الثقافة العربية ... هل تطورها اللغة؟: د. عبدالله الجسمي

الثقافة العربية ... هل تطورها اللغة؟: د. عبدالله الجسمي
        

          يسلط هذا المقال الضوء على بعض الموضوعات التي تهم الشأن الثقافي العربي ومن أبرزها، والذي ربما اتخذ شعارًا لها، «إنقاذ اللغة العربية»، ومناقشة هل المسألة تتعلق فقط بالحفاظ على أو اندثار اللغة كي تكون معيارًا للتقدم أو التأخر الثقافي لأي أمة من الأمم؟

هل باللغة تتطور الثقافة؟

          تأتي محاولة حصر الإشكالية الثقافية العربية بمسألة اللغة للالتفاف على المشكلات الحقيقية التي أدت إلى تراجعنا الثقافي والفكري على مدى الفترة الماضية. وهو في حقيقة الأمر جزء من عملية الالتفاف الرسمية على الكثير من القضايا والمشكلات وليس الثقافية فقط. ومسألة إنقاذ اللغة تعني التعامل مع النتائج لا الأسباب، أي أن تراجع اللغة العربية هو نتيجة وليس السبب الفعلي لأوضاعنا الثقافية الحالية.

          فاللغة بذاتها ليست السبب الفعلي الذي يقود إلى تقدم الأمم وتأخرها، فهل إذا حافظنا على اللغة العربية بمضامينها المختلفة سنكون في مصاف الدول التي تقود العالم؟ وهل إذا تعلمت شعوب أخرى لغتنا ستتقدم؟ وهل إذا ألغينا لغتنا العربية وتحدثنا اللغة الإنجليزية، أكثر اللغات انتشارًا في عالم اليوم، سنتقدم تلقائيًا؟ وهل لغة أي أمة من الأمم جامدة ولا تتطور؟ وهل المطلوب العودة باللغة العربية إلى لغة المعلقات واللغة التي سادت صدر الإسلام وما بعده؟ وهناك أسئلة أخرى في هذا الإطار تفيد بأن اللغة دون شك ليست السبب وراء تقدم أو تأخر أمة ما، بل هي نتيجة لأوضاعها القائمة وبالمقارنة مع الأمم الأخرى.

          واللغة هي تعبير عما تتضمنه أية ثقافة من إمكانات وقدرات معيشية وإبداعية وإنتاجية، وقوة اللغة أو ضعفها يعود إلى المضمون الذي تقدمه، بمعنى غناؤها بالمفردات اللغوية وقواعدها التي تعبر عن تنوع حياة وواقع المجتمع، وقدرته على الاستمرار والتطور، أو محدودية هذا الواقع وتراجعه.

          ويعود السبب الجوهري لتراجع اللغة العربية إلى صلة اللغة بالعلم أو التطور العلمي للمجتمع. فلو عدنا إلى الحضارة العربية الإسلامية التي كانت تتسيد العصور الوسطى سنجد أن اللغة العربية كانت في أوج ازدهارها لسببين رئيسيين. الأول كونها لغة القرآن وتتضمن التعاليم الإسلامية التي تنظم حياة المسلمين وأمور دنياهم، فانتشرت بين جميع القوميات التي دخلت الإسلام في ظل الإمبراطورية الإسلامية السابقة. ويعود السبب الثاني لكونها لغة العلم في العصر الوسيط. فبعد ترجمة العلوم اليونانية للغة العربية شهد العالم الإسلامي تطورًا لافتًا في العديد من العلوم المعروفة في تلك الفترة، واستطاع المسلمون أخذ زمام المبادرة في العلم لفترة امتدت بضعة قرون، وكانت اللغة العربية هي لغة العلم، مما أعطاها قوة ودفعة جديدة كمفردات اصطلاحية واستخدامات سياقية نتيجة للاكتشافات والتطورات في مختلف أوجه العلوم آنذاك.

          وفي عالم اليوم يعود الانتشار الواسع للغة الإنجليزية لكونها لغة العلم الحديث. فكما هو معروف حدث التطور العلمي منذ نهايات العصر الوسيط في أوربا وحظيت بريطانيا بنصيب الأسد، حيث جرت بها معظم الثورات العلمية المعروفة، ونظرًا لكونها لاحقًا أكبر القوى الاستعمارية انتشارًا في العالم، شهد عدد من مستعمراتها نهوضًا علميًا خصوصًا في الولايات المتحدة التي حلت محل بريطانيا كقوة اقتصادية وعسكرية عالمية، وأصبحت تقود العالم وقبله للعلماء والمبدعين من شتى بقاع العالم، فأعطى ذلك دفعة قوية للغة الإنجليزية وأصبحت أكثر لغات العالم انتشارًا كونها لغة العلم، أساس الحضارة المدنية الحديثة. ولا أحد يعلم تمامًا إلى أين سيئول التقدم العلمي، فالمؤشرات تسير إلى دول شرق وجنوب آسيا التي قد تقود عالم المستقبل وستحظى بالتأكيد اللغة العلمية المؤثرة على اهتمام واسع في أنحاء المعمورة.

          وهناك ملاحظة يجب أخذها بعين الاعتبار عند النظر للغة العربية والتراجع الذي أصابها أخيرًا، تتعلق في مضمون تعبيراتها اللغوية وعما إذا كان يتماشى مع العصر الحالي أم لا. فعلى الرغم من تطور العلوم الإسلامية بالمقارنة مع العلم اليوناني في العصور الوسطى، كان الطابع السائد على معظم النتاج الثقافي هو الأدبي، بمعنى أن اللغة المهيمنة على الجانب الفكري والثقافي الإسلامي والعربي هي ذات طابع أدبي مجازي، واستمر ذلك حتى يومنا الحالي تقريبًا. واللغة الأدبية تتعارض مع طابع العلم، واللغة العلمية كونها مجازية وغير واقعية وتفتقر للدقة ومليئة بالصور البلاغية والتشبيهات وتخضع لتأويلات عديدة ولا تعرض موضوعاتها بشكل مباشر. في المقابل تتسم اللغة العلمية بالمباشرة وتتميز بالوصف الدقيق والواقعية وهذا ناتج من طبيعة العلم والبحث العلمي. وبالتالي يصعب على اللغة العربية بطابعها هذا أن تكون لغة للعلم في عصرنا الحالي بل ومن المنطقي أن تتراجع لتعارضها مع روح العصر العلمية والواقعية والنتاج العلمي والتكنولوجيا، ولعدم العمل على تطويرها ومواكبتها للعصر وتطوراته السريعة والمتواصلة بشكل كاف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التطور العلمي الذي تم خلال الحضارة العربية الإسلامية والذي احتوى من دون شك على لغة علمية اصطلاحية عربية آنذاك، تم تجاوزها منذ بدايات عصر النهضة العلمية الأوربية الحديثة نتيجة للتقدم الذي طرأ على العلم التجريبي والاكتشافات الهائلة وبقي هناك عدد لا بأس به من المفردات التي ظل نطقها عربيًا حتى اليوم، على سبيل المثال علم «الجبر».

          وللتدليل على ذلك لو نظرنا للغة الإنجليزية المستخدمة في العصور الوسطى وحتى بدايات النهضة الحديثة سنجد غلبة الطابع الأدبي عليها، ولا يستطيع أبناء اليوم من البريطانيين وغيرهم التأقلم معها، وقد حدثت تغيرات جمة في تلك اللغة نتيجة للتطور العلمي وتراجعت عما كانت عليه في السابق.

المشكلة ليست في اللغة

          يتضح مما سبق أن مشكلة الثقافة الحقيقية في الوطن العربي ليست باللغة، فإنقاذ اللغة العربية لن يؤدي إلى إنقاذ الشعب العربي من براثن الجهل والأمية والتراجع. فالمشكلة الحقيقية تكمن في الأسباب الفعلية التي وقفت وراء التدهور الثقافي الذي نعيشه وعدم الاستفادة من العلم والتطور العلمي ونشر الثقافة العلمية ذات الطابع العصري وصاحبه التفكير العلمي والواقعي. وهذا الأمر تتحمله بلا شك الأنظمة العربية وأساليبها المختلفة في وقف التقدم الثقافي والعلمي والحضاري في الوطن العربي. فالنهوض الثقافي والفكري يحتاج إلى بيئة تحتضنه وتحافظ عليه وتوفر له مختلف الوسائل اللازمة لاستمراراه. ولعل أول عامل لأي نهوض، وهذا ما أثبتته الشواهد التاريخية، هو الحرية التي أصبحت مسألة بديهية. فمن يرد نهوضًا ثقافيًا وفكريًا ويسعي لتحديث المجتمع، لابد أن يعمل على إشاعة الحرية في شتى أرجائه وخلق دولة المؤسسات التي يستند إليها المجتمع وعملية التطوير.

