محاكمة كائن فضائي

محاكمة كائن فضائي

البدل السوداء المستقرة على مقاعد فخمة في مواجهته، تذكّره برواية «القضية» لكافكا، أمام كل بدلة سوداء يستقر ملف أحمر، فوق مائدة رمادية، أصابعهم مقلّمة الأظفار بعناية فائقة، تتشابك فوق الملفات في نظام دقيق، لفتت انتباهه بشدة وجوههم البيضاء الشمعية، منع نفسه من مغادرة كرسيه متجهاً إليهم، ليلامس هذا الشمع الأبيض، كلهم في بداية الكهولة باستثناء البدلة التي تتوسطهم، فهي تفوقهم كهولية.
إذن هو الآن في جلسة محاكمة، من قبل هذه اللجنة الشمعية، بعد أن سمعوا بما يدور حوله من أحاديث منذ شهور، عن رجل يعرف الطباع الحقيقية للناس، هذا ما تضمنه إخطار المثول أمام اللجنة الموقرة. 
لم يكن مندهشاً من التهمة، لقد وصلت إليه من زمن، الناس تقول عنه إنه قارئ أفكار، والبعض قال إنه متصل بالجن، لكن أكثر التهم التي لقيت رواجاً كبيراً وقبولاً لدى الناس، هي تأكيدهم أنه متصل بالكائنات الفضائية، أو هو كائن فضائي متخفٍّ.
باغته سؤال صارم قاطع مثل حد سيف متقن، وناعم مثل نجمته السينمائية المفضلة، قادم من البدلة السوداء الكهلة التي تتوسط المائدة، هل أنت كائن فضائي؟ أجابه بلطف وبسرعة دون أن يرمش له جفن، أنه حتى لو كان كائناً فضائياً، فهل سيعترف بكل هذه السهولة؟ على الأقل لابد من حفلة تعذيب، حتى يكون موقفه أمام الكائنات الفضائية مشرّفاً، فلم يبعهم عند أول سؤال، نظرت البدلة السوداء الكهلة إلى البدلات الأقل كهولة، التي تجلس عن يمينه وعن يساره، ثم قال لهم ما يعني أنه كائن فضائي خفيف الظل، فضحكت البدلات السوداء على اليمين واليسار، لكن بطريقة عجيبة لم ير لها مثيلاً في واقعه، أو في كل الأفلام التي قضى ليالي طويلة يشاهدها على الـ «يوتيوب»، هارباً من الملل الذي بدأ يحيط به مثل سحابة سوداء على طريق سريع، تجبر السيارات على التوقف حتى تتلاشى.
من المؤكد أنه يعيش حالياً أحداث المحاكمة الشهيرة، التي لا يعرف كيف ابتكرها هذا العبقري اليهودي كافكا، فهو لا يعرف صفة لهذه البدلات السوداء، سوى أنهم أعضاء اللجنة التي يجلس اليوم في مواجهتها، لكنه استراح قليلاً، عندما رأى أنه أفضل حالاً من «يوزيف ك» في الرواية،  يعرف التهمة الموجهة إليه، فهو متهم بأنه كائن فضائي محتمل، بما يعني أنه ربما لا يحصل على حكم الإعدام نفسه، الذي حصل عليه «ك»، لكن رؤيته للملفات الحمراء المستقرة على المائدة، تحملها أيديهم المتشابكة الأصابع في نظام دقيق، جعلته غير متفائل بهذه النتيجة التي توصل إليها، إن الغموض الذي يحيط بأعضاء اللجنة، هو نفسه الذي ساد طوال رواية كافكا.
كان يفكر بسرعة، يضع كل المعلومات التي تصل إليه في دماغه، ويحاول التوصل إلى نتائج، كان يسابق الزمن، فهو لا يعرف ماذا ستفعل به اللجنة، لو ثبت لها أنه كائن فضائي، هو نفسه بدأ يشك في ذلك، فمن أين أتت له هذه القدرة على معرفة طباع الناس، التي يقضون أعمارهم في إخفائها؟ 
لكن هذا يتطلـــب أن تكـــــون أمه فضائية، فهو لم يعـــرف له أباً منذ مولده، وما جعــــله يشك في كونه فضائياً هو جدته، كان دائماً يقول لها: من أين تأتين بحكاياتـــك المفــــرطة في الجمال يا جدتي؟ فتقول: من السماء يا ولدي.
