مظاهر العنف في الرواية العربية المعاصرة

مظاهر العنف  في الرواية العربية المعاصرة

يهتم علماء عنف اللغةِ بالتضاد، إذ إن لكلّ كلمةٍ ضدّها، وكما في الحياة لين ففيها قسوة، والاثنان يسيران في خطينِ متوازيين لا يلتقيان، ولكن ينظر أحدهما إلى الآخر بحذرٍ، كما تنظر الحياة إلى الموت، وينظر النور إلى الظلام. أجمعت جلّ القواميس العربية على تعريف العنف في ألفاظٍ وجملٍ لا تخرج عن ميدانِها الرحبِ مواكبه الماضية قدماً في دهاليز الأبجدية.

 

العنف «لغة»: الشدّة والقسوة، وهو ضدّ الرفق واللين، وأعنف الشيء: أخذه بشدّة، واعتنف الشيء كرهه وجهله وأنكره. والتعنيف: التوبيخ والتقريع واللوم.
والعنف «اصطلاحاً»: هو «كلّ إكراهٍ فيزيقي أو نفسي قادرٌ على إثارةِ الرعبِ والخوفِ والألمِ والموت»، و«كلّ تصرفٍ يؤدّي إلى إلحاق الأذى بالآخرين»! اختلفت طرقه وتعدّدت نواياه.
يجمع جلّ منظري العصور على أن الإنسان أول خالق للعنف، وهو مبدع جغرافيته والملمّ بتضاريسه العسيرة، وهو «ليس سوى ذئبٍ تجاه أخيه الإنسان»، في رأي هوبز. 
ويقول جون واتسون أيضاً: «إن الإنسان شأنه شأن الكلاب والحيوانات بعامة، يسلك ويتصرّف وفق قوانين اللذة والألم والخوف والطمع»!.
وبرأي الروائي هنري ميللر «قريبٌ من الشيطان والوحش»، والإنسان العنيف يطغى، يؤذي، يقسو، ويجد نفسه في صورة إله، لا قِبلة له و«معابده الخربة في داخله»، وهو «مبدع الوحشية» بامتياز، كما يقول ساراماجو أيضاً.

تاريخه
يؤرّخ الكاتب صلاح نجيب الدق للعنف، منذ وجود آدم وابنيه هابيل وقابيل، حيث قتل قابيل أخاه هابيل حسداً وظلماً! ليبدو العنف تاريخياً وحياتياً وسيكولوجياً سمة من سمات الطبيعة البشرية، ومرجعيتها شهوة التسلّط على الآخرين، مقرونة بعواصف تأكيد الذات المتشظية، وإثبات وجود قلق، وتنسب لفردٍ أو طبقة أو حزب أو طائفة أو دولة!.
والعنف فعلٌ لاإراديّ في الغالب! فعلٌ إنساني «فردي أو جماعي»، يؤدّى بأسلوب الغاب، همجي محض، لجملهِ صفحة سوداء في إنسكلوبيديا الحياة، وفي قواميس مكتبات الكون، وبلاغته مترهلة إذا ما مرّرنا حبر مفرداته على كتب الفصاحة، والإنسان «كائن عنيف وعدواني بطبعهِ»، كما يرى عالم النفس فرويد، وهو «يمتلك أهواء وغرائز فطرية تحتّم عليه سلوكيات ذات نزعة تدميرية، قصد إشباع تلك الغرائز».
والعنف تمثيلٌ تدجيل للقوة، غير مؤيّد بأي صوت إلا صوته في برلمان من رمل وقشّ وإسفلت، وممثلوه أصنام، أشباح أناس، لوائحه وهي بأبجدية مقيتة خوف وألم وحزن وموت، يتناغم فقط مع إيقاعاته المرعبة الحزينة والجنائزية معاً... حدّد مفهومه المقتضب الإغريق بأنه «إفراط في القوة»، وعلى مدى الأزمان والحقب وامتداد الأزل والحياة وصفحات التاريخ هو «تعسّف في القوة» بامتياز.

