الناقد السعودي د. سعد البازعي: أكثر الشعر الحقيقي في قصيدة النثر

الناقد السعودي د. سعد البازعي:  أكثر الشعر الحقيقي في قصيدة النثر

كان الناقد السعودي د. سعد البازعي شغوفاً بالشعر العربي؛ كتب بعضه ولم ينشره، كما أنه يفضل الدراسات النقدية و«الحفر» في العمل الثقافي. واصل دراساته العليا في أمريكا وحصل على الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة إنديانا عام 1978، والدكتوراه من جامعة بوردو عام 1983، وكانت أطروحته حول الاستشراق في الآداب الأوربية، عمل أستاذاً للأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود بالرياض منذ عام 1984 وحتى انتقاله إلى عضوية مجلس الشورى عام 2009، وعضوية مجلس الصندوق الدولي للدعم الثقافي بـ «اليونسكو» عام 2012م. أصدر عدداً من الكتب، كان أولها «ثقافة الصحراء» عام 1991م، حتى بلغت نحو عشرين كتاباً.

شغل د. البازعي أيضاً منصب رئيس تحرير صحيفة «رياض ديلي» الصادرة باللغة الإنجليزية، وكان رئيساً للجنة التحكيم الخاصة بجائزة الرواية العربية العالمية (البوكر) عام 2014. كما قدّم مئات المحاضرات في مدن المملكة العربية السعودية والخليج العربي والعالم.
«العربي» توقفت مع د. البازعي في مراحل عدة، منها التجارب النقدية والرؤية العامة للحالة الثقافية في المملكة ومنطقة الخليج العربي، ووجهة نظره من قصيدة النثر التي لاتزال محور اختلاف في عموم الوطن العربي. 

قصيدة النثر
-منذ بداية التجربة الشعرية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأنتم تتابعون كل ما هو جديد، وقد كتبتم أكثر من بحث ودراسة عن تجربة قصيدة النثر في المملكة، كيف يرى د. سعد البازعي مستقبل قصيدة النثر في المملكة حاليا؟
- قلت أكثر من مرة إنني أجد أكثر الشعر الحقيقي اليوم في قصيدة النثر، وهذا لا يعني أن الأشكال الأخرى تخلو من الوهج الشعري، لكن حضوره فيها أقل. 
سيقال بطبيعة الحال إن هناك كثيراً من الغثاء الذي يكتب تحت مسمى «قصيدة نثر»، وهو صحيح، لأن في المملكة - كما في غيرها - مَن يتوهم أن التخلص من الإيقاع وكتابة عبارات مشوبة بالغموض كافٍ في حد ذاته للوصول إلى شعرية النص. لكن ذلك ينسحب أكثر على الأشكال الأخرى التي يقع كتّابها في مأزق التوهم بأن الوزن والقافية أهم شرطين لكتابة الشعر. لربما تبنت أكثر المواهب الشعرية الشكل النثري للكتابة، فانحاز الشعر معها، وقد يعود انحيازها إلى سببين؛ مرونة الجملة النثرية في استيعاب متغيرات الحياة المدنية، وأن الأشكال التقليدية أصابها الإرهاق والترهل من كثرة الاستعمال. ومع أن الموهبة تنتصر في النهاية، فإن الرهان ليس عليها، بل على العوامل الأخرى التي تساعد الموهبة على توظيف اللغة توظيفاً مبدعاً.
-من وجهة نظركم، هل للتجربة السعودية امتدادات خارجية، وكأنها تنبع من الخارج لا الداخل؟
- التجربة السعودية، أولاً، تجربة عربية، ولا يمكن فهمها خارج سياقها العربي، فهي متفاعلة مع ذلك السياق كما مع غيره وإن بشكل أقل. الامتدادات الخارجية بأنواعها طبيعية ومطلوبة ما لم تتحول إلى عملية سهلة لإعادة إنتاج الآخر. هذا إن كان المقصود بالخارج «الخارج العربي»، أما إن كان الخارج الأجنبي فهو ضعيف الحضور بصفة عامة، لأن قليلاً من الشعراء يقرأون بلغات أجنبية، فتفاعلهم مع المعطى العالمي يتم من خلال ترجمات عربية في الغالب، وهذا تفاعل ثانوي وضعيف التأثير بطبيعة الحال.
 -من وجهة نظرك، لماذا يبتعد الناقد اليوم عن قراءة الإبداع، حيث نرى أن الساحة النقدية تعزف عن تلك الدراسات التي كانت تحفل بها الصحف والمجلات سابقاً، وعن النصوص الشعرية والتجارب الجديدة؟
- في ظني أن جزءاً من الإجابة عن السؤال يكمن لدى الصفحات الثقافية التي لم تعد تعنى بالنقد، فتدعو الناقد إلى قراءة الأعمال، لأن ما كان يحدث في الماضي لم يكن جهداً تطوعياً من الناقد، بقدر ما كان حرصاً من الصفحات على تقديم القراءات النقدية، فلو دعي النقاد ثم اعتذروا لوجّهنا إليهم اللوم. أما الجزء الآخر من الإجابة، فموجود في تحوُّل النقد إلى ممارسات أكثر شمولية وتأنياً. 
لدينا اليوم من الكتب النقدية أكثر مما كان لدينا قبل ثلاثين عاماً، مما يعني أن النقد تحوّل إلى نشاط أكثر تأنياً واتساعاً. فالنقد لم يتوقف، وإنما تغيّر شكله أو وعاؤه، ولعل سؤالكم عن متابعتي لما ينشر من أعمال يتضمن بعض الإجابة.
 
التجربة النقدية في المملكة
-في أحد الحوارات السابقة قلت: «النقد في السعودية أقل اكتمالاً، من حيث مستوى الطرح، مقارنة بالنقاد المغاربة مثلاً، لكنني أعتقد أن النضج مشكلة النقد العربي بأكمله»؟ هل تقصد أن النقد في المملكة غير ناضج؟
- المشهد النقدي في المملكة مشهد نشط ومتزايد الثراء، وهو اليوم في طليعة المشاهد النقدية العربية من دون شك، سواء من حيث الكيف أو الكم، وأظن أن مقارنتي إياه بالمشهد المغربي قديمة، واليوم يبدو الوضع مختلفاً عما كان عليه. ومع ذلك فليس ثمة شك في أن المغرب العربي يأتي في الطليعة عربياً، ومن أسباب تميزه كثافة الإنتاج، وقدرة المغاربة عموماً على الاتصال المباشر - من دون ترجمة - بمصادر فرنسية، في حين أن أكثر النقاد العرب يعتمدون على المترجم.
ومع ذلك فلم يخلُ الاتصال المباشر بالنقد الفرنسي من أثر سلبي في تقديري، وهو الحد من تنوع المشهد المغاربي، فهو يكاد يُحكم بنظريات تحليل الخطاب والحجج التي تبعده عن تيارات كثيرة أخرى، مثل النقد النسوي والنقد ما بعد الكولونيالي. 
 
العمل المؤسساتي
-أربع محطات مهمة في حياة د. سعد البازعي، أرجو أن تحدثنا عنها بشكل مفصل، النادي الأدبي في الرياض، مجلس الشورى السعودي، عضو مجلس الصندوق الدولي للدعم الثقافي بـ «اليونسكو»، عضو هيئة تدريس جامعة الملك سعود في الرياض.
- النادي الأدبي والملتقى الثقافي إطاران أو منصتان لنوع من النشاط الذي أحب. من خلالهما حاولت، ومازلت أحاول، تقديم ما يثري الساحة الثقافية ليس من عملي، بقدر ما هو من عمل الآخرين. حالياً يشغلني الملتقى بشكل خاص، فهو امتداد للون من النشاط الذي بدأته في تسعينيات القرن الماضي، ومازال يجتذب من يشاركونني الشعور بأهمية المنبر والعمل الجماعي لإنتاج الفكر والإبداع.
مجلس الشورى كان تجربة ثرية أيضاً، تعلمت منها الكثير، ولكن إسهامي في نشاطها كان محدوداً بمحدودية خبراتي في المجالات التي تسود في عمل المجلس، أقصد المجالات الإدارية والمالية والقانونية. 
فنشاطي فيه تركّز في الجانب الثقافي والإعلامي بطبيعة الاهتمامات السابقة على دخول المجلس. لكن أهم ما خرجت به من تجربة المجلس هو إحساسي بحاجته إلى الإصلاح الداخلي الذي يؤهله للقيام بدور أكثر فاعلية، مع أن قيامه بذلك الدور يعتمد على صلاحيات لم يحصل عليها ومازال بعيداً عنها. 
الصندوق الدولي للثقافة بـ «اليونسكو» كان أيضاً تجربة مفيدة في التعرف على عمل المؤسسات الدولية، لكنني خرجت منه بانطباع غير مشجع، نتيجة لمحدودية إمكانات الصندوق، بل وإمكانات «اليونسكو» ككل.
جامعة الملك سعود تظل هي التكوين والمرجع الأول لي، هي الحاضن الأهم لهويتي الفكرية والثقافية، فلم تنقطع صلتي بها منذ دخلتها طالباً وعلى مدى يتجاوز العقود الأربعة الآن. 

