الذاتيّة الجديدة في أعمال الفنان ديفيد هوكني

البعض يُسمّيها «اللاموضوعيّة الجديدة»، وهي تعني الذاتيّة في الفنّ وفق أسلوب معاصر. جاءت هذه الحركة كردّة فعل على بعض التيّارات الفنيّة التي كانت سائدة في بداية خمسينيّات القرن الماضي كالتعبيريّة التجريديّة والبقعيّة والفن الحركيّ واللاشكلي.
تعود تسمية «الذاتيّة الجديدة» إلى الناقد التشكيلي الفرنسي جون كلير Jean Claire. أمّا خصائصها التقنيّة، فتقوم على التالي:
- العودة إلى الواقع بأسلوب ذاتيّ، ورفض التجريد الكلّيّ، وعدم التقيّد بالأساليب التقليديّة، كالتخطيط وقواعد التأليف المتعارف عليها.
- إدخال التقنيّات الحديثة إلى العمل الفني كالتصوير الفوتوغرافيّ والفوتوشوب عبر الإلصاق (الكولاج).
- اختبار الوسائل التقنيّة الحديثة والصناعيّة.
- استعمال تقنيّة الأكريليك في الرسم.
- العفويّة والارتجال.
- إدخال العناصر الأكثر استعمالاً في الحياة اليوميّة، إلى العمل الفني والأشياء المهملة، والأقلّ جمالاً بالمفهوم المتداول، والاهتمام بالثقافات الشعبية والصور المأخوذة من الحياة المعاصرة كصور المشاهير والملاهي الليليّة، والهدف منه التعبير عن المجتمع الاستهلاكيّ كما يفعل فنانو الـ «بوب آرت».
- استعمال المعادن الغريبة والجديدة.
بدأت هذه الحركة في لندن عام 1955، ثمّ انتقلت إلى أمريكا حيث عرفت تطوّراً كبيراً هناك أكثر من بريطانيا بسبب الجرأة الأمريكيّة بتطبيقها، مستفيدة من المحيط الاستهلاكي الذي وسم حياة الأمريكيّين وطريقة عيشهم.
ديفيد هوكني... تأثيرات عدّة
تجلّت «الذاتيّة الجديدة» للفنان الإنجليزيّ ديفيد هوكني David Hockney... مع الفنانين روي لشنتشتاين Roy Lichentechtin وأندي وارهول Andy Warhol. وُلد الفنان هوكني في التاسع من يوليو عام 1937 في بريطانيا. وذاع صيته في ستينيّات القرن الماضي بفضل لوحاته غير التقليديّة، المجزأة صورها لإعادة تركيبها (فوتوكولاج). هو فنان متعدّد المواهب، شاعر وكاتب وحفار ومصمّم أزياء ومصوّر فوتوغرافيّ بارع، حصل على جوائز عدّة في هذا المجال، استعمل صوره الفوتوغرافيّة فـــــي لوحاته بمفهوم جديد. انتدب من قبل أهمّ الشركات المتخصّصة في برمجة الكمبيوتر لتصميم برنامج للرسم.
درس في كليّة الفنون في لندن في الأعوام 1953 - 1957 ثمّ الأعوام 1959 - 1962.
أسّس مع الفنانين ديرك بوشيير Derick Boschier، كيتاج Kitaj، آلان جونز Alan Jones، وبيتر فيليبس Peter Phylips جماعة «لندن سونينغ» Swining London. آمنوا بارتباط الفن بالحياة اليوميّة.
كانت شخصيّة هوكني استفزازيّة جريئة ومتحدّية للتقاليد، وهو رائد في الـ«بوب آرت» Pop Art بنسخته البريطانية. توسّعت نشاطاته لتشمل الطباعة وصناعة الأفــلام وتصميم المسارح والتصوير الفوتوغرافيّ والإلصاق بالصور (الكولاج) والفوتو - مونتاج Photomontage ضمن مواضيع كالطبيعة الصامتة وصور أشخاص. في أعماله إعادة للقطة الكاميرا وللمشهد المصوّر، حيث يقوم بتقسيم صورة البولارويد Polaroid لإعادة تركيبها في صـــــورة جديـــدة تعطي إحساساً بأنها تتحرّك، يُذكّرنا هذا الشيء بالعمل التكعيبيّ.