وسائله
تربته خصبة وفق أمطار بربرية لبشر خارج الزمن أولاً، ومن ثم نزيف التقدّم التكنولوجي ثانياً. يقول إيف ميشو «ساهم التقدّم التكنولوجي المعاصر في تطوّر وسائل التسلح والتخريب والقتل والإبادة الجماعية».
وتلك الوسائل التي ذكرها ميشو لا تجعل من الإنسان شبحاً ومسخاً فحسب، بل لا شيء، لا أحد، خطىً على أرض يباب، صوت في خربة، عصفور أمل وحلم يغرّد في عاصفةٍ هوجاء، وفي عالم متاهة، و«أدوات القتل أسوأ ما اخترعه الإنسان»، وهي المسؤولة عن تغييب صفحات التاريخ العاطفي والشعوري الحميمي للإنسان نفسه.
والعنف ابن القمع الشرعي بشهادة ميلادٍ دهرية، ولِد من رحمِ الظلمة في صحراء كيان الآخر، فرداً أو جماعة أو طائفة أو حزباً أو دولة. يقول عبدالرحمن منيف في هذا الوليد المخلوق الأخطبوطي الخطى الأكثر خطراً «يستولد بعضه بعضاً، متناسلاً ومتعاظماً، لا يهدأ في بقعة إلا لتعدّي أخرى حارقاً مدمّراً، ولا يني يجدّد نفسه تحت مسميات وأوصاف معاصرة».
 الرواية والعنف
السرد تاريخ، راوٍ، قصّ، سحر حكاية، ونثر خرافي، رواية. وتعريف الرواية قد فاضت حروفه مموسقة على قرائح مشاهير وكبار كتّاب السرد في العالم وهي:
- «هذه الكيمياء إلهية» (ميلان كونديرا).
- «الابتكار الفكري الجمالي الأجلّ» (هرمن بروخ).
- «منطقة اللعب والافتراضات، وسؤال العالم بكليته» (إمبرتو إيكو).
- «والرواية كتاب الحياة» (د. هـ. لورانس).

سؤال العنف... إجابة الرواية
إنّ إنسانية السارد أو الناص في التعبير الإيحائي الجمالي المنساب كما الماء على أصابعه في جمل وعبارات نصّه «المسرود» يفضح السلوك «الدراكولي» الدموي الذي يتبعه المعنِّف مع الآخر قصد السيطرة والانتقام ببلاغة الوقاحة واللامبالاة، وبكلّ مفردات ومعاني الإجرام.
- كيف جسّدت الرواية العربية المعاصرة العنف؟ هلْ اكتفت بوصفهِ أم عالجته؟ والسارد/ الروائي هل عاش العنف وذاق قهره وآلامه حلماً أم حقيقة؟ وهل تشكلت صور العنف في الفضاء السياسي والاجتماعي والعقائدي/ الديني، أم أخذت أشكالاً وصوراً أخرى، لم تستطع الكلمات أن تنصب لها فخاخاً وكمائن؟.
الرواية وثيقة اجتماعية تاريخية وأدبية، أرّخت للعنف بغريزة الدهشة، أمّ الغرائز «لأنّها الدافع الذي نكتشف به العالم»، بتعبير كروتشه. 
وهلْ صوّرت الرواية أباطرة العنف من دون أخلاق وهي «أولى القوى التي تشكّل الواقع»، كما يقول ألبرت شفايتر في «فلسفة الحضارة»، وأنهم بفقدهم لهذا الجانب يفقدون ثلاث قوى رئيسة هي «العقل والضمير والذوق»، حسب تعبير قسطنطين زريق، إذ يقابل «العقل – الحقيقة»، و«الضمير – الخير»، و«الذوق - الجمال».

صور العنف وفقاً لذاكرة الكتابة 
يقول الكاتب هيثم حسين: «العنف سريع التجلّي والظهور والتجسّد، والعنف متمادٍ في تلونه وتشوّهه».
