بني ملال جوهرة مدائن الأطلس

بني ملال جوهرة مدائن الأطلس

 لم يكن لي مثل آخرين حظ التمتع بالاستقرار في مدينة محددة، فوالدي كان كثير الترحال بحثاً عن المكان الأنسب لتجارته وتأمين مورد عيشه. وكنت أتنقل معه وأقيم أينما حل، لذلك عرفت منذ طفولتي الأولى أمكنة ووجوها وخرائط لا حصر لها. لكن في عز مراهقتي، تركت البيت وتوجهت صوب مدينة بني ملال (وسط المغرب) كي أتابع دراستي الثانوية. 

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها هذه المدينة، فقد قدر لي أن أزورها وأنا في العاشرة من عمري، وخلفت هذه الزيارة في نفسي أسئلة مربكة حول العالم والحياة وإحساساً بالغ الحدة بأن هذا المكان يخفي أسراراً علي أن أكتشفها.
أتيتها وأنا مصاب بكسر بليغ بمرفقي الأيمن، محاطاً بعدد من أفراد العائلة تصلني أصواتهم المهموسة وهي تردد في حزن إنهم سيبترون يدي كاملة.
تملكني رعب شديد لم أفصح عنه، بدأت أفكر في أن من حملوه إلى المشفى إنما ليؤذوه أو ليقطعوا يده اليمنى، هذه التي أتناول بها الطعام، وأكتب بها، وأدافع بها عن نفسي كلما أحسست أنني معرض لمكروه. لكن معجزة حدثت، أعجوبة، لم أعرف إلى الآن من كان وراء ذلك، ولا ماذا فعل كي أستعيد عافيتي، أطبيب، أم ساحر، أم مهندس عظام بارع؟
 هنا، عرفت المدينة من نافذة المشفى في الطابق الثاني، أو الثالث... لا أذكر بالضبط، لكن أذكر أنني كنت في جناح يتسع لعشرات المرضى. 
في اليوم الثاني من إقامتي استرجعت أنفاسي وعاد إلي الهدوء بعد ساعات طويلة من الهلع والبكاء، ويدي معلقة على صدري ولا أشعر بأي ألم. لهذا، صرت أقضي النهار كاملاً أتأمل سطوح المنازل، الأزقة، مجاري المياه المتدفقة، والأشجار الكثيفة الملتفة على بعضها. كنت أقف على قدمي فوق السرير، أو أثني ركبتي وأتكئ بيدي اليسرى على حافة النافذة وأستغرق وقتاً طويلاً في تأمل جبال الأطلس الشامخة الممتدة.
 أمكث واقفاً إلى أن أرى الشمس وهي آيلة للغروب في مشهد يشعرني بالرهبة، فأبقى على حالي أراقبها بانبهار وهي تبهت. أنا أتحسر وأتمنى لو أنها تظل بيضاء مشتعلة حتى لا يتغير اللون الذي ينعكس على زجاج النافذة ويغمر غرفة المرضى. كنت أحبس أنفاسي، ألاحقها من دون كلل حتى تختفي.
 يأخذ الظلام في الانتشار لتسكن المدينة تحت أضواء باهتة لا تسعفني على الرؤية. في هذا الوقت يعلو صوت دافئ مؤثر لأحد المرضى يتلو آيات من القرآن الكريم، كان ممدداً لاصقاً على سريره لا يتحرك، لم أسمع صوته ذات ليلة، وحينما سألت عنه قيل لي رحمة الله عليه لقد توفي، فحزنت، ولازمني الحزن عليه إلى أن غادرت المشفى.
أعود إلى بني ملال، قد عادت إلى ذهني صورة ذلك الجبل الممتد طولاً وعرضاً، لاح لي وأنا أشرف على المدينة، اهتزت أحشائي، أقنعت نفسي بصعوبة أنني لست ذاهباً إلى المشفى، لكن لأواصل دراستي، فهنا لا يوجد مشفى فقط بل توجد أيضاً مدارس، مكتبات وحدائق، لا شيء يدعو إلى القلق.
سعدت لأن الثانوية التي سأدرس فيها توجد على السفح ومحاطة بالأشجار، بينما الداخلية حيث المطعم ومأوى النوم تقع على سطح الجبل في مكان خال من المباني، أو فيه بيوت قليلة متفرقة، والمسافة الفاصلة بينهما تتطلب جهداً متواصلاً للنزول والصعود عبر ممرات ملتوية عدة مرات في اليوم.

تأمل ومعرفة
لكنني لم أبال بشيء، بل عثرت صدفة على متعة لا حد لها. بدأت من حيث لا أدري أخوض مغامرة استكشاف أسرار الأرض المرتفعة وما فيها من نبات وهواء وماء ومنعرجات، فمنحني ذلك رغبة عارمة في التأمل والمعرفة، وخطر في بالي أن أعبر طرقاً غير سالكة خلف مبنى الداخلية طامعاً في الوصول إلى قمة الجبل لأرى من هناك كل هذا العالم الذي يحيط بي. انتعلت حذاء خفيفاً ورحت أتسلق وسط الأشواك والصخور الضخمة.
سرت أزيد من ساعة وأنا أداري العياء الذي هدني فلم أستطع الوصول إلى القمة. وجدت نفسي فجأة معلقاً بين الأرض والسماء، وبرودة شديدة أخذت تسري في عظامي لم أحتملها، فقفلت راجعاً بخطى واسعة مسرعة، أقفز من موضع لآخر تماماً كما تقفز القرود أو القطط البرية. 
في المساء كنت منتشياً، وكان لدي إحساس بأنني خضت مغامرة جعلت في لحظة ما العالم كله تحت بصري. لقد رأيت أحياء وشوارع بني ملال بحجم كف صغيرة، ورأيت الحقول والغابات المنتشرة حولها، والقرى والمدن المجاورة لها التي بدت لي قريبة حتى خلت أن خطوات قليلة تكفي لزيارتها.

عتاب وندم
غير أنني أحسست في لحظة ما بالندم إذ كان من الممكن مثلاً أن أهوي على صخرة، أو يفاجئني طير أو حيوان من تلك التي أبصرتها تحلق بأجنحة رمادية فوق رأسي، أو تدرج وهي تطلق أصواتاً عميقة على بعد أمتار مني، وأنا كنت بمفردي ولا أحد يساعدني إن ألم بي مكروه. 
خمّنت أني غامرت بحياتي، فعاتبت نفسي من دون رحمة على ما فعلت، ومع ذلك ظلت قمة الجبل تشغل بالي. فقد كنت أراها قريبة مني خاصة عندما تعلوها الثلوج في فصل الشتاء الذي كان طويلاً وثقيلاً في ذلك الوقت بالذات أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، فأخال أنني سأصل إليها وما علي إلا أن أتهيأ على نحو ما يجب كي لا أتعثر. 
ولا أعرف بالتحديد ما الذي كان يعنيني لأصر بعناد طفل على الوصول إلى أعلى الجبل دون التفكير في أنه قد يخدعني.
 أحياناً أشعر بعجز يروعني، وقد صرت مسكوناً برغبة أن أقف هناك على سطح أسطورة من التراب والصخور والأشواك، ودنيا من الأهوال والأهواء والأعباء، تستفزني بمكر لا يدع الشك بأنني سأنازل عملاقاً جباراً لا يخفي ملامحه عن عيني. لقد كدت أجن وأنا آخذ الطريق يوماً لأول مرة من بني ملال باتجاه مدينة القصيبة (قصيبة موحا وسعيد)، إذ رأيت امتداده في سلسلة من الجبال، أحسست أنني أدرج على ظهرها وهي تعلو وتنخفض، تضيق وتتسع، فبقيت مشدوداً إليها، مفتوناً بثباتها واهتزازها الذي لا يرى، أو لا يرى إلا في حلم عصي طويل.
شغلتني أشياء أخرى، أو بالأحرى تعلمتها، فصارت من العادات التي لم تفارقني إلى اليوم، القيام في الصباح الباكر حتى لا أفوت على نفسي رؤية الشمس وهي تطلع هائلة من خلف الجبال، والسير على قدميّ لمسافات طويلة كي أتشمم الهواء الطيب المفعم بروائح النباتات والأشجار، وأستريح كلما أحسست بالتعب قرب مجرى ماء ينحدر من إحدى العيون.

عين أسردون
 تعلقت خاصة بمنبع الماء الخرافي عين أسردون التي أسرتني بجمالها، فدأبت على زيارتها مرة أو مرتين في الأسبوع. فتنتني وأنا أقف في كل مرة مندهشاً أمام الفوهة الضخمة المدورة التي يتدفق منها الماء بقوة لافتة، ويندفع صافياً أشد ما يكون الصفاء، وبارداً أشد ما تكون البرودة. أدركت أن الماء ثروة، ونعمة، متعة، وسحر. 
أعب إناء أو اثنين، أغسل يدي ووجهي، أدلي ساقي في الحوض الذي يستقر فيه الماء قبل أن يتدفق عبر مجاري ملتوية بين الحقول. وأحيانا، عندما يكون الجو ملائماً، أنزع ثيابي كاملة وأغرق جسدي في الماء، فلا أغادره إلا وأنا بارد مثل قطعة ثلج، فلا أستعيد الدفء إلا بعد أن أقضي وقتاً طويلاً تحت أشعة الشمس.  تعلقت أيضاً ببعض الفواكه التي يكثر إنتاجها في بني ملال أو نواحيها، فسكنتني منذ ذلك الوقت رائحتها، طعمها، ولعي بفاكهة الرمان لا يضاهيه الآن ولع بأي فاكهة أخرى. بدأ ذلك قبل قدومي إلى بني ملال، لكنني هنا اكتشفت كل أسرار الرمان. أنزع بمهل وعناية قشرة الرمانة، أنشر حبها أمامي على طبق أبيض، أبقى مذهولاً وأنا أحس بريقي يتدفق مالحا قبل أن أتناوله بتأنٍ مستمتعاً بمذاقه الرائق.
لقد كنت أرى هذه الفاكهة، وفواكه أخرى، معروضة بوفرة في الأسواق، فأشعر وأنا أرى الناس يقبلون على اقتنائها أنهم هم أيضاً يعشقونها، وأن ثمة قرابة تجمع بيننا. تأكد لي ذلك حين أخد بعض أصدقائي ممن يتابعون الدراسة معي، وكلهم قدموا من القرى والمدن المجاورة (أو من بني ملال نفسها)، يشاركونني هذا الاستمتاع. وربما كان لذلك أثر في عمق العلاقات التي ربطتنا وظلت مستمرة إلى الآن. كان منهم من يرافقونني إلى عين أسردون، يكنون الإعجاب نفسه الذي أكنه لها، أو يرافقونني إلى ساحة الحرية بوسط المدينة ودروبها التي سمحت لنا باكتشاف أحوال الناس وطبائعهم، ورغباتهم، ومتعهم، ونحن مبهورون أمام بعض المشاهد التي كنت أتتبعها في الواقع كما عبر خيالي علني أعثر على الطريق إلى أسرارها. ومهما يكن صارت المدينة بأجوائها وطقوسها، بردها وحرها، صخبها وصمتها، أحزانها وأفراحها، مظاهرها، ألغازها، صارت جزءاً من كياني، أحسه شلالاً غامراً دائم التدفق.  

زيارات متواصلة
 عندما غادرت بني ملال صوب الدار البيضاء مكثت مسكوناً فيها، فلا أنقطع عن زيارتها لرؤية أحيائها، وجبالها، وعيونها، وفاكهتها، وتأسرني اليوم تلك الأحياء التي ظلت وفية نابضة بالحركة والملامح والألوان نفسها.  
يفصلني الآن زمن طويل عن تلك اللحظات التي أعتبرها بصدق يوم مولدي الحقيقي، حيث كنت كما لو أني خلعت عن عيني غشاوة، ورحت اكتشف بلهف حقائق الحياة والناس، فوقعت أسير الطبيعة وهندسة الأحياء. 
واجهات البيوت، وصرت أينما وليت وجهي أحس بجرعة عشق تتدفق في دمي. تغيرت أشياء كثيرة اليوم، لكن ما زال، بالرغم من اتساع رقعة البناء وإتلاف مساحات من الأشجار، واختفاء عدد من منابع المياه، ذلك النبض الثري القوي حياً يستدرجني من وقت لآخر، فأطاوعه كلما استبد بي الشوق لأتشمم رائحة الطعام والشاي والهواء والنبات وكل عبق أرض وفضاء تلك المدينة. 
أقضي بعض الوقت عند أفراد من عائلتي أو أصدقائي، والوقت الآخر أحجز فيه غرفة بفندق يمكنني موقعه من الاستمتاع بالجبال. بزوغ الشمس ووجوه البسطاء الذين كنت أطمئن إليهم وأمشي بينهم دون توجس، وأنا أعرف أن أمكنة أخرى يسودها التربص والاستعداء. أراهم قبل أن يظهر النور جماعات وفرادى قرب المحطة يبحثون عن عمل، فأهبط لأخترق الصفوف وأمضي إلى مقهاي لأشرب كأس شاي أو قهوة وأدخن وأتصفح جريدة، ثم أقوم لأتجول، وقد يأخذني الطريق إلى أماكن قريبة مثل أفورار، تاكزيرت، القصيبة، زاوية الشيخ، قصبة تادلة... وهي أماكن أعتبرها أجنحة لهذا المحيط الضخم، الفخم، المفعم بالخصب والسحر ■

 

شلالات عين أسردون

 

يستمتع سكان بني ملال بوفرة العيون والمنابع والفرش المائية