التزوّد بالبحوث العلمية من يبيع ومن يشتري؟

التزوّد بالبحوث العلمية من يبيع ومن يشتري؟

يعيش الوسط الجامعي في مختلف البلدان منذ سنوات عدة وضعاً مزرياً في مجال نشر البحوث المحكمة والاشتراكات في المجلات العلمية الأكاديمية. 
والواقع أن هذا المجال كانت مشاكله تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم منذ عقود. ويرجع ذلك إلى عوامل عدة، أبرزها أن السوق العالمية عرفت احتكاراً وجشعاً كبيرين في باب نشر وتوزيع المجلات الأكاديمية في شتى العلوم.

لا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬وسائل‭ ‬النشر‭ ‬قد‭ ‬تحسنت‭ ‬كثيراً‭ ‬وصار‭ ‬معظمها‭ ‬إلكترونياً‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬النشر‭ ‬الورقي‭. ‬وسعياً‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬الربح‭ ‬التجاري‭ ‬وتسهيلاً‭ ‬لمهمة‭ ‬القارئ،‭ ‬عملت‭ ‬مؤسسات‭ ‬نشر‭ ‬المجلات‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬النسختين‭ ‬الورقية‭ ‬والإلكترونية‭ ‬معاً،‭ ‬وتعاملت‭ ‬بذهنية‭ ‬تجارية‭ ‬استاء‭ ‬منها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والمكتبات‭: ‬عندما‭ ‬تطلب‭ ‬المؤسسات‭ ‬الجامعية‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬النسختين‭ ‬الورقية‭ ‬والإلكترونية‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬يكون‭ ‬السعر‭ ‬أقل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬حاصل‭ ‬جمع‭ ‬سعر‭ ‬الاشتراك‭ ‬الورقي‭ ‬مع‭ ‬الاشتراك‭ ‬الإلكتروني‭ ‬بشكل‭ ‬إفرادي‭. ‬

كما‭ ‬تتيح‭ ‬للأفراد‭ ‬وغير‭ ‬الأفراد‭ ‬شراء‭ ‬مقالة‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬المنشورة‭ ‬مباشرة‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭. ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬تجد‭ ‬سعر‭ ‬المقالة‭ ‬الواحدة‭  ‬بـ‭ ‬30‭ ‬أو‭ ‬40‭ ‬دولاراً‭... ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬دفعتها‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تحميل‭ ‬المقالة‭ ‬بشكل‭ ‬‮«‬بي‭ ‬دي‭ ‬إف‮»‬‭. ‬

وهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬التجارية‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬في‭ ‬المجلات‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تعمل‭ ‬بها‭ ‬أيضاً‭ ‬دور‭ ‬نشر‭ ‬الكتب‭ ‬الأكاديمية‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ - ‬إن‭ ‬تعذر‭ ‬عليه‭ ‬اقتناء‭ ‬كتاب‭ - ‬أن‭ ‬يشتري‭ ‬الفصل‭ ‬الذي‭ ‬يرغب‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬ويحمله‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الدار‭. ‬وعندما‭ ‬تتفاوض‭ ‬هذه‭ ‬الدور‭ ‬مع‭ ‬المكتبات‭ ‬حول‭ ‬الاشتراكات‭ ‬تفرض‭ ‬أثماناً‭ ‬تبدو‭ ‬مغرية،‭ ‬لكنها‭ ‬تقدم‭ ‬مع‭ ‬العرض‭ ‬باقة‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬ذو‭ ‬مستوى‭ ‬متدنٍ‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مطلوب‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬وبعضها‭ ‬فقط‭ ‬يكثر‭ ‬الطلب‭ ‬عليه‭. ‬والخيار‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تشترك‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬المجلات‭ ‬بأسعار‭ ‬مرتفعة،‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬حدة‭.‬

وبالموازاة‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تضع‭ ‬المجلات‭ ‬في‭ ‬مواقعها‭ ‬قوالب‭ ‬دقيقة‭ ‬ينبغي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مؤلف‭ ‬تحميلها‭ ‬والاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬بحثه‭ ‬وفق‭ ‬المنوال‭ ‬المقدم‭. ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬يتعذر‭ ‬آلياً‭ ‬إرسال‭ ‬المقال‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مطابقاً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جزئياته‭ ‬للقالب‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬الموقع‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬توحيد‭ ‬نمط‭ ‬الكتابة‭ ‬والإخراج‭ ‬فتصبح‭ ‬العملية‭ ‬التقنية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬المجلة‭ ‬لإصدار‭ ‬أعدادها‭ ‬شبه‭ ‬آلية‭ ‬ولا‭ ‬تتطلب‭ ‬منها‭ ‬جهداً‭ ‬يذكر‭. ‬

إن‭ ‬كثرة‭ ‬المجلات‭ ‬وتزايدها‭ ‬المذهل‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬صعّب‭ ‬على‭ ‬المكتبات‭ ‬الجامعية‭ ‬أداء‭ ‬دوْرها‭ ‬في‭ ‬مسعاها‭ ‬الرامي‭ ‬إلى‭ ‬توفير‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬المجلات‭ ‬لجمهور‭ ‬الباحثين‭. ‬ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬المجلات‭ ‬المتخصصة‭ ‬صار‭ ‬باهظ‭ ‬الثمن‭. ‬فلا‭ ‬تستغرب‭ ‬إن‭ ‬وجدت‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬المجلة‭ ‬الواحدة‭ ‬يتجاوز‭ ‬سنوياً‭ ‬4000‭ ‬دولار‭. ‬وإذا‭ ‬علمنا‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬الآن‭ ‬نحو‭ ‬40‭ ‬ألف‭ ‬مجلة‭ ‬أكاديمية،‭ ‬أدركنا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬تخصص‭ ‬جامعة‭ ‬من‭ ‬الجامعات،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬رقيها،‭ ‬قرابة‭ ‬مليار‭ ‬ونصف‭ ‬المليار‭ ‬دولار‭ ‬للاشتراك‭ ‬في‭ ‬المجلات‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬شراء‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬بالآلاف‭ ‬كل‭ ‬سنة‭.‬

 

دار‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬وأخواتها

من‭ ‬كبريات‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬العالمية‭ ‬دار‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬Elsevier‭ ‬الهولندية‭-‬البريطانية‭ ‬العريقة‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬عام‭ ‬1887‭. ‬تحتكر‭ ‬هذه‭ ‬الدار‭ ‬نشر‭ ‬نحو‭ ‬ألفيْ‭ ‬مجلة‭ ‬عالمية‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وتشغّل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬7‭ ‬آلاف‭ ‬موظف‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭. ‬وقد‭ ‬اتُهِمت‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجامعيين‭ ‬بأنها‭ ‬تحتكر‭ ‬المجلات‭ ‬وتفرض‭ ‬أثماناً‭ ‬باهظة‭ ‬تجاوزت‭ ‬حدود‭ ‬المعقول‭. ‬ونجم‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬نقاش‭ ‬واسع‭ ‬حول‭ ‬‮«‬سعر‭ ‬المعرفة‮»‬‭. ‬وتمت‭ ‬مقاطعة‭ ‬المؤسسة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬باحث‭ ‬وعديد‭ ‬من‭ ‬مكتبات‭ ‬الجامعات‭ (‬منها‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد‭). ‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬المؤثرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقاطعة‭ ‬عالم‭ ‬الرياضيات‭ ‬اللامع،‭ ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬ميدالية‭ ‬فيلدز‭ ‬عام‭  1998‭ (‬المعادلة‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭) ‬تيموثي‭ ‬غُورس‭ ‬Timothy‭ ‬Gowers،‭ ‬الأستاذ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كمبريدج‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬مبالغة‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬أن‭ ‬جامعة‭ ‬باريسية‭ ‬مرموقة‭ (‬وهي‭ ‬جامعة‭ ‬باريس‭ ‬6‭) ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬تخصص‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مليون‭ ‬يورو‭ ‬للاشتراكات‭ ‬في‭ ‬المجلات‭. ‬ولما‭ ‬قاطعت‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬تفاوضت‭ ‬معها‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬وخفضت‭ ‬ثمن‭ ‬الاشتراك‭ ‬بـ‭ ‬225‭ ‬ألف‭ ‬يورو‭! ‬