          والحديث عن الحرية يقود إلى العقبة الأساسية التي تقف حجرة عثرة أمام التغيير ومن ثم التطوير الثقافي ألا وهي السياسة. فالطريقة التي تدار بها المجتمعات العربية تتميز بغياب جوانب عديدة من الحريات أبرزها السياسية والفكرية. إذ تتميز أغلبية أنظمة الحكم بالقمع والديكتاتورية وسيادة نمط أحادي من الأفكار والثقافة العامة. فقد قامت العديد من الأنظمة بمحاربة المثقفين المتميزين والجادين وصل بعضها حد التهجير والإيداع في السجون واستدراج فئة من المثقفين وإغرائهم للعمل مع النظام علاوة على خلق مثقفين يلمعون صورة الأنظمة ويهاجمون المثقفين المعارضين بها.

          ونتج عن ذلك ظاهرة لها تأثير كبير على الثقافة ألا وهي تسييسها. ففئة المثقفين الموالية للأنظمة هدفها الأساسي سياسي ألا وهو الدفاع عنها وعن سياساتها وقراراتها وإيجاد جميع التبريرات لذلك، فأصبحت تنشر الثقافة موجهة ومسيسة بحيث تتضمن الأفكار والقيم المراد نشرها بين العامة لتبرير السياسات والممارسات القائمة. كما أن المثقفين المعارضين، ونظرًا لغياب أشكال الحرية الفكرية والسياسية، ينساقون للسياسة رغمًا عنهم بسبب الأساليب القمعية التي إما تقمعهم وأفكارهم تمامًا أو تحجمها. وهذا يدخل أفكارهم الثقافية في السجال السياسي أو يدفعهم للبحث فيما يخدمهم من ثقافة لتوظيفها في السياسة، ولا شك أن لذلك أثرًا كثيرًا على طابع الثقافة ومقوماتها، بحيث أصبحت ثقافة مؤدلجة وتفتقر لطابع الموضوعية وتتميز بالتحيز الفكري والسياسي الفئوي.

          ولا يقتصر الأمر على تسييس الثقافة بل يتعداها إلى أن تكون السياسة هي مصدر الثقافة الفعلي في الوطن العربي. فلو نظرنا للتطور الثقافي والفكري في المجتمعات الغربية على وجه التحديد سنجد أن العلم هو العنصر الجوهري الذي يستند إليه المجتمع كأساس ودعامة له، فهو الذي تنطلق منه الثقافة بمختلف مظاهرها من طرق التفكير والممارسات والقيم والتحليل والنقد وغيرها من مظاهر أخرى. ولم تكن السياسة بمعزل عن ذلك إذ إن العلم وتطوراته يمثل الدعامة الحقيقية لاقتصاديات تلك الدول، وكلما حقق العلماء تقدما في المجالات التكنولوجية والعلمية انعكس ذلك على أوضاع تلك الدول والأطروحات السياسية فيها، فضلاً عن دور المفكرين والفلاسفة في تشكيل النظريات السياسية والأيديولوجيات وتطوير الأفكار ونقدها وتحليلها ... إلخ.

          ونظرًا لغياب أي دور حقيقي للعلم والعلماء في الواقع العربي أصبحت السياسة هي الأساس الذي تتشكل منه الثقافة، خصوصًا العديد من القيم الثقافية مثل الخضوع للسلطة والإقصاء وغياب مظاهر الاختلاف في الرأي والفكر والتعددية ونشر ثقافة الخوف والرعب والإذعان والتسليم بما يصدر من السلطات ونشر قيم الفساد و«البلطجة» والتطاول على القانون أو التحايل عليه. كما تم تسييس التعليم والعلم ومصادرة دورهما الحقيقي في عملية التغيير والتطور، وتسييس الأشكال الاجتماعية التقليدية أيضا كالقبيلة والعشيرة والطائفة أو العرق وما تحمله من قيم ثقافية والاعتماد عليها كأساس للحكم أو فرض الهيمنة على الشرائح الاجتماعية ومن ثم المجتمع، وقد أدى ذلك إلى إعاقة تقدم المجتمع وتحديثه ثقافيًا، فإحياء وتحذير ثقافة الأشكال الاجتماعية التقليدية السابقة الذكر ساهم في إثارة التفرقة وتجذرها بين أبناء المجتمع ونشر أوجه ثقافة الإقصاء والتعصب والانغلاق الفكري والانعزال عن التفاعل الثقافي المحلي وحتى الخارجي من جهة وأخل في التوازي ما بين التطور في البنية التحتية الحديثة للكثير من الدول العربية والتحول للثقافة المدنية المعاصرة من جهة أخرى.

