الأمراض النفسية سجون بلا جدران

الأمراض النفسية  سجون بلا جدران

في‭ ‬نهايات‭ ‬عام‭ ‬2012،‭ ‬نشر‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬باحثي‭ ‬مدرسة‭ ‬هارفرد‭ ‬للصحة‭ ‬العامة‭ ‬ومنتدى‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬تقريراً‭ ‬حول‭ ‬العبء‭ ‬الذي‭ ‬تفرضه‭ ‬الأمراض‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬حاضراً‭  ‬ومستقبلاً‭. ‬وقد‭ ‬رصد‭ ‬هذا‭ ‬التقرير‭  ‬التقدم‭ ‬الملحوظ‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬محاربة‭ ‬الأمراض‭ ‬المُعْدِية‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الخمسة‭ ‬المُنْصَرِمة،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّه‭ ‬سجّل‭ ‬أيضاً‭ ‬ازدياداً‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة‭ (‬كأمراض‭ ‬القلب‭ ‬والسكري‭) ‬وفي‭ ‬العبء‭ ‬الذي‭ ‬تفرضه‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬العامة،‭ ‬إذ‭ ‬تسببت‭ ‬مجتمعة‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬ثلثي‭ ‬الوفيات‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬حول‭ ‬العالم‭. ‬أمّا‭ ‬مفاجأة‭ ‬التقرير‭  ‬الحقيقية‭ ‬فكانت‭ ‬تنبؤه‭ ‬بأن‭ ‬المصدر‭  ‬الأعظم‭ ‬للنفقات‭ ‬المستقبلية‭ ‬الهائلة‭ ‬سينجم‭ ‬عن‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭.‬

رأى‭ ‬التقرير‭ ‬أيضاً‭ ‬أنها‭ ‬ستمثل‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬2030‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلث‭ ‬العبء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬المخصص‭ ‬للأمراض‭ ‬المزمنة،‭ ‬فقد‭ ‬كلفت‭ ‬آثارها‭ ‬المباشرة‭ (‬رعاية‭ ‬المرضى‭) ‬وغير‭ ‬المباشرة‭ (‬فقدان‭ ‬الإنتاجية‭) ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬حوالي‭ ‬2.5‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬ويتوقع‭ ‬لهذه‭ ‬النسبة‭ ‬أن‭ ‬ترتفع‭ ‬إلى‭ ‬حوالي‭ ‬ستة‭ ‬تريليونات‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬2030،‭ ‬وهذا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬ينفَق‭ ‬على‭ ‬أمراض‭ ‬القلب‭ ‬والسرطان‭ ‬والسكري‭ ‬والأمراض‭ ‬التنفسية‭ ‬مجتمعةً‭.‬

 

الاستجابة‭ ‬الواهنة‭... ‬لماذا؟

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬القاتمة،‭ ‬فلم‭ ‬يُحدِث‭ ‬التقرير‭ ‬أي‭ ‬تأثير‭ ‬يذكر‭ ‬في‭ ‬سياسات‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭. ‬ويرجع‭ ‬ذلك‭ ‬جزئياً‭ ‬إلى‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬تغيير‭ ‬الانطباعات‭ ‬الراسخة‭ ‬والمؤذية‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية‭. ‬فكثير‭ ‬منّا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مشكلةُ‭ ‬فردية‭ ‬بامتياز،‭ ‬وأنّه‭ ‬لا‭ ‬يمتُّ‭ ‬بأي‭ ‬صلة‭ ‬للسياسات‭ ‬الصحية‭ ‬المتّبَعة‭. ‬ويعمد‭ ‬المسؤولون‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬ذات‭ ‬الدخل‭ ‬المنخفض‭ ‬إلى‭ ‬إظهار‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مشكلة‭ ‬أغنياء‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الأول‮»‬،‭ ‬وبناءً‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬يصبح‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية‭ ‬رفاهيةً‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬تحمّلها‭ ‬من‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬إسار‭ ‬الفقر‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬وفي‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مستوياتها‭ ‬من‭ ‬الثراء‭ ‬والتطور،‭ ‬ولذلك‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إحداثُ‭ ‬تغيير‭ ‬جدي‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬تفكيرنا‭ ‬عند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أمراض‭ ‬العقل‮»‬‭.‬