إذن كل شكلٍ يأخذه العنف يأتي تماماً من الخضوع لسلطة غاشمة مستبدة، فرداً كانت أو جماعة أو كياناً، ضمن سيكولوجيا خبيئة وراء كوارثه.
كل صورة من صوره وليدة خطأ فادح، وقد أصبح حدثاً تاريخياً وحقيقياً معيشاً في الآن. 
وفي سطور وجمل الرواية يُقرأ بشروط العين كما الحلم المتلو بيقظة كابوسية، ويقرأ بنبض القلب كألمٍ لجرحٍ مربكٍ للجسد. وهو في الرواية العربية المعاصرة ثمرة ألم، ومعاناة، خلطة من ذاكرة ونسيان، من وعي ولا وعي، وبطل رواية العنف لا منتم. والسارد/ الناص عبر لحظات الواقع والمتخيّل «في داخله جاسوس يراقب أثناء التجربة»، بتعبير ماريو بارجاس يوسا.
رواية العنف رواية الواقع الذي يضحي «خيالاً مركزاً»، حسب قول آرنست فيشر، حافل بمفاجآته المدهشة، وأسراره الغامضة، ودوافعه العميقة الغور، ومفارقاته في العالم المتاهة، حيث يمكن للحقائق أن ترتدي أقنعة متعددة ومختلفة.
ورؤية الرواية مجسّدة في مفردات «التعاطف»، وهي الكلمة المفتاح السحرية النبوئية لمعرفة تفاصيل الحدث. ما حدث، وما سيحدث وفق إيقاعات خطى البطل/ الراوي. ورعشات أصابع السارد، حين يفرد المسرود قماشه يرى «العنف كامناً في النفوس، والكل يتمنى العنف الجسدي لغريمه».
ربما تكتفي الرواية العربية المعاصرة بوصف العنف، تشير إلى خيمته في نسيجها الداكن، تتابع بمصابيح حروف بركانية أحياناً – بقدر ما فيها من تعبير جمالي إيحائي – منابعه غير الصحية، السامة الهواء، بربرية القطر، وقد تحذّر منه، والرواية والراوي، السارد والمسرود، يسعيان إلى محاربته بأسلحة متقدمة غير مرئية، صناعة الروح المتماهية في صلاةٍ لا تكون قضاء في محراب الإبداع، دفاعاً عن الحياة وعن الجمال في العالم.
ومفردات رواية العنف ثمرة فعل مدفوع بدافع عاطفي في الأغلب الأعم، وهي باعثة للخوف بنوعيه الفيزيائي والسيكولوجي. وشخصيات الرواية شبحية تحت ميكروسكوب النقد. يقول ساراماجو: «هذه الشخصية لا تأخذ ملامحها دفعة واحدة كاملة، بل يتمّ تطويرها بهدوء».
والسارد/ الروائي عبر التخّييل «صوت الجرأة»، بتعبير ميللر، يقوم بعملية التطوير، وهو في رواية «العنف» يظهر في أقوى صوره في سلوكيات وأخلاق أبطاله/ شخوصه. وفي رواية «العنف» يظهر النص أكثر مهارة من كاتبه في مفاجآته، وذكاء حيله الاستعارية المجازية. يقول إمبرتو إيكو: «النصّ قد يقترح في بعض الأحيان أفكاراً لا تكون في ذهن المؤلف»، برغم أن المؤلف/ السارد «مصاب بخلل فائض الانتباه»، حسب تعبير سوزان سونتاج.

أنواع العنف في الرواية العربية المعاصرة
بمفهومه السياسي، الاجتماعي، الحياتي والعقائدي يأخذ العنف صوراً وأشكالاً أهمّها:
1 -  العنف الجسدي
 يتصدر العنف الجسدي قائمة العنف الاجتماعي، و«الجسد الوطن الأول للإنسان»... وهو العنف السائد في الواقع المعيش، نال منه الإنسان ومازال يذوق مرارة آلامه وأحزانه في اللامكان واللازمان في مجتمعاتنا العربية. والإنسان وهو من أحفاد قابيل المقتدين بجدهم وهم يمارسون سلوكه، كما يقول ماريو بارجاس يوسا.
ومن أهم الروايات العربية المعاصرة الجريئة الطرح، الواسعة الانتشار، والتي جسّدت العنف الجسدي/ النفسي معاً، رواية «الخبز الحافي»، السيرة الذاتية الأوتوبوغرافية للكاتب المغربي محمد شكري «الأب – العنيف» و«الابن – المعنّف»، في صورة لا تحمل كراهية الابن لأبيه فحسب، بل لعنة بكل اللغات لزمن العنف وكيمياء لغته.
نقرأ من مزامير «الخبز الحافي»:
«امشِ أمامي يا هذا الخوّاف! تعثرت وسقطت، هوى عليّ بالعصا، عويت شتمته في خيالي، يدفعني برأس العصا إلى الأمام، التقطت عصيّه لأطرد بها الكلاب، أعفس على الحجارة الناتئة ونبات القرّاص، يضربني ويلعنني جهراً، أضربه وألعنه في خيالي، لولا الخيال لانفجرت» (ص 55).
والعنف في «الخبز الحافي»، بقراءة سيكولوجيا العنف، يولّد عنفاً أقسى وأعمق في جرح روحي نفسي لا يندمل، وشفاؤه لدى البطل/ الراوي في المزيد من البذاءة والسخط والفحش:
«إذا كان منْ تمنيت له أن يموت قبل الأوان، فهو أبي» (الرواية ص 94).
ومن الروايات التي جسدت موضوع العنف الجسدي رواية «الطلياني» للكاتب شكري المبخوت، إذ بدأت به وبطلها «عبدالناصر» يعتدي بالضرب المبرح على «الشيخ علالة، إمام المسجد»، وهو يقوم بمراسم دفن أبيه «الحاج محمود»، ولم تعرف دوافع هذا الاعتداء، الذي قابله الحاضرون باستغراب ودهشة وسؤال حائر، إلا في نهاية الرواية، وقد اشتغل الروائي المبخوت بذكاء وبراعة على مقولة إدجار ألان بو: «القاص يكتب وعينه على الجملة الأخيرة»!
«تعالى الصخب، واختلطت الأصوات، والإمام غارق في دمهِ، عبدالناصر الطلياني ضرب الإمام، لقد جنّ ابن الحاج محمود المسكين، الطلياني يصرخ ويسبّ الإمام، ابن الحاج في حالة هستيريا، عيب والله، عيب أن يقع هذا في جنازة» (رواية الطلياني – ص7).
2 - عنف السلطة 
العنف السياسي في شقيهِ، عنف السلطة وعنف المحتل، كتب ماكس فيبر يقول: «إنّ سلطة الدولة هي ممارسة العنف».
وهذا جلي واضح عبر مفردات التسلط والتحكم، وبلاغة بسط النفوذ، وتأكيد قوة القوّة، والسلطة بأشكالها، تنفرد بكنوز المشروعية لفعل «العنف»، وهي عبر كيميائها لا تجد حرجاً من إبداع أساليب لا تخطر على بال الشيطان نفسه في التعسف بالقوة، وهي الحالمة أبداً بعمر الأزل، وموقوت زمنها الرديء على براكين الإصرار على الوجود، بل وجود الوجود! ولهذا يرجع دمار كل بلد، ونكسة الأوطان وضياع وهزيمة المواطن، وتحوّل الأمل إلى يأس، والتأمل إلى مؤامرة بسبب الخضوع إلى سلطة طاغية مستبدة.
و«كلّ سلطة مكروهة»! (أوسكار وايلد).
يتجسد عنف السلطة واضحاً في السرد العربي المعاصر، تعددت صوره وأشكاله وأسبابه، وأزمانه وأماكنه.
قد يصعب تحديد تاريخه في الرواية العربية المعاصرة، ولكن بإضاءة دهاليز الذاكرة، والعودة إلى قراءاتنا، يمكن أن نرى «وشم» عبدالرحمن مجيد الربيعي، المبتدئ عبر خريطة الرواية العراقية التي خطّت حروفها ما مر به العراقي من حكومات وأنظمة طاغية متسلطة، انتهت به إلى ما هو أقسى من الجحيم، وليس انتهاء بأربع روايات عربية معاصرة جداً، كانت لي معها وقفة في قراءة منشئة، وهي «فرسان الأحلام القتيلة» لإبراهيم الكوني، و«بيت النخيل» لطارق الطيب، و«ثرثرة بلا ضفاف» لفاطمة يوسف العلي، و«كان الرئيس صديقي» لعدنان فرزات، ولو تقصينا المتاح لنا في خريطة السرد لوجدنا الكثير، بعدد السجون والمعتقلات التي تشيدها الأنظمة والحكومات المستبدة، وهي تجد في مواطنيها فئران اختبار لأساليبها القمعية.
ولأنّ الرواية تفحص الوجود، والروائي/ السارد «مكتشف الوجود»، كما يقول ميلان كونديرا في «ثلاثية الرواية»، فإن السلطة تعلن وجودها، في الرواية العربية، بكل أسلحة العنف المرئية وغير المرئية.
 والسارد والمسرود يؤرخان بذاكرة الماء مرجعيات هذا العنف، وهو بذاكرة الدم والظلمة، ويحاولان اجتثاثه مجازاً على أقل تقدير.
كتب الروائي إبراهيم الكوني في مقاله «جراحة الواجب» بعد الأحداث الأخيرة في ليبيا مباشرة في صحيفة ميادين الليبية شيئاً عن اجتثاث جذور العنف وأحد أباطرته قائلاً: 
«طال أمد الكابوس، انتظروا! لحظتها أيقن القوم بوجود خطأ في الكون، فأخذوا على عاتقهم وزر تقويم الأمر، انتفضوا لأنهم أدركوا أنهم طوال المهلة الجنونية ضحية أكذوبة، ضحية زور، ضحية مسيح دجال، لا مسيح خلاص، سنّوا الأنصال ليستأصلوا الورم الخبيث الذي افترس أبدانهم، كان تدخلاً جراحياً مميتاً».
  والبطل/ الراوي حمزة في الرواية الأوتوبوغرافية «بيت النخيل» يجسّد بجرح نازفٍ، فاغرٍ فاه حتى انتهاء الزمان، أبشع صور النفوذ والتسلط الجحيمي لسلطة الحزب/ الدولة، وهي تجلس على كرسي الجرم والذنب الذي يبدو شاطئ المغفرة عنه بعيداً، وبعيداً جداً:
«ضابط الاستجواب كان في كامل أبهته العسكرية ملمعاً حليقاً نظيفاً، تركني وظل يأمر عساكر الحرس، استعراضاً منه بأوامر لا معنى لها، كانوا يرتجفون، أراد أن يعلمني أنه إله هذا المكان، كان يتكلم كأنني غير موجود في ركن الغرفة، يشخط وينطر ويكرر الأمر نفسه لعسكري، ويطلب أشياء يتصنع فيها الأهمية، شد الجاكيت على بطنه المنتفخ وعدّل «البيريه» فوق رأسه، وهز عصا في يده، ثمّ صرخ في العساكر الموجودين في الغرفة بصوتٍ مبحوح: انصراف!
عليك الآن أن تعترف بأنك تعاملت معهم، وأنك جئتنا كجاسوس.
صرخ مجدداً، وتطاير الزبد في وجهي هذه المرة، سبّ وقذف في أمي وأبي بأفظع الألفاظ، لعن هذا اليوم الأغبر النجس الذي ولِدت فيه أنا ومن هم على شكلي، وإنني في زنزانة ضمن زنازين يحكمها هذا الضابط الموتور» (بيت النخيل، ص 183 وص 184).