التسلط والثقافة

          وهناك مسألة أخرى لعبت فيها السياسة دورًا مهمًا في عرقلة التطور الثقافي، فقد تسبب التسلط السياسي في المجتمع العربي في جمود أوجه الثقافة العامة وبنى عددًا من القيم أصبحت مثل الأصنام الثابتة لا تخضع لأي شكل من أشكال النقد أو التساؤل والتغيير وتحاط بهالة من القداسة، وأصبحت قيمًا تتوارثها الأجيال، بعبارة أخرى أصبحت من المسلمات غير القابلة للجدل والنقاش، وهي تدور حول الحاكم أو الفئة التي تحكم بحيث تتشكل الثقافة العامة في المجتمع بناءً عليها وتسير طريقة حياة الأفراد وفقها. وقد عزز من ذلك حالة الجمود السياسي التي مضى عليها عقود عديدة جمدت معها التطور الثقافي المرتبط بها علاوة على موجة التوريث التي شرعت بها بعض النظم خصوصًا التي لم يكن موجوداً بها ذلك الشكل من الممارسة في نظمها السياسية.

          إن شكل النظام السياسي يعتبر مفتاحًا مهمًا في تطور ثقافة الشعوب أو تراجعها على شتى المستويات، ولعل خير مثال على ذلك ما شهدته العصور الوسطى الأوربية عندما كانت الكنيسة وحلفاؤها من الأرستقراطية يهيمنون على الحكم ويقمعون أي شكل من أشكال المعارضة، ولم تتطور أوربا وتستمر بتطورها إلا عندما تحولت لنظم ديمقراطية تحترم فيها الحريات بشتى أشكالها. وهذا يطرح مسألة الارتباط ما بين التفكير الحر والمبدع ودوره في التغيير وإنتاج الثقافة وتطورها والسلطة السياسية، ومادام هناك تسلط سياسي وثوابت لا يمكن الحديث عنها أو تناولها بالنقد والتحليل فلن يكون هناك تطور ثقافي وفكري حقيقي، فالسياسة لها طابعها الشمولي في المجتمع لأنها نتاج عام لأنشطته وآثارها على بنية المجتمع ككل، وهذا مربط الفرس في الواقع العربي الذي رزحت ولاتزال العديد من الشعوب تحت تسلط سياسي كلف الشعب العربي الكثير، وساهم في إعاقة تقدمه، فهل يعقل أن يحل أزمة الثقافة العربية من تسبب بها؟!

          إن ما تشهده الساحة العربية من ثورات وحراك نحو الديمقراطية والحريات العامة فيما أصبح يعرف بـ «ربيع الثورات العربية» يعبر عن تحول ثقافي حقيقي في الواقع العربي وكسر لحالة الجمود السائدة على مدى الفترة السابقة، هذه التحركات ستكون بلا شك المحرك الحقيقي لإحداث تغير ثقافي نوعي في حالة نجاحها في بناء أنظمة تتداول فيها السلطة ديمقراطيًا وتقوم على التعددية وتحترم الحريات الفردية والعامة، وإذا استمرت تلك التحركات واتسع نطاقها خلال الشهور المقبلة، فإن عملية التغيير تستدعي بالفعل قمة عربية للثقافة لمناقشة الوجهة الفكرية والثقافية التي ستسير عليها الشعوب العربية بانطلاقتها الجديدة، وستكون تلك القمة قمة حقيقية للنهوض بالثقافة العربية.
--------------------------------
* أكاديمي من الكويت.

 

عبدالله الجسمي