ويعود‭ ‬الاستخفاف‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬وكلفتها‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬عدة،‭ ‬فمن‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ،‭ ‬يصوّرها‭ ‬المسؤولون‭ ‬الصحيون‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬تختلف‭ ‬جذرياً‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأمراض،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬نتاج‭ ‬اختلالات‭ ‬عضوية‭ ‬في‭ ‬الدماغ،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة‭.‬

‭ ‬كذلك‭ ‬يخفق‭ ‬معظمنا‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬مدى‭ ‬شيوع‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬نظراً‭ ‬لرغبة‭ ‬أصحابها‭ ‬في‭ ‬إخفائها‭. ‬ويُقدرُ‭ ‬قسم‭ ‬الصحة‭ ‬والخدمات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬44‭ ‬مليون‭ ‬أمريكي‭ ‬ممن‭ ‬تجاوزوا‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬قد‭ ‬عانوا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬النفسية،‭ ‬وأنّ‭ ‬ما‭ ‬يناهز‭ ‬عشرة‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬يعانون‭ ‬أمراضاً‭ ‬نفسية‭ ‬حادة،‭ ‬مثل‭ ‬الاضطراب‭ ‬العقلي‭ ‬الذي‭ ‬نسمّيه‭ ‬‮«‬الذُهان‮»‬‭ ‬Psychosis‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬توافر‭ ‬الفرص‭ ‬لمعالجة‭ ‬حالاتٍ‭ ‬كهذه،‭ ‬فإن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬المرضى‭ ‬يسوّفون‭ ‬ولا‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬العلاج‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬حالاتهم‭ ‬مزمنة‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬تَلَكّؤٍ‭ ‬قد‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬10‭ ‬سنوات،‭ ‬كما‭ ‬أظهرت‭ ‬دراسة‭ ‬حديثة‭.‬

‭ ‬

العبء‭ ‬الثقيل

الاختلالات‭ ‬النفسية‭ ‬معيقة‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يُعتقد،‭ ‬فهي‭ ‬تضعف‭ ‬قدرة‭ ‬المصاب‭ ‬على‭ ‬الدراسة‭ ‬والعمل‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالذات‭ ‬وبناء‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭.‬

‭ ‬وأشار‭ ‬تقرير‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬والاختلالات‭ ‬السلوكية‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬26‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الإعاقة،‭ ‬متجاوزة‭ ‬بذلك‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭. ‬ومما‭ ‬يُعظّمُ‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬أنّ‭ ‬اضطرابات‭ ‬كهذه‭ ‬تصيبُ‭ ‬اليافعين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرهم،‭ ‬بخلاف‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬المزمنة،‭ ‬كأمراض‭ ‬القلب‭ ‬والسكري،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬غالباً‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬سنٍ‭ ‬متأخرة‭.‬

‭ ‬فمثلاً،‭ ‬تظهر‭ ‬الإشارات‭ ‬الأولى‭ ‬لمرض‭ ‬الفِصام‭ ‬Schizophrenia‭ ‬عادةً‭ ‬بين‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬والثالثة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬أمّا‭ ‬أعراض‭ ‬مرض‭ ‬التوحد‭ ‬Autism‭ ‬فتظهر‭ ‬قبل‭ ‬سن‭ ‬الثالثة‭. ‬هذا‭ ‬الظهور‭ ‬المبكر‭ ‬للأعراض‭ ‬يفسر‭ ‬لِمَ‭ ‬تُعَدُّ‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬أكبر‭ ‬مصدر‭ ‬للإعاقةٍ‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬الحساسة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬التي‭ ‬يأخذ‭ ‬فيها‭ ‬الفرد‭ ‬بالاعتماد‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العمل‭ ‬وتكوين‭ ‬الأسرة‭.‬

‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬إعاقات،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مميتةً،‭ ‬فهي‭ ‬تلعبُ‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬90‭ ‬بـ‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الانتحار‭ (‬حوالي‭ ‬800‭ ‬ألف‭ ‬حالة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬كل‭ ‬عام‭)‬،‭ ‬ومما‭ ‬يزيد‭ ‬الطين‭ ‬بلّةً‭ ‬أن‭ ‬معظمها‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الأقلّ‭ ‬ثراءً‭. ‬وفوق‭ ‬هذا‭ ‬وذاك،‭ ‬تعمل‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬أيضاً‭ ‬كمدخل‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬المُكْلِفة،‭ ‬فهي‭ ‬تعزز‭ ‬فرص‭ ‬الإصابة‭ ‬بالإيدز‭ ‬وأمراض‭ ‬القلب‭ ‬وغيرها،‭ ‬وتزيد‭ ‬من‭ ‬احتمال‭ ‬تعرض‭ ‬المرء‭ ‬للتشرد‭ ‬والفقر،‭ ‬ويمثل‭ ‬هذا‭ ‬بمجموعهِ‭ ‬عبئاً‭ ‬إضافياً‭ ‬يُلقى‭ ‬على‭ ‬كاهل‭ ‬المجتمع‭.‬

 

التقتير‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬موضعه

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكلفة‭ ‬الهائلة‭ ‬فلا‭ ‬تلقى‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬إلّا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الانتباه‭ ‬والموارد،‭ ‬إذ‭ ‬ينفق‭ ‬العالم‭ ‬سنوياً‭ ‬على‭ ‬معالجتها‭ ‬ما‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬دولارين‭ ‬للشخص‭ ‬الواحد‭. ‬ويصل‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬إلى‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬25‭ ‬سنتاً‭ ‬للفرد‭ ‬الواحد‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬ذات‭ ‬الدخل‭ ‬المنخفض‭.‬

‭ ‬كذلك‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يُنفق‭ ‬عليها‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬3‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬مما‭ ‬يصرف‭ ‬على‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬بجملتها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬20‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬مجمل‭ ‬أعباء‭ ‬هذه‭ ‬الرعاية‭. ‬وبالطبع،‭ ‬تزداد‭ ‬المشكلةُ‭ ‬سوءاً‭ ‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬أكثرُ‭ ‬فقراً،‭ ‬إذ‭ ‬تشير‭ ‬تقديرات‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬حرمان‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬85‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المرضى‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الأقل‭ ‬ثراءً‭ ‬من‭ ‬العلاج‭. ‬وحتى‭ ‬البلدان‭ ‬الغنية‭ ‬فإنّها‭ ‬لا‭ ‬تخصص‭ ‬الموارد‭ ‬الكافية‭ ‬للإنفاق‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬هذه‭ ‬الأمراض‭ ‬مقارنةً‭ ‬بالكلفة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تَفرضها‭. ‬فمثلاً،‭ ‬تتسبب‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬بـ‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬المرض‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬مركز‭ ‬خدمات‭ ‬الصحة‭ ‬الوطني‭ ‬يُخصص‭ ‬لها‭ ‬13‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬إنفاقه‭ ‬الكلي‭ ‬فحسب‭. ‬وبسبب‭ ‬انعدام‭ ‬البصيرة‭ ‬هذا‭ ‬يقع‭ ‬معظم‭ ‬كلفة‭ ‬العناية‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬قطاعات‭ ‬خارج‭ ‬مجال‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬وينتهي‭ ‬الأمر‭ ‬بمعظم‭ ‬البلدان‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنفق‭ ‬الكثير‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬الآثار‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬المرض‭ (‬كالبطالة‭ ‬والتشرد‭) ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬معالجة‭ ‬المسألة‭ ‬من‭ ‬جذورها،‭ ‬وقد‭ ‬يفسر‭ ‬هذا‭ ‬وجود‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬عند‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ثلث‭ ‬المشردين‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ولدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬نزلاء‭ ‬سجونها‭.‬

 