الكتابة النسوية
-كيف يستطيع د. البازعي مقارنة الكتابة النسوية في السعودية بين مرحلتين (الثمانينيات – الألفية الثالثة)، وهل هذا يعني أن الكتابة النسوية نزعت نحو الكتابة الروائية؟
- يبدو لي أن من أهم تطورات المرحلة المشار إليها هي بروز الكتابة النسوية على مختلف الصعد الأدبية: الشعرية والسردية والمقالية.
دخول المرأة مجال السرد بشكل خاص كان علامة فارقة ونقلة كبيرة لا يعادلها في ظني سوى تطور قصيدة النثر التي أسهمت فيها المرأة أيضاً، وإن بشكل أقل من حيث الكثافة.
الكتابة الروائية هي الميدان الأبرز للكتابة النسوية، لكن القصة القصيرة جداً شهدت بعض الإسهامات الملحوظة، ولا ننسى الكتابة النقدية، الرافد الكبير للإبداع الأدبي، فقد نشطت فيه المرأة نتيجة لازدهار البحث الأكاديمي وظهور باحثات يؤلّفن ويسهمن في المنتديات الأدبية.
صحيح أن الظروف الاجتماعية تضغط على المرأة لكي تتخلى أو تقلل من حضورها الإبداعي والفكري، لكن ذلك كان أوضح وأكثر تأثيراً حين كان العدد قليلاً، أما الآن ومع تزايد الأعداد فلم تعد لتلك الظاهرة صحة تذكر.
في مجال الشعر تحضر المرأة، وإن بشكل أقل من الرجل (فوزية أبو خالد، وأشجان هندي، وهدى الدغفق، وهيلدا إسماعيل، ومن الأسماء الجديدة هيفاء الجبري، وغيرهن)، كل هذه الأسماء لا تزال تنتج، لكن حضورها أقل كثافة، وإن لم يكن أقل في المستوى.

شعراء يتجددون باستدعاء الماضي
-عدد كبير من الشعراء اليوم ينزح في عطاءاته الشعرية إلى استدراج الماضي، سواء كان من خلال الشعر أو الملاحم التاريخية، هل هذا يعني أن امتدادات التجارب الشعرية أصبحت متوقفة اليوم، ونزوح الشاعر إلى تجارب أخرى هو حالة من الإفلاس الشعري أم التجديد في عالم الكتابة؟
- لا أعرف إن كان ما يشير إليه السؤال ظاهرة فعلاً. لا أرى في إنتاج الدمينيين علي ومحمد أو في نتاج فوزية أبوخالد، أو أشجان هندي، أو أحمد الملا، أو إبراهيم الحسين أو الوافي أو الصحيح الأب والابن ما يشير إليه السؤال، بل أرى غنائية تمتح من ذوات الشعراء وتجاربهم. لكن لو حصل أن الشاعر اتجه إلى التاريخ، فإن ذلك ليس دالاً بالضرورة على إفلاس. أعظم الأعمال في تاريخ الشعر الغربي شعر ملحمي (دانتي وملتون قديماً، وفي العصر الحديث ديريك والكوت). المعيار هو شعرية النص، عمقه، صوره، بناؤه.. إلخ.

المسافات الزمنية متقاربة
-كيف ينظر البازعي إلى شعراء السبعينيات اليوم، وأين هُم من الكتابة الشعرية الحديثة؟
- مع أنني لا أرتاح إلى تقسيم الشعر إلى عقود، لأن من يراه البعض من شعراء السبعينيات قد يكون من شعراء الثمانينيات أو الستينيات، فالمسافة الزمنية متقاربة، لكنني أقول إن بعضهم مازال موجوداً، وإن كان الأكثر حضوراً من فترة السبعينيات هو علي الدميني؛ سواء بتوالي إصداراته أو محافظته على مستواه الشعري الرفيع.