ولعنف السلطة آثاره النفسية (السيكولوجية) الأكثر خطراً، كما جسدته رواية «ثرثرة بلا ضفاف» لفاطمة يوسف العلي في حال بطلها د. ضاري السهلي: 
«نريد مادة فعالة نضيفها إلى أقراص التقوية التي تصرف للحوامل، تجعل الجنين المولود، الشاب أو الشابة فيما بعد، يصدق ما نقوله، يطيع ما يصدر إليه من أوامر، يقدس القيادة التاريخية، ويؤمن بالرسالة الخالدة للحزب دون سواها». (ص87).
3 - عنف المحتل/ الآخر، الغريب السرطاني الوجود المفضي إلى عنف وجودي وحياتي ونفسي!
قد كان للسرد الفلسطيني والعراقي المعاصر، الوافر الحضور والأكثر انتشاراً، النصيب الأكبر في تجسيد صوره وأشكاله، بكل ما فيها من آلام ومعاناة وأحزان وعذابات ونفي وموت ابتداء من قصص وروايات غسان كنفاني وإميل حبيبي ورشاد أبو شاور، وامتداداً طبيعياً تاريخياً إلى السرد الأكثر معاصرة وروايات سحر خليفة وبشرى أبوشرار وإبراهيم نصرالله وآخرين لم يغيبوا عن عدسة كاميرا النقد وبيبلوغرافيا السرد. وهم يرسمون بورتريهات بألوان قاتمة لأخلاقيات المحتل، وهو يجد نفسه إلهاً فوق أرض ليست أرضه، ولا علاقة له بأنين أهلها، ولغة زيتونها، وسحر شمسها، وكأن أجداده التلموديين قد طوّبوها باسمه، يضاف إليهم ما فاضت به قرائح روائيين عرب معاصرين، لهم حضورهم في الثقافة والإبداع والسرد العربي أمثال رضوى عاشور ونبيل سليمان وواسيني الأعرج.
وإذا ما مررنا بأرض السرد العراقي وهو يؤرّخ لطغيان النظام والاحتلال الأمريكي معاً فإن القائمة تطول، ولكن وقفة عند أحمد السعداوي في «فرنكشتاين في بغداد»، وقاسم حول في «على أبواب بغداد»، وعبدالرحمن مجيد الربيعي في «نحيب الرافدين» تفي بكثير مما ظهر من المعاناة والعذاب والضياع، وما هو خفي أكثر ألماً وجرحاً وموتاً.
 4 - العنف العقائدي/ المذهبي/ الديني 
هو بكامل لياقة مفردات وجمل أيديولوجيا التطرف الديني، بميليشياته متعددة الهوية والمكان، وهو في كتاب الواقع المعيش في أبشع صوره، وعبر السرد العربي المعاصر، وتاريخياً تفرّد في نقل مدنه المظلمة، وجغرافيتها المقيتة عدد من الروائيين العرب، وأمامنا في صحيفة الوقت القريب ثلاثية الروائي اليمني محمد الغربي عمران «مصحف أحمر، ظلمة يائيل، الثائر»، بامتداد قاسي الإيقاع، صاخب الرؤى، والتراكيب اللغوية، فاضح في بلاغة الإدانة والسخط والثورة والرفض في روايات «الربيع العربي».
وقد عركت حروفه وجمله الواقع العربي المعيش في تلك المدن الظامئة إلى الحرية الخارجة من أزمنة الدكتاتوريات الخانقة إلى زمن التطرف والميليشيات المذهبية المتعددة الجنس والهوية والرؤى الظلامية، وأباطرتها قادمون من مستنقع الجهل والتخلف، ساعين للعودة بنا إلى خمسة عشر قرناً مضت، في العراق ومصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، وتبعث بمندوبيها الظلاميين هنا وهناك، وباتت تبرق وترعد غيومها السوداء لتمطر رعباً وقلقاً وناراً في مدن غير عربية أيضاً. وبحكم إقامتي في مصر منذ سنوات، ومواكبتي لما يكتبه أصدقائي الروائيون المصريون، فإن ثلاثية إبراهيم عبدالمجيد وجزءها الأهم «الإسكندرية في غيمة» تقع في الصدارة، إضافة إلى ثلاث روايات أخرى مهمة؛ «مولانا» لإبراهيم عيسى، و«دولة العقرب» للراحل فؤاد قنديل، و«بياض ساخن» لسهير المصادفة.
