بيتر بول روبنز «صيد فرس النهر والتمساح»

بيتر بول روبنز «صيد فرس النهر والتمساح»

خلال‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬كان‭ ‬بيتر‭ ‬بول‭ ‬روبنز‭ (‬1577‭-‬1640م‭) - ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬رسامي‭ ‬أوربا‭ - ‬تنهال‭ ‬عليه‭ ‬الطلبات‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬القارة،‭ ‬ما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬إنشاء‭ ‬مرسم‭ ‬ضخم‭ ‬أشبه‭ ‬بالمصانع،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يخط‭ ‬بنفسه‭ ‬اللوحة،‭ ‬ثم‭ ‬يترك‭ ‬لمعاونيه‭ ‬وتلامذته‭ ‬مهمة‭ ‬إكمالها،‭ ‬ليعود‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬ويضيف‭ ‬إليها‭ ‬اللمسات‭ ‬الأخيرة‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬المرسم‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أنتويرب‭ ‬خرجت‭ ‬مئات‭ ‬اللوحات،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يعتبر‭ ‬فتحاً‭ ‬جديداً‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الرسم،‭ ‬مثل‭ ‬مشاهد‭ ‬الصيد‭ ‬الكبيرة‭. ‬ومن‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬هناك‭ ‬المجموعة‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1615‭ ‬و1616م،‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬أمير‭ ‬بافاريا‭ ‬مكسيميليان‭ ‬الأول،‭ ‬بعدما‭ ‬حدّد‭ ‬الأمير‭ ‬للرسَّام‭ ‬مواضيع‭ ‬اللوحات‭ ‬الأربع،‭ ‬ومنها‭ ‬واحد‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يمثل‭ ‬مشهد‭ ‬صيد‭ ‬فرس‭ ‬نهر‭ ‬وتمساح،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬أمامه‭ ‬هنا‭.‬

كان‭ ‬على‭ ‬الرسام‭ ‬أن‭ ‬يتخيل‭ ‬مسرحاً‭ ‬ممكناً‭ ‬للمشهد،‭ ‬فاختار‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭. ‬تدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬النخلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬اليمين،‭ ‬عِلماً‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يزر‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬حياته‭. ‬واستتبع‭ ‬ذلك‭ ‬وجوب‭ ‬اختيار‭ ‬صيادين‭ ‬عرب‭. ‬ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬شاهد‭ ‬سابقاً‭ ‬أي‭ ‬فرس‭ ‬نهر،‭ ‬فيُروى‭ ‬أنه‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬روما‭ ‬لمشاهدة‭ ‬فرس‭ ‬نهر‭ ‬محنّط‭ ‬كان‭ ‬يُعرض‭ ‬هناك‭.‬

شكّل‭ ‬روبنز‭ ‬عناصر‭ ‬لوحته‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬صيادين‭ ‬مسلحين‭ ‬بالرماح‭ ‬والسيوف‭ ‬فوق‭ ‬خيولهم‭ ‬العربية،‭ ‬وخادمين‭ ‬مساعدين،‭ ‬أحدهما‭ ‬سقط‭ ‬قتيلاً،‭ ‬وآخر‭ ‬برغم‭ ‬وقوعه‭ ‬تحت‭ ‬التمساح،‭ ‬يبقى‭ ‬متطلعاً‭ ‬صوب‭ ‬الحيوان‭ ‬الأشرس،‭ ‬فرس‭ ‬النهر‭ ‬الذي‭ ‬يحتل‭ ‬وسط‭ ‬اللوحة‭ ‬تماماً‭.‬

تعكس‭ ‬الدقة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬رسم‭ ‬بها‭ ‬روبنز‭ ‬الحيوانين‭ ‬المفترسين‭ ‬الاهتمام‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬آنذاك‭ ‬بــــدراسة‭ ‬علوم‭ ‬الحيوان‭ ‬والطبيعة‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬يبقى‭ ‬تفصيلاً‭ ‬صغيراً‭ ‬مقارنة‭ ‬بجوانب‭ ‬أخرى‭ ‬تتجلى‭ ‬فيها‭ ‬عبقرية‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭.‬