الرواية السعودية

- يُلاحظ اليوم أن عدداً كبيراً من دور النشر العربية يبحث عن الروائي السعودي، ما تعليلك لذلك؟
- أعتقد أن الروائي السعودي فرض نفسه بجودة إنتاجه، فمعظم من تتبناهم دور النشر منحوا تلك الدور أعمالاً ذات قيمة وقادرة على الانتشار بسرعة، لاسيما بتزايد عدد القراء السعوديين للرواية. الروائيون السعوديون يُتَرجَمون ويفوزون بالجوائز وتُشترى أعمالهم، فلم لا يحرص الناشر عليهم؟ لكن هذا بالتأكيد لا يصدُق على الجميع. أشير فقط إلى الأسماء المهمة.
-نجح البعض في الوصول إلى الجوائز العالمية، كما فاز في «البوكر» هذا العام الروائي محمد علوان، وسبق للروائية رجاء عالِم أن حصلت عليها مناصفة قبل ثلاثة أعوام عن رواية «ستر»، كيف ترى مستقبل الرواية السعودية؟
- في المدى المنظور سيظل للرواية تفوقها على مستوى الانتشار بين القراء، وستظل تجتذب نتيجة لذلك العديد من المواهب الكتابية. هناك من سيجرب ويفشل، وهي في ذلك أشبه بالتخصصات ذات الجاذبية السوقية، أي المطلوبة في سوق العمل. فكلما انتشرت الرواية زاد الراغبون في الانخراط في سياقها. لذا سنشهد تزايداً في عدد الروائيين، مع أن السوق أيضاً تفرز من يبقى ومن ينسحب، فالأمر ليس مجرد صف حكايات أو كتابات إنشائية تشبه القصص. الرواية فن مركّب وصعب المرتقى، بقدر ما هو جاذب ومربح.

الجوائز المحلية والعربية
-في ختام حوارنا سؤال يخص الجوائز العربية، كيف تنظر إليها؟
- في كل البيئات الثقافية في العالم تلعب الجوائز دوراً بالغ الحيوية في تنشيط ودعم وتوجيه الإنتاج على اختلافه. والتنوع في الجوائز داعم لها، لكنني أحث القائمين عليها على أن يراجعوا آليات العمل باستمرار، وأن يسعوا إلى نقد الذات ما أمكن، وكذلك عدم الركون إلى الأسماء ولجان التحكيم ذاتها.
-وماذا عن تجربة وزارة الثقافة السعودية في جائزة الكتاب التي قدمتها الوزارة، وكنت أحد الفائزين بها عام 2012م، وكانت بداية مذهلة حينها؟
- أعتقد أن جائزة الوزارة بحاجة إلى مراجعة، وآليات العمل في الجائزة، وكيفية تعامل الوزارة معها، أمران يحتاجان إلى إعادة نظر.
كيف يظل الفائزون والناشرون مدداً طويلة تصل إلى عام أو عامين لا يتسلمون جوائزهم النقدية؟ هذا معيب ودال على خلل إداري ومالي. كما أن آليات التحكيم أو التقويم بحاجة إلى تطوير. الشفافية مطلوبة هنا كما في كل الجوائز. ومما يميز «البوكر» - بالمناسبة - هو أن أسماء لجنة التحكيم تعلن في كل عام، فلا سريّة في هذا الأمر. كما أن إعلان القوائم مهم. لم لا تتبع جائزة الوزارة هذه الآليات، فتعلن عن قوائم طويلة وقصيرة؟.
ذلك أن دخول قائمة ما في حد ذاته إنجاز. لقد شاركت في تحكيم آخر جوائز الوزارة، وآلمني الاضطرار، كما في «البوكر»، لاختيار عمل من بين أعمال ممتازة أخرى، فلو كانت هناك قوائم لكان في ذلك تعويض لمن لم يفوزوا.
لكنني أود أن أضيف، فيما يتعلق بالجوائز عامة، أن النقد سهل والإنجاز صعب. والملاحظ أن أكثر المنتقدين هم ممن لم يفوزوا، مما ينفي في الغالب الحرص على مستوى الجائزة ويغلّب المصلحة الذاتية ■