هذا الروائي محمد الغربي عمران في «ظلمة يائيل» يفضح العنف المذهبي/ العقائدي عبر صفحات تاريخ حكم الإمامة في اليمن:
«تقدّم الإمام الملثم على خيله، مجرداً سيفه، شدّ رسن خيله، وقف العاري ينظر الجموع، تغيرت ملامح وجهه، جال بنظره في كوم الأشلاء، قهقه بصوتٍ عالٍ، نظر إلى السماء غير مبال أو أنه فقد عقله، تقدّم الملثم بسيفه، وبضربات خبير بتر رأسه، الذراعين، القدمين، بقر بطنه ليترك سيفه كالوتد، تكاثرت أصوات التهليل والدعاء من مآذن المساجد المتفرقة، تجمع الناس استعداداً لصلاة الجمعة، الكلاب تلعق حفر الدماء المتجمعة» (ص 42).

العنف المجتمعي/ الحياتي
إن العالم متشعب ومعقد برؤى جيمس جويس، وهو واقعي/ فانتازي، ويمتد ليشمل مساحات واسعة في حياتنا، بكل طقوس جغرافيته العسيرة. والسرد نبأ الواقع. كتاب الحياة، ومرآة هذا العالم!
والرواية مزيج من الزمن الحدثي التاريخي وزمن الفرد النفسي.
والراوي/ البطل حالة سيكولوجية أخلاقية.
والزمن في رواية العنف محور ذاكرة متشظية، حروفه برمادِ روح متهدمة مثقلة في «عالم فظ قاتل للإنسان»، كما يرى كولن ويلسون.
وهكذا تتعدد أشكال العنف المجتمعي 
الحياتي/ الوجودي، ابتداءً من عنف الفقر، وهو بقسوة حجر جبلٍ وحيد، وقد زخرت به أعمال عديد من الروائيين العرب، ولكن روايات خيري شلبي وبهاء طاهر في مصر خير تمثيل له.
ومن المغاربة تفي هذا الجانب حقّه أيضاً روايات إدريس الصغير وروايته المهمة «إشاعات في مهب الريح»، يليه العنف الأسري، وما يحدث من سوء فهم للعلاقات الإنسانية حتى داخل الأسرة الواحدة، ربما بسبب العيش الضنك، أو مؤسسة الزواج وهي بلا رصيد حبّ وتناغم أحيانا وما تبعها من سلبيات طالت سياط العنف فيها ظهر المجتمع ككل.
وقد حفلت الروايات العربية الواقعية الانطباعية بكمّ وافر منه، وبلغة مليئة بالأسرار والأعاجيب والأقنعة، وإذا بدت الكتابة خلالها صورة حياة، فإن العنف صورة الموت!

كيمياء رواية العنف
رواية العنف مشاهد، والمشهد يأخذ شكل الصورة البصرية، وأحياناً في تقنية سينما الرعب، لا يوحي للقارئ أكثر من ذلك، والنصّ الروائي مزيج من الواقعي والحلمي في إيقاع شديد التناغم، قوي التأثير، عميق الدلالة، ومولّد للتأملات الكثيرة لصراع العنيف والمعنّف معاً.
وهذا النوع من الكتابة، وهو بأبجدية جريئة، صاخبة، فاضحة ومستفزة غالباً، لا يكتفي بنقل العنف، أو «يؤبجد» لصوره ودوافعه ولحظاته، بل يطمح، وهو يحفر في حروفه وجمله بكل ما فيها من بلاغة، إلى الدخول والاحتكاك العنيف مع العالم ■