من‭ ‬المعروف‭ ‬عن‭ ‬روبنز‭ ‬أنه‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬رفع‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬النضوج‭ ‬الفن‭ ‬الباروكي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬والخطوط‭ ‬المنحنية،‭ ‬الذي‭ ‬ظهرت‭ ‬ملامحه‭ ‬الأولى‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬يرتقي‭ ‬روبنز‭ ‬بالباروك‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أعلى‭ ‬مما‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أعماله‭ ‬الأخرى‭.‬

ففي‭ ‬حين‭ ‬درجت‭ ‬العادة‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬تركيب‭ ‬معظم‭ ‬عناصر‭ ‬اللوحات‭ ‬الباروكية‭ ‬وفق‭ ‬أحد‭ ‬قُطري‭ ‬المستطيل،‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬تركيب‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬القطرين‭ ‬معاً‭: ‬واحد‭ ‬يبدأ‭ ‬بالقتيل‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬اليمين‭ ‬ويمر‭ ‬بفرس‭ ‬النهر‭ ‬وينتهي‭ ‬بالصياد‭ ‬ذي‭ ‬الرداء‭ ‬الأصفر‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬اليسار،‭ ‬وآخر‭ ‬يبدأ‭ ‬بالرجل‭ ‬الذي‭ ‬سقط‭ ‬أرضاً‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬اليسار‭ ‬ويمر‭ ‬بفرس‭ ‬النهر‭ ‬أيضاً‭ ‬وينتهي‭ ‬برأس‭ ‬الحصان‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬اليمين‭. ‬وحول‭ ‬نقطة‭ ‬التقاء‭ ‬القطرين‭ (‬فرس‭ ‬النهر‭)‬،‭ ‬بنى‭ ‬الفنان‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحركات‭ ‬المتقوسة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الاتجاهات‭: ‬فالصيادون‭ ‬وخيولهم‭ ‬يحاولون‭ ‬الالتفاف‭ ‬على‭ ‬فرس‭ ‬النهر‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬دائرية‭ ‬باتجاه‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬التمساح‭ ‬يلتف‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬المعاكس‭. ‬وفيما‭ ‬تبدو‭ ‬الخيول‭ ‬وكأنها‭ ‬تطير‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬اللوحة،‭ ‬يبدو‭ ‬الكلب‭ ‬الأبيض‭ ‬منطلقاً‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬المعاكس‭ ‬من‭ ‬الأسفل‭ ‬باتجاه‭ ‬الأعلى‭. ‬

ومن‭ ‬شعر‭ ‬الخيول‭ ‬المتطاير‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬إلى‭ ‬الفكين‭ ‬المفتوحين‭ ‬عند‭ ‬الحيوانين‭ ‬المفترسين،‭ ‬مروراً‭ ‬بالعضلات‭ ‬المفتولة‭ ‬عند‭ ‬الرجال‭ ‬والخيول‭ ‬على‭ ‬حدٍ‭ ‬سواء،‭ ‬تتضافر‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬وتتكامل‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الحركة‭ ‬الصاخبة‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬التي‭ ‬تتسم‭ ‬بمستوى‭ ‬عالٍ‭ ‬من‭ ‬الديناميكية‭ ‬المضطربة‭ ‬والعنف‭ ‬والشاعرية‭ ‬المعززة‭ ‬بالألوان‭ ‬الزاهية‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬كثيرون‭ ‬تمهيداً‭ ‬للرومنطيقية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬بقرنين‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

ولكي‭ ‬ندرك‭ ‬المكانة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لهذه‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬فن‭ ‬الرسم،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬تراتبية‭ ‬لأهمية‭ ‬اللوحات‭. ‬وكانت‭ ‬الأعمال‭ ‬الدينية‭ ‬والمستوحاة‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬الأدبية‭ ‬تحتل‭ ‬المرتبة‭ ‬العليا،‭ ‬نظراً‭ ‬للجهد‭ ‬الذهني‭ ‬الذي‭ ‬تتطلبه،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬رسم‭ ‬مشاهد‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭ ‬موضوع‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الثالثة‭ ‬بعد‭ ‬الصور‭ ‬الشخصية‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬روبنز‭ ‬تمكن‭ ‬بعبقريته‭ ‬وخياله‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬جهده‭ ‬الذهني‭ ‬بشكل‭ ‬رئيس،‭ ‬وتمكن‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬الارتقاء‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬‮«‬التحفة‮»‬،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬وصف‭ ‬الرسام‭ ‬الرومنطيقي‭ ‬أوجين‭ ‬دولاكروا‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائتي‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬ظهورها‭ ‬