذا. 
وبعد سنوات من النسيان والإهمال، أعيد اكتشاف Jikji على يد د. بارك بينجنسن، وهو يعمل أمين مكتبات في المكتبة الوطنية الفرنسية. وأثار Jikji الانتباه على المستوى الدولي حين عرض في عام 1972 في معرض «الكتاب» الذي أقامته «اليونسكو» في باريس.
 
جائزة دولية باسم جيكجي 
في عام 2001، انضم Jikji إلى قائمة «ذاكرة العالم» في سجل «اليونسكو». ونظراً لأهميته، فقد وافق المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو في عام 2004 على تأسيس جائزة قدرها 30.000 دولار أمريكي تحت مسمى «جائزة جيجكي لذاكرة العالم». وتمنح هذه الجائزة مرة كل عامين للأفراد والمؤسسات التي تساهم بشكل فعال في الحفاظ على توثيق التراث، وقد منحت الجائزة حتى الآن خمس مرات (2005-2013). 
 أخيراً، تعرضت الطباعة الكورية لضربة قوية خلال الحكم الياباني للبلاد في الفترة من 1592م إلى 1598 م، حين قام اليابانيون بتدمير معظم الأحرف المعدنية، لذلك فإن الكوريين عادوا بعد الانسحاب الياباني إلى الطباعة بالقوالب الخشبية، رغبة منهم في بعث النشاط الطباعي بأسرع وقت. 
ويظل دور الكوريين في تاريخ الطباعة مهماً وفعالاً، فقد كانوا أول من استعمل الطباعة بوساطة القوالب الخشبية، كما كانوا أول من فكر بطبع الكتب بوساطة الأحرف المعدنية المتحركة. وبالإضافة إلى هذا، فإنه لا يستبعد أن يكون اكتشافهم الأخير قد أثر في تطور الطباعة في أوربا. ومع أنه ليس لدينا بعد ما يثبت معرفة جوتنبرج بتقنية الطباعة الكورية، فإن الباحثين في السنوات الأخيرة لا يستبعدون أن يكون خبر اكتشاف هذه التقنية قد وصل عبر طريق الحرير إلى القسطنطينية أولا ثم إلى أوربا الغربية.
جدير بالذكر أن متحف الطباعة المبكرة عقد اجتماعاً دوليّاً لمختلف متاحف الطباعة على مستوى العالم لتأسيس الجمعية الدولية لمتاحف الطباعة، على أن يكون مقرها في تشونجو، وذلك بهدف توثيق تقنيات وتاريخ الطباعة على مستوى العالم ■

 

معبد هينزا

 

درجة الحرارة والرطوبة المعتدلة كانتا تساعدان على حفظ القوالب الخشبية

 

صناديق الحروف المستخدمة في الطباعة