أحمد العدواني من مقاعد الأزهر إلى ريادة التنوير
يعيش المؤثرون في الحياة بعمر إنجازاتــهم، لـــــــذلك فــــــهم لا يرحلون، ويبقون بيننا لأن هناك من يحيي ذكراهم. الشاعر أحمد مشاري العدواني أحد أبرز صانعي الثقافة الحديثة في دولة الكويت، سواء على صعيد العمل المؤسسي أو الأثر الإبداعي. وقد أصدر عنه الكاتب حمد عبدالمحسن الحمد أخيراً كتاباً موسعاً تنـــاول مــــن خـــلاله سيرته الذاتية، ليس على طريقة التراجم التقليدية، بل جاء بــشكـــل ســــردي ينــسجم مع كون المؤلف روائياً في الأساس، كما ضمنه وجهات نظر تحليلية لينأى به عن كتب السيرة النمطية.
الكتاب الذي صدر عن دار «ذات السلاسل» في الكويت جاء بعنوان «أحمد مشاري العدواني... من مقاعد الأزهر إلى ريادة التنوير». وبرغم أن العنوان يحدد الفترة الزمنية منذ دراسة العدواني على مقاعد الأزهر، فإن الكتاب يعود إلى ما قبل هذا التاريخ بكثير، فهو يناقش أولاً الاختلاف حول سنة مولد العدواني ما بين 1922 و1923، ويبدو أن لا أحد حتى الآن يعرف التاريخ بالضبط، لأن المؤلف الحمد التقى في الكتاب زوجة العدواني د. دلال فيصل الزبن وأقرباء الراحل، ولم يحصل على تاريخ محدد. كما يعود المؤلف إلى التواريخ الاجتماعية للعدواني من خلال وجود عائلته في الكويت التي نقلها على لسان قريب العدواني، يوسف خالد حمد العدواني: «أول من قدم للكويت هو الجد عبدالعزيز العدواني، وقد هاجر من الطائف بالحجاز بعد أن حدث صدام بين الأشراف هناك والدولة العثمانية، وكانت جماعته تناصر الأشراف، وكان ذلك تقريباً عام 1815م».
بعد ذلك يصل المؤلف إلى مقاعد الدراسة الأولى التي درس فيها العدواني، ونلاحظ في هذه الفترة من حياة العدواني تنقله ما بين «الكُتَّاب» والمدارس النظامية. فكان أول من تلقى علوم القرآن الكريم على يديه الشيخ عبدالعزيز حمادة، ثم التحق بمدرسة «الأحمدية»، لكنه ما لبث أن تركها عائداً إلى «الكُتَّاب»، وهذه المرة لدى الشيخ أحمد الخميس، ليعود بعد ذلك إلى المدرسة الأحمدية، فالمباركية التي أنهى فيها دراسته عام 1938م، ليرسله والده بعد ذلك إلى الأزهر الشريف ليدرس اللغة العربية فتخرج عام 1949م.
التضحية بالدراسات العليا
ينقل المؤلف عن زوجة الراحل تضحية زوجها بتركه فكرة استكمال دراسته العليا في الأدب العربي المقارن بالأدب الإيطالي، بعد أن تمت كل الترتيبات لذلك، لكنه عدل عن رأيه مفضلاً نشر الثقافة في الكويت آنذاك، إذ جاءه تكليف حينها من وزير الإعلام الشيخ جابر العلي الصباح باختياره أميناً عاماً للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في عام 1973م. ولكن قبل هذا التاريخ كان العدواني قد أصدر مع زميله حمد الرجيب مجلة «البعثة» في عام 1946م.
ولا يتوقف المؤلف الحمد كثيراً عند المهام والمناصب التي شغلها الراحل العدواني، بقدر ما يحاول الدخول في تفاصيل حياتية يراها ربما لم تُكتشف كما يجب، لذلك قال لي عن كتابه حين التقيته في رابطة الأدباء الكويتيين، إنه تجنب أن يكون كتابه مدرسياً. لذلك فهو يتطرق في باب مكثف بعنوان «عمل وكفاح» عن المهام التي قام بها العدواني بعد تخرجه في الأزهر الشريف وعودته إلى وطنه الكويت، فيذكر أنه التحق بالتدريس في المدرسة القبلية، ونُقل في عام 1954م إلى ثانوية الشويخ مدرساً لمادة اللغة العربية، واستمر فيها عامين، حيث أصبح السكرتير العام لدائرة المعارف. وفي عام 1957 شغل منصب المعاون الفني لمدير المعارف، وبعد استقلال الكويت صدر مرسوم أميري بتعيينه وكيلاً مساعداً للشؤون الفنية، ثم في عام 1973م عيّن أميناً عاماً للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
حكاية البدلة الإفرنجية
بعد الاستعراض لهذه الملامح من الحياة العملية للراحل أحمد مشاري العدواني، يوغل المؤلف حمد الحمد في التقاط تفاصيل لم تذكر كثيراً من قبل، فيتحدث عن لباسه وحكاياته مع شخصيات التقاها العدواني وبعض الأزمات التي تعرض لها. فينقل أولاً على لسان يوسف العدواني ابن عم الشاعر، أن الراحل اعتاد على ما أسماه «البدلة الإفرنجية»، لكن المؤلف في موضع آخر من الكتاب يذكر أن العدواني كان يرتدي اللباس الأزهري في أثناء دراسته هناك، وهي العمامة والقفطان والجبة، وكان يشارك بهذا اللباس في التظاهرات التي يخرج بها طلبة الأزهر إما ضد الإنجليز وإما لمناصرة قضية فلسطين.
ويتذكر ابن عم الشاعر أنهم ما رأوه يوماً عائداً إلى منزله إلا وبصحبته كتاب أو مجلة، فيدخل غرفته ليقرأ أو يكتب، ولم يكن يشارك أقرانه اللعب في الحي منذ صغره، إنما كان يولي اهتمامه للقراءة والانكباب على الكتابة. وكذلك لم يكن العدواني يقود السيارة، بل كان يعتمد على سائق، وحين سأل المؤلف نجل الشاعر معد العدواني عن سبب ذلك، أجاب بأن «والده يسرح كثيراً، وهو دائم التفكير، لذلك لا يجد رغبة في قيادة السيارة وهو بهذه الحالة».
ولم تتوقف حكاية قيادة السيارة عند هذا الحد، فقد أدخلها المؤلف في حكاية سياسية روتها د. دلال الزبن، فقد ارتبط ذلك بمرحلة المد القومي والفكر الاشتراكي والشيوعي، ويومها نشرت إحدى الصحف المصرية خبراً مفاده أن الشاعر العدواني منخرط بهذا العمل ويترأس إحدى الخلايا الشيوعية، وتقول الزبن: يومها لاحظ الراحل أن سيارة تتبعه منذ خروجه من البيت وحتى وصوله إلى عمله في ثانوية الشويخ، وكان كالمعتاد لديه سائق يقود السيارة، وفي إحدى المرات تغيب السائق فاحتار العدواني كيف يصل إلى عمله، فما كان منه إلا أن أوقف السيارة التي كانت تتبعه، فلم يرفض قائد السيارة طلبه وأوصله فعلاً، لكنه في الطريق قال له: «بالعادة نراقب الشخص أين يذهب وأين يأتي، ولكنك أنت يا أستاذ لا تغادر البيت». بعد ذلك بأيام أرسل الشيخ عبدالله الجابر رسالة إلى الصحيفة مفنداً الخبر الذي نشرته عن العدواني.
ويروي المؤلف حكاية تعلُّم العدواني للغة الإيطالية، حيث سكن في أول وصوله إلى مصر في شقة صغيرة لدى سيدة إيطالية عجوز، وذلك حين تأخرت مخصصات البعثة، فأعجب العدواني بلغتها، وبدأ يتعلم مبادئ اللغة الإيطالية، وحين عاد إلى الكويت بدأ بتعلمها بشكل مكثف حتى أتقنها، وهذا ما يفسر وجود كتب ومراجع ومؤلفات بالإيطالية في مكتبته.
يمزج المؤلف حمد الحمد في كتابه الجديد، بين أحمد العدواني المؤسس للثقافة والشاعر، فيعود إلى بداياته حين كان والده يصطحبه إلى جلسات شعرية في قرية الفنطاس، وكان حينها في الثانية عشرة من عمره، فيحفظ من أشعار الموجودين، وحين توقدت قريحته بدأ يكتب الشعر، لكنه لم يكن يلقيه بل يكتفي بنشره، وفق المؤرخ أحمد الشرباصي الذي استشهد به المؤلف في كتابه: «مَن دفع العدواني لقول الشعر، والدُه، لأن والده كان يحفظ شعراً كثيراً ويترنم به، ولهذا بدأ بقول الشعر في الثانية عشرة من عمره، ومن أوائل شعره قصيدة كانت في الهجاء وقد فُقدت». ويقول المؤلف إن الشيخ الشرباصي أشار إلى أنه: «يؤخذ على العدواني أنه لا ينشد شعره، بل يكتفي بنشره». وهذا الفتى كبرت شاعريته مع الأيام بما يكفي لأن يضع النشيد الوطني الكويتي.
عائلته وطقوسه مع أبنائه
من سمات الكتاب، أنه يتنقل في حياة العدواني من غير تسلسل صارم، فهو مثلاً يتحدث عن ناحية اجتماعية ثم يعرج على حياته الشعرية، ليعود بعد ذلك إلى حياته الاجتماعية، وهكذا... ثم إلى حياة الشاعر الأسرية، حيث كان زواجه تقليدياً، إذ تقدم إلى فيصل سعود الزبن أحد المحسنين المعروفين في دولة الكويت، ليطلب يد ابنته دلال وكان ذلك في عام 1960م، وتروي زوجته عن طقوسه العائلية أنه كان يصطحب أبناءه: مشاري ولينة وماجد ومعد، إلى مكتبة الأندلس في حولي ويبقى معهم ساعات طويلة فيها.
يذكرنا المؤلف في كتابه بأعمال قام بها الشاعر لكن قلة من يعرفون ذلك، ومنها إسهامه في ظهور معهد الكويت للأبحاث العلمية إلى النور، وذلك من خلال إثارته مع جهات عليا لاتفاقية جرت مع شركة نفط يابانية تتضمن التزام الشركة بإنشاء معهد للأبحاث، بعد أن يصل إنتاجها إلى حد معين، وحين تم لها ذلك، أثار العدواني هذا الموضوع حتى أُسس المعهد. وكذلك الأمر في موضوع إنشاء المعهد العالي للفنون الموسيقية والمعهد العالي للفنون المسرحية، حيث يعتقد المؤلف أن العدواني - رحمه الله - لم يأخذ حقه في ذكر أدواره بتأسيس هذه المعاهد.
الكتاب الذي وضعه المؤلف حمد الحمد عن الشاعر العدواني بمنزلة سقف جمع تحته معظم إنجازاته الثقافية، إن لم يكن جميعها، فمن بواكير الدراسة والتدريس إلى غرس جذور الثقافة في تربة أنبتت مجلات قيمة، مثل «عالم الفكر» و«إبداعات عالمية» وسلسلة «عالم المعرفة» و«الثقافة العالمية». وغيرها من صفحات مرت من فوقها بصمات رجل صامت عن الكلام، لكنه صاخب الحضور ■