الإعلام العربي بين التوجيه والمصداقية: د. سليمان إبراهيم العسكري

الإعلام العربي بين التوجيه والمصداقية: د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          لعبت الأحداث العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية على مدى الشهور الماضية دورًا كبيرًا في استعادة الجمهور العربي، شيوخًا وشبابًا، اهتمامهم بالإعلام العربي، الذي وجد نفسه مطالبًا بتقديم صور حية لما يحدث، واضطر أن يخالف قليلاً سياسات قديمة اعتاد فيها الإعلام أن يرضي السلطات على حساب الجمهور فإذا به يجد نفسه وجهًا لوجه أمام جمهور غاضب يبحث عن الحقائق فقط ويرفض التزييف أو الالتفاف. فهل حقًا نجح الإعلام العربي في مهمته، وهل كانت الانتفاضات العربية سببًا لاستعادة الإعلام العربي المرئي والمكتوب دوره الحقيقي في «إعلام» وتنمية الوعي الجماهيري العربي أم أنه يحتاج بدوره إلى انتفاضات جماهيرية ونخبوية لكي يستعيد دوره الحقيقي؟

  • على مدى العقد الماضي وبعد انتشار الفضائيات وموجة الصحافة الخاصة في العالم العربي انتشرت ألوان من الصحافة والإعلام تهتم بالفرقعات والإثارة والتضخيم على حساب الحقيقة
  • عندما كشفت فضيحة التنصت الأخيرة اهتز عرش إمبراطورية موردوخ الإعلامية لأن الجماهير فقدت المصداقية في الصحيفة بالرغم من أن عمرها يتجاوز الـ160 عامًا!
  • دخل مجال الاستثمار في الإعلام مستثمرون لا علاقة لهم بالإعلام فرضوا شروطًا بهدف لفت انتباه الجمهور بأي ثمن فكانت النتيجة عشرات من برامج الإثارة وأعمالاً درامية بلا مضمون أو قيمة فنية
  • ما ثبت أن الجمهور يريده من شفافية ومصداقية وذوق عالٍ دليله الانتفاضات العربية المتواصلة اليوم التي تنادي فيها الجماهير بكل ما سلب منها وبينها حق المواطن في إعلام يحترم عقله

 

          لعل هذه الأسئلة قد أصبحت اليوم أسئلة ضرورية، بل وملحة على هامش الفضيحة الإعلامية البريطانية الخاصة بإحدى الوسائل الإعلامية الكبرى التي كانت حديث العالم قبل أسابيع عدة ولاتزال. فقد احتلت أخبار فضيحة صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» البريطانية الخاصة بالتنصت  على الهواتف صدارة أخبار العالم على مدى الأسابيع الماضية، خصوصًا بعد أن تأكدت الأنباء وتم إغلاق الصحيفة وبتأييد جماهيري من البريطانيين. وكان للحدث تداعياته على المنظومة السياسية في بريطانيا حيث تم استجواب رئيس الوزراء البريطاني في مجلس النواب، إضافة إلى التداعيات التي ألقت بظلالها على الإعلام المرئي والمكتوب في أرجاء العالم.

تداعيات عربية

          فما هي التداعيات التي تخص صحافتنا وإعلامنا العربي من هذه القضية؟ وخاصة فيما يتعلق بالمصداقية، وأيضًا فيما يتعلق بالمسئولية الإعلامية المفترض أن تقوم بها مؤسساتنا الإعلامية كأجهزة تنمية للوعي في المجتمعات العربية؟

          على مدى العقد الماضي، وبعد انتشار الفضائيات والقنوات الخاصة، وموجة الصحافة الخاصة في العالم العربي انتشرت ألوان من الصحافة والإعلام الذي يهتم بالفرقعات الإعلامية والإثارة والتضخيم، على حساب الموضوعية والحقيقة، وفي كثير من الأحيان يكون لوقائع غير مثبتة بالأدلة، أو حتى لقضايا ليست لها أهمية، وهو ما يثير أسئلة مهمة وضرورية عن حقيقة مثل هذه الممارسات الإعلامية وكونها تقوم بدور تخريبي وتدميري للوعي وللعقل العربيين بدلا من الدور الواجب أن تقوم به في بناء هذا الوعي، فضلاً عن اختلاق القصص والفضائح والتهم مما لا أصل له على أرض الواقع.

          وحين نتأمل الأغلبية العظمى من القنوات الفضائية تلك سنجد أن اهتماماتها تتراوح بين الجانب الإخباري الموجه، أو الطابع الديني السطحي، أو طابع المنوعات الغنائية والبرامج ذات الطابع الترفيهي. وفي الألوان الثلاثة سنجد أن طابع البحث عن الإثارة والتضخيم هو الشائع أكثر بكثير من الطابع المتزن الرصين، فالقنوات الإخبارية يطغى عليها نوع من الإيديولوجيا وخدمة مواقف أو اتجاهات سياسية على حساب غيرها، وحتى في تقديمها لما يعرف بالبرامج الحوارية فإن ما تبثه تلك القنوات تحت هذا المسمى يفتقد كل صلة له بموضوع الحوار الحقيقي الذي يفترض أن يكون مناقشة جادة ورصينة وعميقة بين طرفين أو أكثر على معرفة بما يتحدثون عنه، ترسخ فكرة الحوار العلمي وأهميته بدلا من تقديم الحوار  كأنه حوار طرشان يتبادل فيه أطرافه الاتهامات والشتائم وكانهم في حلقة مصارعة، ولا أقول مصارعة للثيران.

          أما اللون المسمى بالديني فيبحث في أغلبه في قضايا شكلية، لكنها إما تروج للخرافات والغيبيات، أو تركز على موضوعات من قبيل تفسير الأحلام أو تقديم شخصيات من عرفوا بالدعاة الجدد الذين يقدمون للجمهور ألوانًا من قشور الموضوعات التي يتم تناولها بسطحية بدعوى اجتذاب الشباب للقيم الدينية بينما لا يعدو ما تقدمه تلك القنوات كونه لغوًا واجتذاب الشباب بخطابات خفيفة تبتعد ابتعادًا كاملاً عن أي قضايا جادة تهم الشباب، وتخاطب عقولهم بل وتحترمها أو تعرفهم بطبيعة الحضارة الإسلامية في قمة مجدها وشموخها حين كان علماء المسلمين هم الأبرز في إنتاج العلم والمعرفة وإشاعة قيم العقلانية والتحضر.

          أما النوع الثالث الخاص بالمنوعات فهو الأكثر انتشارًا والذي يعمل على إشاعة التفاهة والسطحية في المجتمعات العربية، والاهتمام بالنمائم وأخبار فلانة وفلان ممن يعملون في مجالي الغناء أو التمثيل، على حساب أي قيم فنية ونقدية من شأنها أن تعلي الذوق الفني والثقافي للمجتمعات العربية. وبعض ما يقدم أحيانًا لا يعدو كونه نقلاً أو ترجمة لما ينتجه الغرب من برامج من دون مراعاة للاختلافات الثقافية أو الأخلاقية أوالقيمية بين المجتمع الذي تنتج فيه تلك البرامج والمجتمع المنقول إليه وهو المجتمع العربي.

          وهكذا يغيب عن الإعلام العربي كل ما يمكن أن يقدم وعيًا حقيقيًا سواء عبر البرامج الوثائقية التي تقدم للمشاهد العربي التاريخ المنير لحضارته أو المعارف العلمية التي تنتج في الغرب يوميًا أو حتى الجهد العلمي الذي ينتج في المنطقة العربية مهما كان قليلاً أو نادرًا، كما تغيب الفنون الرفيعة التي تعلي من ذوق المشاهد العربي وتغذي ذائقته الفنية وملكته النقدية فيما يشاهد، وهو ما يصدق أيضًا على تاريخ الأمة وتراثها وعلى الثقافة والأدب اللذين لا يجدان لهما موضعًا محترمًا على ساحة الإعلام العربي المرئي والمكتوب مع استثناءات محدودة. فضلاً عما تقوم به هذه القنوات من إهمال شبه متعمد للغة العربية، أساس وجود هذه الأمة.

فقدان المناعة!

          إن هذا المناخ الإعلامي العربي قد أصيب في الحقيقة بالعديد من آفات صحف الإثارة في الغرب، مع فارق أساسي هو وعي الجمهور، فعندما كشفت فضيحة التنصت الأخيرة هذه اهتز عرش إمبراطورية الصحافة التي يديرها روبرت موردوخ، لأن الجماهير الغربية بوعيها فقدت المصداقية في الصحيفة والمؤسسة التي تصدرها ورحبت بإغلاق الصحيفة التي مضى على صدورها ما يناهز مائة وسبعين عامًا (صدرت صحيفة نيوز أوف ذا وورلد للمرة الأولى العام 1843 وكان توزيعها يصل إلى مليونين ونصف المليون نسخة ورقية في بريطانيا وحدها أسبوعيًا)  وبالرغم من ثقلها في عالم الإعلام، بالإضافة إلى تمتع بريطانيا بالمناخ القانوني الذي يوفر الحل القانوني للمخالفات التي تؤدي إلى التلاعب بوعي الجمهور.

          إننا اليوم في العالم العربي لا نستغرب أو يثير فضولنا أن نرى مؤسسات صحفية عملاقة تعمل على تزييف الوعي، وبينها مثال دال كانت بطلته صحيفة الأهرام العريقة (عمرها أكثر من مائة عام) التي ارتضت أن تزيف صورة نشرتها كل وسائل الإعلام العالمية، وقد مر الموضوع مرور الكرام، بالرغم من أنه عرّض الصحيفة لحالة من انعدام المصداقية لم تعرفها على مدى تاريخها. وهذا مثل واحد عابر فقط.

          واليوم في ذروة أحداث الانتفاضات والثورات العربية، سواء في تونس أو مصر، أو في سورية وليبيا واليمن، نتابع القنوات الإخبارية فنرى الخبر ونقيضه، على قناتين متجاورتين وأحيانًا على القناة ذاتها، فأيهما  يصدق الجمهور؟ ألا يفقد مثل هذا التضارب الثقة والمصداقية في هذه المنابر الإعلامية؟ وأليس ذلك في الواقع دليلاً دامغًا على أن الإعلام العربي أصبح مجرد أداة من أدوات أصحاب المصالح والأهواء المختلفة وربما أصحاب المصالح من جهات أجنبية لا تزال تريد التدخل في شئون المنطقة لمصالحها الخاصة السياسية والاقتصادية؟

          إن مثل هذا التضارب والسطحية واللامبالاة في تناول الأخبار، وغياب المضامين الدقيقة والجادة في الإعلام العربي جعل من هذا الإعلام أداة تشويش للجمهور العربي وانحراف لوعيه بدلاً من أن يكون وسيلة للتوعية ومعرفة الحقائق والبحث عما وراءها، والخلفيات الحقيقية لكل خبر مما يبث فيها. إذ أن الكثير من القنوات تبث الصورة نفسها لكنها تتناولها تناولاً يجعل المحتوى مختلفًا ومتناقضًا بين قناة وأخرى. فضلاً عن التزييف أحيانًا في تركيب الصورة التليفزيونية والتدخل في تركيب الأصوات!

الغش الإعلامي ودور الدولة

          ومثل هذه الوقائع والتناقضات تطرح سؤالاً مهمًا حول دور الدولة في تحمل مسئوليتها لحماية الفرد من الغش الصحفي والمعلوماتي؟ وما هي الجهات المنوط بها أن تتحمل هذه المسئولية لترشيد وضبط التدفق المعلوماتي وفي التوجيه السياسي الخاطئ، وما هي المعايير الواجب الالتزام بها مهنيًا وأخلاقيًا من قبل وسائل الإعلام العربي؟ فما هو الفرق مثلا بين تعرض المواطن العربي لغش تجاري يتمثل في الحصول على مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك، وبين التعرض لغش إعلامي؟ أليس التعرض للأخيرة أخطر أثرا على العقل والفكر والطريقة التي يسلكها المواطن في حياته كلها لاحقا؟

          إن الاختبار الذي تعرض له الإعلام العربي خلال الفترة الماضية أثبت أن الدور الإعلامي في وسائل الإعلام العربي يحتاج إلى أن تعاد صياغته من جديد لاستعادة الهدف الحقيقي من هذا الإعلام الذي يفترض أن يكون معنيًا بالمصداقية، وتعريف المواطن العربي بما لا يعرفه، وأن يتحرى في بحثه عن الحقائق الدقيقة وأن يتحلى بالأمانة في عرض تلك الحقائق. وأن يؤدي دوره الأساسي في بناء عقلية عربية ناقدة قادرة على الحكم على الأمور، وإخضاعها لمنطق العقل، وليس خلق عقليات مشوشة مستريبة فاقدة الثقة في نفسها وفي السلطات التي تحكمها وفي إعلامها على السواء.

          إن أبرز مشكلات الإعلام العربي أنه نشأ في ظروف أعقبت استقلال الدول العربية، حيث كان المفترض به أن يلعب دورًا أساسيًا في ترسيخ إحساس المواطنين باستقلالهم عن الاستعمار وصياغة شخصية وطنية خالصة فاعلة وواثقة بنفسها ووطنها، بالإضافة إلى الدور المهم الخاص بالتنمية وبإعلام الجماهير بحقائق الأمور عن الدولة الجديدة وإثارة الحس الوطني والقومي، وإشراك المواطن في تحمل مسئولية بناء هذه الوطن على جميع الأصعدة.

