مَن تهمُّه التفاصيل

مَن تهمُّه التفاصيل

‭ ‬ما‭ ‬الذّكريات؟‭ ‬أهي‭ ‬ما‭ ‬يتبقى‭ ‬من‭ ‬العمرِ‭ ‬المنقضي‭ ‬كرفّةِ‭ ‬عين؛ٍ‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬الصورُ‭ ‬التي‭ ‬تعلقت‭ ‬بصخرةٍ‭ ‬أثناءَ‭ ‬انجرافِها‭ ‬مع‭ ‬تيار‭ ‬الزّمن‭ ‬الجاري،‭ ‬ثمة‭ ‬ذكرياتٌ‭ ‬نحبُها‭ ‬وتؤنسُ‭ ‬وحشةَ‭ ‬العمرِ‭ ‬وثمة‭ ‬ما‭ ‬تنغرسُ‭ ‬كشوكةٍ‭ ‬في‭ ‬النفسِ‭ ‬توجعُ‭ ‬وتأبى‭ ‬أن‭ ‬تزول‭.‬

يتحسسُ‭ ‬وجهَه،‭ ‬الخدَ‭ ‬الأيمنَ‭ ‬تحديدًا،‭ ‬فتنثالُ‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬الصورُ‭...‬

  ‬كان‭ ‬أستاذ‭ ‬الرياضيات‭ ‬منهمكًا‭ ‬في‭ ‬الشرحِ،‭ ‬يكتبُ‭ ‬رموزَه‭ ‬على‭ ‬السبورةِ‭ ‬عندما‭ ‬ثارتْ‭ ‬جلبةٌ‭ ‬في‭ ‬الصفِ،‭ ‬فحاولَ‭ ‬أن‭ ‬يواصلَ‭ ‬الفكرةَ‭ ‬المتدرجةَ‭ ‬التي‭ ‬تشكّلُ‭ ‬استنتاجًا‭ ‬وقاعدة؛‭ ‬لكن‭ ‬الجلبةَ‭ ‬تحولتْ‭ ‬لضحكٍ‭ ‬قصيرٍ‭ ‬عندما‭ ‬استدارَ‭ ‬بلحظةٍ‭ ‬واختارَ‭ ‬طالبًا‭ ‬في‭ ‬الدّرجِ‭ ‬الأولِ‭ ‬وصفعَه‭ ‬بقوةٍ‭ ‬كي‭ ‬يخيفَ‭ ‬بقيةَ‭ ‬الطلبةِ‭ ‬ويتابعَ‭ ‬شرح‭ ‬درس‭ ‬الرياضيات‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ماهرًا‭ ‬فيه؛‭ ‬ولكنه‭ ‬أخطأَ‭ ‬في‭ ‬حسابِ‭ ‬حجمِ‭ ‬الخسارةِ‭ ‬المعنويةِ‭ ‬التي‭ ‬سببها‭ ‬للطالبِ‭ ‬الّذي‭ ‬تصادفَ‭ ‬بأنّه‭ ‬أنا‭!‬

  ‬قُرع‭ ‬الجرسُ‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الحادثةِ‭ ‬عشراتُ‭ ‬المرات،‭ ‬وتوالت‭ ‬الأيامُ‭ ‬الدّراسيةُ‭ ‬وألمُ‭ ‬هذه‭ ‬الصفعةِ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬تُحييه‭ ‬كلماتُ‭ ‬زملائي‭ ‬التي‭ ‬تمنيتُ‭ ‬أن‭ ‬أمتلكَ‭ ‬ممحاةً‭ ‬لتزيلَ‭ ‬هذه‭ ‬الحادثةَ‭ ‬من‭ ‬ذاكرتِهم،‭ ‬لكنها‭ ‬تحيا‭ ‬في‭ ‬عقولِهم؛‭ ‬وكلما‭ ‬جلسْنا‭ ‬في‭ ‬الفرصةِ‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حصة‭ ‬إشغالٍ‭ ‬بدأوا‭ ‬بسردِ‭ ‬القصصِ‭ ‬المدرسيةِ‭ ‬االطّريفةب‭ ‬وكانت‭ ‬الصفعةُ‭ ‬إحدَاها‭: ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تستدع‭ ‬والدك؟‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تردّ‭ ‬الإهانةَ‭ ‬بالمغادرةِ،‭ ‬كيف‭ ‬تحملتَ‭ ‬وأنتَ‭ ‬لا‭ ‬شأنَ‭ ‬لكَ؟‭... ‬ويضحكون،‭ ‬فالطالبُ‭ ‬المتسبّبُ‭ ‬بحالةِ‭ ‬الصخبِ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحصةِ‭ ‬كان‭ ‬يجلسُ‭ ‬في‭ ‬الدُّرجِ‭ ‬الأخيرِ‭ ‬وأثارَ‭ ‬بحركاتِه‭ ‬وتنقُّلهِ‭ ‬كصاروخٍ‭ ‬موجّه‭ ‬وبخفةِ‭ ‬ريشةٍ‭ ‬بين‭ ‬الأدراجِ‭ ‬موجةَ‭ ‬ضحك،‭ ‬والصفعةُ‭ ‬وجُهت‭ ‬للهدفِ‭ ‬الخطأ‭ ‬وهو‭ ‬نجا‭ ‬من‭ ‬العقاب؛‭ ‬لكن‭ ‬مَن‭ ‬تهمّه‭ ‬التفاصيل؟‭ ‬ويصغي‭ ‬لخلفية‭ ‬حادثة‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬سيرةِ‭ ‬الأستاذ‭ ‬الحافلةِ‭ ‬بحوادث‭ ‬يفتخرُ‭ ‬بأنه‭ ‬يضبطُ‭ ‬فيها‭ ‬الصفِّ،‭ ‬ويتابع‭ ‬الشرحَ‭ ‬وينهي‭ ‬المنهاج‭ ‬المقرر‭.‬

    ‬رغم‭ ‬انتقالي‭ ‬بعد‭ ‬إلحاحٍ‭ ‬لمدرسةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الصفعة‭ ‬ظلت‭ ‬تطاردُني‭ ‬وتستدعي‭ ‬الكثيرَ‭ ‬من‭ ‬الألمِ‭ ‬حتى‭ ‬صادفتُ‭ ‬الأستاذَ‭ ‬وقد‭ ‬شاختْ‭ ‬ملامحُه‭ ‬وشابَ‭ ‬شعرُه‭ ‬وتهدّلَت‭ ‬كتفاه،‭ ‬صافحتُه‭ ‬وأنا‭ ‬أقفُ‭ ‬أمامَه‭ ‬بثباتٍ‭ ‬وقوةٍ،‭ ‬ذاكرًا‭ ‬له‭ ‬بأنّي‭ ‬أحدُ‭ ‬طلابه‭ ‬وبأنّي‭ ‬موظفٌ‭ ‬وربُّ‭ ‬عائلة؛‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬أخبرْه‭ ‬كم‭ ‬تترددُ‭ ‬يدي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ترتفعَ‭ ‬بوجه‭ ‬أطفالي؛‭ ‬فانفرجتْ‭ ‬أساريرُه‭ ‬قائلاً‭ ‬بأنّه‭ ‬يفتخرُ‭ ‬بطلبتِه‭ ‬الناجحين‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وتأملَ‭ ‬وجهي‭ ‬بذاكرةٍ‭ ‬متخمةٍ‭ ‬بالوجوهِ‭ ‬وبالصفعات‭ .