ما أدهشه أيضاً أنه فشل، منذ جلوسه أمام اللجنة، في ممارسة هوايته المفضلة وهي معرفة طباع الناس، عندما حاول النفاذ إلى داخلهم لم يجد شيئاً، «دماغهم أبيض... يا مولاي كما خلقتني»، كأنهم روبوتات آلية صنعت بدقة، بحيث تبدو كالبشر، سألهم بصيغة مهذبة عن الملف الأحمر، هل يخصه؟ هذا يعني أن أرشيفهم يتضمن ملفات للكائنات الفضائية، ثم ضرب يده على جبهته، وأشار بأصبعه إليهم، بحركة كانت قد أعجبته في فيلم شاهده منذ أيام، وتكلّم بثقة كبيرة لا تناســـب وضعه كمتّهم.
أخيراً توصل إلى دليل يثبت أن الغامضين الذين يحاكمونه، لديهم معلومات موثقة، عن كائنات فضائية تزور الأرض بين حين وآخر، ردت عليه البدلة السوداء الكهــلة بسؤال بدلاً من إجابة، وللحق كان التساؤل منطقياً، لم يستطع أن يخفي إعجابه بذكاء السائل، يتمحور مضمون السؤال الذي جاءه بالنبرة الصارمة نفسها، أنه إذا لم يكن كائناً فضائياً، فكيف يعلم بطباع الناس الحقيقية؟ من أين يأتــيه هذا العلم، وهذه المعرفة التـي تفوق إمكانات البشر؟
نظر إلى الملف الأحمر أمام البدلة السوداء الكهلة، تذكّر بدلة الإعدام الحمراء، والنهاية المأساوية لـ «ك» بطل اليهودي «كافكا»، فكان عليه بكل ما أوتي من ذكاء، أن يهرب من المصير نفسه، خاصة أنه بدأ الشك يحتويه، هم أيضاً كائنات فضائية معادية، تحاكم كائناً فضائياً محتملاً، ينافسها على كوكب الأرض، قامت بدسه قوى فضائية منافسة، لِمَ لَمْ تقولي لي يا جدتي إنني كائن فضائي؟!
أشار بإصبعه السبابة إلى اللجنة، وطلب التحدث منفرداً إلى كبيرهم الذي يسأل، أجابه إلى طلبه، نهض متجهاً إليه، اقترب منه، مال عليه، ألقى إليه بصوت خافت بعض كلمات، كان الولد المغامر في أمتع حكايــات جدته يقولها، كلما ضاقت به الحال، أو اختلطت عليه السُّبل.
لم تسمع اللجنة ما قاله للبدلة السوداء الكبيرة، ويبدو أنه صدّقه، لأنه ربت على كتفه برقّة بالغة، إلى حد أن شعر بقشعريرة لذيذة تسري في كتفه، لتصل إلى دماغه، محدثة نشوة مدهشة، وعاد إلى كرسيه، يجلس كما يليق برئيس لجنة من الكائنات الفضائية المتخفية، تحاكم كائناً فضائياً محتملاً.
مهذبون هم الكائنات الفضائية، لكنه ربما يكون التهذيب نفسه - الذي شاهده في فيلم «Mars Attaks»، من الكائنات الفضائية التي تشبه اللعبة -  هو ما قابلت به سكان الأرض بداية الفيلم، وبعدها تدمر كل شيء، حتى البيت الأبيض، والرئيس الأمريكي نفسه، لم يسلَم من حيلها الكوميدية، وبأسلحتها الملونة، التي يفضل الآباء في كوكب الأرض شراءها لأطفالهم يوم العيد، لشكلها المثير للضحك، لذلك بدأ القلق يلعب بدماغه، على ما سينتــج عنه قرار اللجنة.
تابعهم وهم يستمعون إلى كبيرهم الذي يحتكر السؤال، الذي نهض، بعد أن دق بختم على الملف الأحمر أمامه، دقوا أيضاً على ملفاتهم بأختامهم، ثم غادروا الغرفة بنظام وخفة أثارا إعجابه.
انغلق الباب خلفهم، وتركوه ينظر حوله في الغرفة التي تخلو من النوافذ، ولا تحتوي إلا على باب واحد محكم الإغلاق، وفتحة في أعلى السقف بالغة الارتفاع، حيث يجلس أسفلها وسط الغرفة، مغلقة بزجاج غاية في الشفافية، تظهر من خلالها نجمات بعيدة،  يفكر كيف كان سيفعل كائن فضائي متخفّ مثله، ربما اخترق هذه الجدران الأنيقة الصلبة، أو طار بخفة إلى السقف، لينفذ من الفتحة عائداً إلى منزله، أو ربما مثلما سيفعل هو الآن، الجلوس بهدوء على كرسيه في وسط الغرفة، يدق بأصابعه بانتظام على المائدة الصغيرة أمامه، التي تشبه موائد المقهى، واضعاً ساقاً على ساق، في انتظار أن تأتي كائنات فضائية، تهبط إليه من فتحة السقف، تحمله وتطير به إلى الكوكب الذي جاءت منه جدته، وبصحــــبتها حكاياتها المدهشة ■