          لكن هذا الدور انحرف عن مساره تدريجيًا، وأصبح مصطلح «الإعلام الموجه» مصطلحًا سيئ السمعة إذ إنه استبدل بدوره الأساسي في «توجيه وعي الجمهور» دورًا جديدًا هو صناعة هالة تقارب هالة القداسة من السلطة الحاكمة، تجعل منها ملهمًا رشيدًا، يعلو على النقد والحساب. واستخدم الإعلام العربي تراث التبجيل الأبوي الذي يسود المجتمعات العربية في صياغة هذه المفاهيم بحيث يصبح ترسخها في الوعي طبيعيًا وبديهيًا وهو ما شاهدنا بعض ظلاله حتى في ذروة أحداث الانتفاضات العربية في بداياتها وخصوصًا في مصر حين استهجن البعض فكرة محاكمة الرئيس بدعوى أنه أب للمصريين!

          وبعد ظهور الصحافة المستقلة والقنوات الخاصة بدأ الإعلام والصحافة العربيان مرحلة من البرامج الحوارية أسفرت في النهاية عما أوردناه سابقًا من ألوان ثلاثة هي الإخبارية والدينية والمنوعات، وفي الألوان الثلاثة من البرامج بدا جليًا أن الإعلام العربي يستدعي كثيرًا من نماذج غربية وينقلها كما هي دون مراعاة للخصوصية مما أدى إلى مسخ هذا الإعلام لأنه لم يعد أصيلاً، أو على الأقل لم يراع الظروف التاريخية للإعلام في الغرب، وتحول الإعلام السياسي والديني إلى تجارة رابحة يتسابق عليها كل من يملك مالاً وجاهًا، فينشئ صحيفة أو قناة تخدمه سياسيًا ودينيًا، وطبعًا ماليًا في الأساس.

ثوابت تاريخية

          إن الإعلام الغربي له تاريخ ابعد من تاريخ الصحافة والإعلام في المنطقة العربية، فالمعروف أنه في حوالي عام 1465م، بدأ توزيع أولى الصحف المطبوعة وعندما أصبحت تلك الأخبار تطبع بصفة دورية، أمكن عندها التحدث عن الصحف بمعناها الحقيقي وكان ذلك في بدايات القرن السادس عشر. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر أخذت الصحافة الدورية بالانتشار في أوربا وأمريكا، وأصبح هناك من يمتهن الصحافة كمهنة يرتزق منها, وقد كانت الثورة الفرنسية حافزا لظهور الصحافة الحديثة، وبالتالي فقد تمكن هذا الإعلام، مكتوبًا أولاً ثم مرئًيا، من أن يرسخ تقاليد المصداقية والنزاهة واحترام الجمهور على اعتبار أنه نشأ في مناخ مختلف، وفي دول عرفت الثورات الشعبية مبكرًا، وتأسست لديها مفاهيم الديمقراطية والقيم الليبرالية التي رسخت لاحقًا من القيم العقلانية ومن فردية المواطن الغربي، وهذا كله لم يتحقق في مجتمعاتنا العربية.

          ولهذا فإن هذا الإعلام الغربي، أيا كان انفلاته أحيانًا باتجاه الإثارة، هو في النهاية يخضع لرقابة «وعي النخب والجمهور» في الغرب أولا والقوانين الفاعلة ثانيًا، وبالتالي فإن فضيحة  مثل فضيحة التنصت لصحيفة موردوخ كفيلة بأن تقضي على أي مؤسسة إعلامية أيًا كان شأنها. وليس هذا هو واقع الأمر في منطقتنا العربية مع الأسف.

          صحيح أن إعلامنا العربي تعود بداياته إلى القرن قبل الماضي حيث ظهرت أولى الصحف في بغداد 1818 ثم في القاهرة عقب الحملة الفرنسية على مصر في  العقد الثاني من القرن التاسع عشر، حينما أصدر الوالي داوود باشا أول جريدة عربية في بغداد اسمها «جورنال عراق»، باللغتين العربية والتركية، وذلك عام 1816، بعدها ومع حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798, حيث أصدرت في القاهرة صحيفتين باللغة الفرنسية. في عام 1828 أصدر محمد علي باشا صحيفة رسمية باسم جريدة «الوقائع المصرية»، وفي عام 1867 صدرت في دمشق جريدة «سوريا». ثم تتابعت الحركة الصحفية العربية تباعا. حتى أنها تقارب اليوم ما يناهز ألف مطبوعة. واليوم، بالرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة فإن الثابت أن عدد الصحف العربية يناهز ألف صحيفة (ما بين صحيفة يومية وأسبوعية ومجلة أسبوعية وشهرية). أما الفضائيات فتناهز نحو 1500 قناة فضائية (والرقم يحتاج الى التدقيق). وبالرغم من هذه الأعداد الكبيرة إلا أن الشائع فيها هو انعدام المهنية وشيوع ما أشرنا إليه من قلة الموضوعية والمصداقية.

          كما أن ظهور الإعلام العربي المستقل وإن حاول أن يقدم ألوانًا من الإعلام الذي يحاول أن يبدو كأنه إعلام حر غير موجه، لكنه في النهاية أيضًا لابد أن يخضع لمصالح رأس مال هذه المؤسسة، وفي أحيان كثيرة، وكما تابعنا على مدى الأعوام الأخيرة، يدخل مجال الاستثمار في الإعلام مستثمرون لا علاقة لهم بالإعلام من قريب أو بعيد، ويفرضون شروطًا تستهدف الحصول على انتباه الجمهور بأي وسيلة مهما بدت مبتذلة، وهكذا امتلأت الفضائيات بالعديد من برامج الإثارة أيا كانت هذه المواد، بل دخل العديد من هؤلاء المستثمرين في مجال الإنتاج البرامجي والدرامي ما أدى إلى شيوع ألوان من الأعمال الدرامية التي لا تمتلك مضمونًا ولا قيمًا فنية، ولا تبتغي سوى احتلال ساعات من البث على القنوات لمضاعفة أرباح أصحاب رأس المال بأي وسيلة، ولكنها في النهاية مواد تشيع النفاهة وترسخ قيم فساد من نوع معين.

الرقابة وتخريب العقل

          ومن بين السلبيات الخطيرة التي تعتري صحافتنا وإعلامنا العربيين أيضًا مشكلة الرقابة وتقييد حرية الصحافة، فوفقًا لتقارير «مراسلون بلا حدود» فإن ثلث سكان العالم يعيشون في بلدان تنعدم فيها حرية الصحافة. والأغلبية تعيش في دول ليس فيها نظام ديمقراطي أو توجد بها عيوب خطيرة في العملية الديمقراطية. إذ تعتبر حرية الصحافة مفهومًا شديد الإشكالية لدى أغلب أنظمة الحكم غير الديمقراطية، لاسيما وأن التحكم بالوصول إلى المعلومات في العصر الحديث يعتبر أمرًا حيويًا لبقاء معظم الحكومات غير الديمقراطية وما يصاحبها من أنظمة تحكم وجهاز أمني. ولتحقيق هذا الهدف تستخدم معظم المجتمعات غير الديمقراطية وكالات إخبارية تابعة للحكومة لتوفير الدعاية اللازمة للحفاظ على قاعدة دعم سياسي وقمع (وغالبًا ما يكون بوحشية شديدة عن طريق استخدام أجهزة الشرطة والجيش ووكالات الاستخبارات) أي محاولات ملحوظة من قبل وسائل الإعلام أو أفراد لتحدي «خط الحزب» الصحيح في القضايا الخلافية.

          إن ما يجب أن يخضع للرقابة، خصوصا على الفضائيات، هو كل ما يندرج في إطار تزييف الوعي وتخريب العقل العربي، وربما أن هذه هي المهمة الحقيقية للرقيب، وليس فقط مجرد التوقف عند حذف القبلات أو التشديد على ملابس الفنانات، لكن أين الرقابة على ما يخرب العقل ويدمر عقول الشباب من هذه الغوغائية الإعلامية؟

          إن المرحلة الجديدة التي تعيشها المنطقة العربية الآن تقتضي ألوانًا جديدة من الإعلام الجاد والرصين صاحب المصداقية، خصوصا أنه قد ثبت أن ما اثير وتم ترديده تبريرًا للكثير من الإسفاف والابتذال الذي يعرض على شاشات التليفزيونات، سواء كان في شكل أغنيات راقصة، أو أفلام سينمائية أو دراما، بالقول أن هذه هي رغبة الجماهير قد ثبت أنها ليست سوى مزاعم لأن الجماهير التي كانت تعاني  الإحباط واليأس لسنوات، لم تكن تشعر بأنها تعيش في أوطان بالمعنى الحقيقي حيث يكون للجميع إرادة حرة في اختيار من يحكمهم وبالتالي انتشرت حالة من السلبية التي جعلت المنتجين يرددون مزاعمهم تلك. اما ما ثبت أن الجمهور يريده من شفافية ومصداقية وذوق عالٍ فدليله الانتفاضات العربية المتواصلة اليوم التي تنادي فيها الجماهير بكل ما سلب منها من حرية وحقوق اساسية وضرورية وبينها حق المواطن العربي في إعلام يحترم عقله.

 

سليمان إبراهيم العسكري