نهج‭ ‬جديد

يتمتع‭ ‬سكان‭ ‬البلدان‭ ‬الغنية‭ ‬بوجود‭ ‬عدد‭ ‬وافر‭ ‬نسبياً‭ ‬من‭ ‬المختصين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية،‭ ‬فهناك‭ ‬تسعة‭ ‬أطباء‭ ‬لكل‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬فيها‭ ‬إلّا‭ ‬طبيب‭ ‬واحد‭ ‬لكل‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬هذه‭ ‬النسبة‭ ‬إلى‭ ‬طبيب‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬لكل‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الإفريقية،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المرجح‭ ‬لهذه‭ ‬الأرقام‭ ‬أن‭ ‬تتحسن‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬القصير،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬اتجاهاً‭ ‬واعداً‭ ‬في‭ ‬المعالجة‭ ‬يُعرف‭ ‬بنهج‭ ‬‮«‬تقاسم‭ ‬المهام‮»‬‭ ‬قد‭ ‬بعث‭ ‬بعض‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭.‬

‭ ‬ويتلخص‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬في‭ ‬أنْ‭ ‬يقوم‭ ‬خبراء‭ ‬في‭ ‬العلاج‭ ‬النفسي‭ ‬بتدريب‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬الاختصاصيين‭ ‬الاجتماعيين‭ ‬والممرضين‭ ‬وأفراد‭ ‬عائلة‭ ‬المريض‭ ‬لتقديم‭ ‬الرعاية‭ ‬له‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسي‭. ‬وقد‭ ‬ألمحت‭ ‬الدراسات‭ ‬العلمية‭ ‬إلى‭ ‬سلامة‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬وفاعليته‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬فيها‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭.‬

‭ ‬ففي‭ ‬دراسة‭ ‬نُشرَت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬نيو‭ ‬إنكلاند‭ ‬الطبية‭ ‬NEJM‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬وصفت‭ ‬تجربة‭ ‬علمية‭ ‬أجريت‭ ‬في‭ ‬الكونغو‭ ‬على‭ ‬400‭ ‬امرأة‭ ‬عانين‭ ‬من‭ ‬الاغتصاب‭ ‬وظهرت‭ ‬عليهن‭ ‬عوارض‭ ‬حالة‭ ‬كرب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الصدمة‭ ‬PTSD‭ ‬والاكتئاب‭ ‬والقلق‭. ‬وكانت‭ ‬النتائج‭ ‬مدهشة،‭ ‬فبعد‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬تحسنت‭ ‬أحوال‭ ‬90‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬ممن‭ ‬تلقين‭ ‬العلاج‭ ‬مقارنةً‭ ‬مع‭ ‬58‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬اللواتي‭ ‬لم‭ ‬يتلقينه‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬أظهرت‭ ‬دراسة‭ ‬مماثلة‭ ‬أُجْرِيَت‭ ‬في‭ ‬باكستان‭ ‬نتائج‭ ‬مقاربة‭ ‬لذلك‭. ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬التحسن‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬انحسار‭ ‬أعراض‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬امتد‭ ‬ليشمل‭ ‬جوانب‭ ‬الصحة‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬حياتهن‭ ‬الأسرية‭ ‬أيضاً‭. ‬

 