ومن‭ ‬الممارسات‭ ‬التي‭ ‬لجأت‭ ‬إليها‭ ‬بعض‭ ‬الجامعات‭ ‬لكسر‭ ‬احتكار‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬أنها‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬أساتذتها‭ ‬وضع‭ ‬أبحاثهم‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬مؤسستهم‭ ‬لينفذ‭ ‬إليها‭ ‬مجاناً‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليها‭. ‬لكن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬تمنع‭ ‬هذه‭ ‬الممارسة‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬ينشر‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬المؤلف‭ ‬مبلغاً‭ ‬مالياً‭ ‬محدداً‭ ‬إن‭ ‬أراد‭ ‬القيام‭ ‬بذلك‭. ‬وقد‭ ‬وصل‭ ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬2150‭ ‬دولاراً‭ ‬للبحث‭ ‬الواحد‭.‬

والمفارقة‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الأكاديمي‭ ‬المتخصص‭ ‬أن‭ ‬المجلة‭ ‬لا‭ ‬تدفع‭ ‬أي‭ ‬مكافأة‭ ‬مادية‭ ‬للمؤلفين‭ ‬ولا‭ ‬للمحكمين‭. ‬والأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬عدداً‭ ‬معتبراً‭ ‬من‭ ‬المجلات‭ ‬العلمية‭ ‬ذ‭ ‬لاسيما‭ ‬التجريبية‭ ‬منها‭ - ‬يتطلب‭ ‬الآن‭ ‬مبلغاً‭ ‬مالياً‭ ‬من‭ ‬المؤلف،‭ ‬تدفعه‭ ‬عموماً‭ ‬جامعته،‭ ‬لقاء‭ ‬نشر‭ ‬المقال‭. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬فإن‭ ‬الباحثين‭ ‬يكسبون‭ ‬وراء‭ ‬النشر‭ ‬الشهرة‭ ‬والتعريف‭ ‬بمنتوجاتهم‭ ‬العلمية،‭ ‬ويفوزون‭ ‬بالترقيات‭ ‬في‭ ‬مؤسساتهم‭ ‬وتتعزز‭ ‬مكانتهم‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬اختصاصهم‭.‬

 

من‭ ‬سوارتز‭ ‬إلى‭ ‬إلبكيان

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬قام‭ ‬الشاب‭ ‬الأمريكي‭ ‬آرون‭ ‬سوارتز‭ ‬(2013‭-‬1986) Aaron‭ ‬Swartz‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬بتحميل‭ ‬قرابة‭ ‬5‭ ‬ملايين‭ ‬مقال‭ ‬أكاديمي‭ ‬من‭ ‬قاعدة‭ ‬بيانات‭ ‬‮«‬جستور‮»‬‭ ‬JSTOR‭ ‬الشهيرة،‭ ‬واشتُبِه‭ ‬أن‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ينوي‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬لكسب‭ ‬المال‭ ‬منها‭. ‬بينما‭ ‬عرف‭ ‬الشاب‭ ‬بنضاله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فتح‭ ‬مجال‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬للجميع‭. ‬

وقد‭ ‬أصرّت‭ ‬كارمن‭ ‬أورتز‭ ‬Carmen‭ ‬Ortiz‭ ‬الوكيلة‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬سوارتز‭ ‬عام‭ ‬2011‭. ‬وكان‭ ‬بالإمكان‭ -‬إن‭ ‬ثبتت‭ ‬التهمة‭- ‬أن‭ ‬يسجن‭ ‬مدة‭ ‬35‭ ‬سنة‭ ‬وأن‭ ‬يطالب‭ ‬بدفع‭ ‬غرامة‭ ‬تقدر‭ ‬بمليون‭ ‬دولار‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انكشف‭ ‬أمر‭ ‬سوارتز‭ ‬أرجع‭ ‬الأقراص‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬فيها‭ ‬ملفات‭ ‬المقالات‭ ‬والبحوث‭ ‬وتعهد‭ ‬بألا‭ ‬يبثها‭. ‬وعندئذ‭ ‬امتنعت‭ ‬‮«‬جستور‮»‬‭ ‬عن‭ ‬متابعته‭ ‬قضائياً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أورتز‭ ‬واصلت‭ ‬المتابعة‭ ‬وكانت‭ ‬ستبدأ‭ ‬المحاكمة‭ ‬الفدرالية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬2013‭. ‬

لكن‭ ‬الشاب‭ ‬سوارتز‭ ‬انتحر‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬قبل‭ ‬شهر‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬المحاكمة،‭ ‬فكانت‭ ‬نهاية‭ ‬درامية‭ ‬هزت‭ ‬ذويه‭ ‬ومحبيه‭. ‬وعرف‭ ‬سوارتز‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬تضامناً‭ ‬كبيراً‭ ‬تمثل‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬لأعمالهم‭ ‬بالمجان‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت،‭ ‬كما‭ ‬نُشر‭ ‬جزء‭ ‬معتبر‭ ‬من‭ ‬أرشيف‭ ‬‮«‬جستور‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ظهرت‭ ‬لائحة‭ ‬تطالب‭ ‬باستقالة‭ ‬القاضية‭ ‬أورتز‭ ‬وقّعها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬شخص‭. ‬ودانت‭ ‬لوائح‭ ‬أخرى‭ ‬ضغوطات‭ ‬الحكومة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ودعت‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬حقوق‭ ‬التأليف‭ ‬والنشر‭.‬

وفي‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذه‭ ‬التجاذبات،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬طالبة‭ ‬من‭ ‬كازاخستان،‭ ‬اسمها‭ ‬ألكساندرا‭ ‬إلبكيان‭ ‬Alexandra‭ ‬Elbakyan،‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الأعصاب‭ ‬وتفاعل‭ ‬العقل‭ ‬مع‭ ‬الآلة‭. ‬وقد‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬موسكو،‭ ‬ثم‭ ‬درست‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وبعدها‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬بلدها‭ ‬لتدرس‭ ‬تاريخ‭ ‬العلوم‭. ‬وكان‭ ‬عليها‭ ‬خلال‭ ‬دراستها‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬البحوث،‭ ‬وكلما‭ ‬حاولت‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أحدها‭ ‬طُلب‭ ‬منها‭ ‬مبلغ‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لها‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬سبيل‭ ‬يجعلها‭ ‬توفر‭ ‬البحوث‭ ‬للمحتاجين‭ ‬بالمجان‭. ‬

وهكذا‭ ‬أنشأت‭ ‬يوم‭ ‬5‭ ‬سبتمبر‭ ‬2011‭ ‬موقعا‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬ساي‭ - ‬هب‮»‬‭ ‬sci‭-‬hub‭ ‬يسمح‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬البحوث‭ ‬بالمجان‭. ‬وقد‭ ‬فاق‭ ‬عدد‭ ‬البحوث‭ ‬المتاحة‭ ‬فيه‭ ‬58‭ ‬مليون‭ ‬بحث‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬اكتشفت‭ ‬المكتبات‭ ‬الجامعية‭ ‬المرموقة‭ ‬أن‭ ‬كلمات‭ ‬سرها‭ ‬مع‭ ‬كبريات‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬العلمية‭ - ‬وبصفة‭ ‬خاصة‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬و«سبرينغر‮»‬‭ ‬Springer‭ ‬و«ويلي‮»‬‭ ‬Wiley‭ - ‬مخترقة‭. ‬وكلمات‭ ‬السر‭ ‬هذه‭ ‬تُعتبر‭ ‬مصدراً‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬يستعملها‭ ‬الساهرون‭ ‬على‭ ‬الموقع‭ ‬لتعقب‭ ‬المقالات‭ ‬والكتب‭ ‬الصادرة،‭ ‬ثم‭ ‬إتاحتها‭ ‬لجميع‭ ‬من‭ ‬يسأل‭ ‬عنها‭ ‬عبر‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ (‬بالنسبة‭ ‬للمجلات‭) ‬والموقع‭ ‬‮«‬ليبجين‮»‬‭ ‬Libgen‭ ‬بالنسبة‭ ‬للكتب‭ (‬فُتح‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬عام‭ ‬2012‭). ‬

وفي‭ ‬نوفمبر‭ ‬2015‭ ‬حكم‭ ‬على‭ ‬إلبكيان‭ ‬في‭ ‬المحكمة‭ ‬الفدرالية‭ ‬بنيويورك‭ ‬بتهمة‭ ‬قرصنة‭ ‬المقالات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تمتلكها‭ ‬دار‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬وأوقف‭ ‬الموقع،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ظهر‭ ‬مجدداً‭. ‬وما‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الموقع‭ ‬يساعده‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬بتزويده‭ ‬بكلمات‭ ‬سر‭ ‬خاصة‭ ‬بهم‭. ‬والجميل‭ ‬أن‭ ‬موقع‭ ‬إلبكيان‭ ‬يخزّن‭ ‬المقالات‭ ‬والكتب‭ ‬المقرصنة،‭ ‬وكانت‭ ‬إلبكيان‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬ملايين‭ ‬المقالات‭ ‬والكتب‭ ‬لمن‭ ‬يطلبها‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬وجدت‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬سبيلاً‭ ‬إلى‭ ‬توقيف‭ ‬القرصنة‭. ‬ولحسن‭ ‬حظ‭ ‬الباحثين‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬اختصاصهم‭ ‬أن‭ ‬المحكمة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لا‭ ‬سلطة‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬كازاخستان،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الموقع‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬أوضحت‭ ‬إلبكيان‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬موجهة‭ ‬للمحكمة‭ ‬أن‭ ‬الباحث‭ ‬والجامعة‭ ‬التي‭ ‬توظفه‭ ‬لا‭ ‬يجنيان‭ ‬أي‭ ‬مقابل‭ ‬مالي‭ ‬من‭ ‬الناشرين،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يتجاوز‭ ‬الدخل‭ ‬السنوي‭ ‬لدار‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬مثلاً‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭! ‬وذهبت‭ ‬جرأة‭ ‬هذه‭ ‬الدار‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬طلبت‭ ‬تعويضات‭ ‬بقيمة‭ ‬تقدر‭ ‬أحياناً‭ ‬بآلاف‭ ‬الدولارات‭ ‬مقابل‭ ‬كل‭ ‬بحث‭ ‬تمّت‭ ‬قرصنته‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأضرار‭ ‬تقدرها‭ ‬‮«‬إلسفير‮»‬‭ ‬بمليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬بسبب‭ ‬موقع‭ ‬القرصنة‭ ‬‮«‬ساي‭ -‬هب‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬أظهرت‭ ‬دراسة‭ ‬أن‭ ‬كمية‭ ‬وعدد‭ ‬المقالات‭ ‬المحملة‭ ‬والمطلوبة‭ ‬من‭ ‬الموقع‭ ‬خلال‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ (‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬2015‭ ‬إلى‭ ‬فبراير‭ ‬2016‭) ‬بلغت‭ ‬28‭ ‬مليون‭ ‬مقال‭. ‬وهذه‭ ‬الطلبات‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬القارات‭ ‬الخمس،‭ ‬منها‭ ‬حوالي‭ ‬8‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬والصين‭. ‬وأثبتت‭ ‬الدراسة‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ (‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأوربا‭ ‬الغربية‭). ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كثافة‭ ‬الطلبات‭ ‬وردت‭ ‬من‭ ‬الجامعات‭ ‬الأمريكية‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الموقع‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬هو‭ ‬سهولة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المقال‭ ‬المرغوب‭ ‬فيه‭ ‬عبر‭ ‬موقع‭ ‬‮«‬ساي‭ - ‬هب‮»‬‭ ‬مقارنة‭ ‬بتعقيدات‭ ‬طلبه‭ ‬عبر‭ ‬المكتبة‭ ‬الجامعية‭. ‬وتشير‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التحميل‭ ‬اليومي‭ ‬بلغ‭ ‬أحياناً‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬مقال‭.‬

 

بوابة‭ ‬البحث

لايزال‭ ‬الباحثون‭ ‬يحاولون‭ ‬الاهتداء‭ ‬إلى‭ ‬الطريقة‭ ‬المثلى‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬مقال‭ ‬يهمهم‭ ‬في‭ ‬أبحاثهم‭ ‬دون‭ ‬عناء‭ ‬ولا‭ ‬تمويل،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إليها‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬والفقيرة‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬المحاولات،‭ ‬إنشاء‭ ‬موقع‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬ريسارش‭ - ‬غيت‮»‬‭ (‬بوابة‭ ‬البحث‭) ‬ResearchGate‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬من‭ ‬الباحثيْن‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الفيروسات‭ ‬إيجاد‭ ‬ماديش‭ ‬Ijad‭ ‬Madisch‭ ‬وسورن‭ ‬هوفمير‭ ‬Sören‭ ‬Hofmayer  ‬والمعلوماتي‭ ‬هورست‭ ‬فيكنشر‭ ‬Horst‭ ‬Fickenscher‭. ‬

ومن‭ ‬مميزات‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬أنه‭ ‬يسمح‭ ‬بالبحث‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬الداخلية‭ ‬لشبكته‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬قواعد‭ ‬البيانات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمراجع‭ ‬العلمية‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الخدمات‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ - ‬بعد‭ ‬التسجيل‭ ‬فيه‭ ‬وتحديد‭ ‬الاختصاص‭ ‬المطلوب‭ - ‬أنه‭ ‬يخبر‭ ‬المعني‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬اختصاصه‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬المسجلين‭. ‬ويمكنه‭ ‬باستخدام‭ ‬الموقع‭ ‬طلب‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬البحوث‭ ‬المنشورة،‭ ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬توضع‭ ‬تلك‭ ‬البحوث‭ ‬في‭ ‬الموقع‭ ‬ويستطيع‭ ‬النفاذ‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليها‭. ‬كما‭ ‬يقيّم‭ ‬الموقع‭ ‬دورياً‭ ‬عدد‭ ‬القراء‭ ‬الذين‭ ‬يطلعون‭ ‬على‭ ‬منشورات‭ ‬كل‭ ‬مسجل‭. ‬وبذلك‭ ‬أنشأ‭ ‬الموقع‭ ‬شبكة‭ ‬تعاون‭ ‬مثمر‭ ‬بين‭ ‬الباحثين‭ ‬المسجلين‭ ‬فيه‭ ‬دون‭ ‬اختراق‭ ‬القوانين‭ ‬السارية‭ ‬المفعول‭ ‬حول‭ ‬القرصنة‭. ‬وهكذا‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬الموقع‭ ‬آلاف‭ ‬المجموعات‭ (‬مصنفة‭ ‬حسب‭ ‬الاختصاصات‭ ‬الفرعية‭) ‬التي‭ ‬تتواصل‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬وتتبادل‭ ‬الوثائق‭ ‬والأبحاث‭ ‬العلمية،‭ ‬وتطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬مفتوحة‭ ‬وتناقشها‭ ‬وتقدم‭ ‬إجابات‭ ‬عنها‭ ‬داخل‭ ‬الموقع‭ ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬متصلاً‭ ‬بالبريد‭ ‬الإلكتروني‭ ‬بكل‭ ‬مسجل‭ ‬ويشعره‭ ‬بالجديد‭ ‬أولاً‭ ‬فأولاً‭. ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬المخاض‭ ‬الذي‭ ‬يعرفه‭ ‬الآن‭ ‬مجال‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬وسوق‭ ‬المجلات،‭ ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬فيه‭ ‬ستتغير،‭ ‬وستوضع‭ ‬تدرجياً‭ ‬قواعد‭ ‬جديدة‭ ‬تسيّر‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬المؤلف‭ ‬والجامعة‭ ‬وقنوات‭ ‬النشر‭. ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬الجميع‭ ‬يعيش‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭. ‬والسؤال‭ ‬المطروح‭ ‬على‭ ‬المعنيين‭ ‬هو‭: ‬الأخلاق‭ ‬تقول‭ ‬بوجوب‭ ‬توفير‭ ‬المراجع‭ ‬لطالب‭ ‬العلم‭ ‬حيثما‭ ‬كان،‭ ‬فكيف‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إلحاق‭ ‬الضرر‭ ‬بالقائمين‭ ‬على‭ ‬النشر‭ ‬العلمي؟‭! ‬