وعود‭ ‬التقانة

هناك‭ ‬عقبة‭ ‬أخرى‭ ‬تقف‭ ‬حائلاً‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬النهوض‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬النامي‮»‬‭ ‬تتجلّى‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الخاطئ‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬مقاربة‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬بإجراءات‭ ‬بسيطة‭ ‬وغير‭ ‬مكلفة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬صراعنا‭ ‬مع‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭ (‬التطعيم‭ ‬ضد‭ ‬شلل‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭). ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك،‭ ‬إذ‭ ‬توجد‭ ‬الآن‭ ‬علاجات‭ ‬آمنة‭ ‬وفعالة‭ ‬وبأسعار‭ ‬رخيصة‭ ‬نسبياً‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬النفسية‭ (‬كالقلق‭ ‬والاكتئاب‭) ‬يستطيع‭ ‬الأطباء‭ ‬العامّون‭ ‬وصفها‭ ‬للمرضى،‭ ‬مما‭ ‬ينفي‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المختصين‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬المرض‭. ‬وقد‭ ‬أظهرت‭ ‬دراسة‭ ‬لمنظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬عام‭ ‬2012،‭ ‬أن‭ ‬دورة‭ ‬علاجية‭ ‬بأدوية‭ ‬كهذه‭ ‬تُكلف‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬4‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الدخل‭ ‬اليومي‭ ‬للفرد‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬الأقل‭ ‬ثراءً‭. ‬لكنّ‭ ‬أكثر‭ ‬المقاربات‭ ‬الواعدة‭ ‬قد‭ ‬ظهرت‭ ‬بفضل‭ ‬التقانة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فمع‭ ‬انتشار‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬والإنترنت‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬العلاجات‭ ‬النفسية‭ ‬حكراً‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يرتادون‭ ‬عيادات‭ ‬الطبيب‭ ‬النفسي،‭ ‬فأكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬مليارات‭ ‬شخص‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬يمتلكون‭ ‬أجهزة‭ ‬محمولة‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بتلقي‭ ‬كل‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العلاج‭ ‬النفسي،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬النصية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬مبادئ‭ ‬المساعدة‭ ‬الذاتية‭ ‬إلى‭ ‬ألعاب‭ ‬الحاسوب‭ ‬التي‭ ‬تُعززُ‭ ‬التغيير‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬السلوك‭. ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬يندر‭ ‬فيها‭ ‬وجود‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬منح‭ ‬انتشار‭ ‬خدمات‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬الأطباءَ‭ ‬فرصة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المرضى‭ ‬ومساعدتهم‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل‭.‬

 

خارج‭ ‬الظلال

سيظل‭ ‬التقدم‭ ‬الفعلي‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬مواجهة‭ ‬المرض‭ ‬النفسي‭ ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬التغييرات‭ ‬البنيوية‭ ‬لمقاربتنا‭ ‬له‭. ‬فهناك‭ ‬حاجةُ‭ ‬ملحة‭ ‬لزيادة‭ ‬الوعي‭ ‬بمدى‭ ‬المشكلة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شرح‭ ‬أفضل‭ ‬لماهية‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬وكلفتها،‭ ‬وتشجيع‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬النظر‭ ‬إليها‭ ‬بوصفها‭ ‬مشكلة‭ ‬لا‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬أفراد‭ ‬معزولين‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬أيضاً‭.  ‬كذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬دمج‭ ‬العناية‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الصحي‭ ‬الأوسع‭ ‬عبر‭ ‬تجهيز‭ ‬عدد‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أطباء‭ ‬الرعاية‭ ‬الأولية‭ ‬لمعالجة‭ ‬الاضطرابات‭ ‬النفسية‭ ‬وخلق‭ ‬حوافز‭ ‬للمختصين‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية‭ ‬ولممارسي‭ ‬الطب‭ ‬العام‭ ‬للعمل‭ ‬معاً‭ ‬وبناء‭ ‬الشراكات،‭ ‬مما‭ ‬يسهل‭ ‬حصول‭ ‬المرضى‭ ‬على‭ ‬العلاج‭ ‬المطلوب‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬النهاية،‭ ‬يحتاج‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬إلى‭ ‬التزام‭ ‬صادق‭ ‬بتخصيص‭ ‬الموارد‭ ‬اللازمة‭ ‬لتخفيض‭ ‬العبء‭ ‬العالمي‭ ‬المتعلق‭ ‬بالأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬هدف‭ ‬قابل‭ ‬للتحقيق،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّه‭ ‬يتطلبُ‭ ‬إرادة‭ ‬سياسية‭ ‬وتنسيقاً‭ ‬بين‭ ‬قطاعات‭ ‬الصحة‭ ‬والتعليم‭ ‬والخدمات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وغيرها‭. ‬خطوات‭ ‬كهذه‭ ‬ستأخذ‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬لتُحدث‭ ‬تحسناً‭ ‬ملموساً،‭ ‬ولكن‭ ‬نقل‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬من‭ ‬عتمة‭ ‬الظلال‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬النــــقاش‭ ‬سيسرع‭ ‬من‭ ‬تحقيقها‭ ‬بلا‭ ‬ريب‭ ‬