من أقواله في الفن: «الفن يُحرّك؛ إذا كنا بصدد تغيير العالم والصور فيجب أن تتغيّر...». و«ما الذي يسعى إليه الفنان وهو يُحوّل الناس الذين يقبض عليهم بصريّاً إلى أشياء؟ الإنسان لا يرغب في أن يكون فناناً إلا إذا أراد أن يستولي على جزء من الجنة، أو على جزء من فكرتها...».
كان كثير الترحال، فزار دولاً عدّة في العالم من بينها باريس ومصر وبيروت وهاواي وألمانيا واليابان.
عرف هوكني في ستينيّات القرن الماضي شهرة لم يضاهه بها أحد. هو رسّام واقعيّ تغلب السيرة الذاتيّة على أعماله، تتصل بحياته وحياة أصدقائه. استعمل آلات «الفاكسيميلي»، في عمله، ونشر كتابين، أحدهما سيرة ذاتيّة والآخر عن التقنيّات الفنيّة.
استلهم معظم لوحاته من سماء جنوب كاليفورنيا الزرقاء - التي استقرّ فيها بعد مجيئه إلى أمريكا عام 1961 - ومناخها المُشمس وسكانها المولعين بحمامات السباحة وأساليب الحياة الباحثة عن المتعة والسعادة. يستعمل المساحات الكبيرة ذات الألوان القويّة، أُعجب بأعمال عدد من الفنانين الكبار أمثال بيكاسو، راؤول دوفي، ماتيس وفراغونار. وُصف بفنان السحر والذكاء، ويعود الفضل في ذلك، أسلوبيّا، إلى الفنان كيتاج Kitaj، وخاصّة في أعماله القديمة. لم تكن تعنيه المادّة التي يرسم بها بقدر ما كانت تعنيه الإجابة عن السؤال حول كيفيّة رسم الوجوه.
زاوج هوكني في رسومه بين الأهرام وشكل النخلة وأظهر منذ مطلع حياته ميوله المثليّة، وكان غريباً في مظهره وسلوكه. شدّد على رسم الرجال. عمله المعنون «نحن صبيان متعانقان» We Two boys together clinging مستوحى من قصيدة الشاعر الأمريكي والت ويتمان Waly Whitman، الذي ارتبط شعره بالاتجاهات المثليّة. أتت مصادر أفكاره من فنانين سابقين ومعاصرين له أمثال بول كلي، راؤول دوفي وفرنسيس بيكون. وقد أُعجب كثــيراً بالفنان وليام بليك المعروف بارتباطه بالمواضيع الميتولوجيّة. ظهر عنصر المدينة في أعماله المستعادة من الذاكرة متأثراً بالفنانين بالتوس Balthus وإدوارد هوبر Edward Hopper وموراندي Morandi، ورسم نفسه مع المهاتما غاندي.
سيطرت على أعماله أشكال ذكوريّة إيروتيكيّة كرمز للطاقة والقوّة لاقت استحسان كثيرين.
تأثر بأعمال الفنان أنغر Ingres، وقاده ذلك إلى التساؤل حول احتمال استعمال أنغر للكاميرا الشفيفة التي هي عبارة عن موشور صغير من الزجاج يمكن تعليقه بجانب اللوحة في أثناء الرسم (هذه التقنية كان دافنشي قد أشار إليها في كتاباته).
صرّح هوكني بأنه قام بتكبير لوحة لأنغر فوجدها تشبه لوحات الفنان أندي وارهول. أدّت أبحاثه إلى استنتاج أنّ عدداً كبيراً من الفنانين القدامى بدءاً بجان فان آيك منتصف القرن الخامس عشر مروراً بفرمير في القرن السابع عشر وصولاً إلى أنغر، قد استعملوا العدسات والإسقاطات لإضفاء لمسة أكثر واقعيّة على أعمالهم، واعتبر هذا الشيء نوعاً من الخداع والغشّ في الرسم؛ ففان آيك يستحيل عليه أن يرسم الثريّا بتلك الدقة المعقدة من دون الاستعانة بعدسة.
استعمل آيك مرآة مقعّرة، وليس من باب المصادفة أنّ مرآة محدّبة رسمت في لوحة فان آيك «زواج أرنولفيني 1434»، وكان الفنان قد ذكر ذلك في كتابه «المعرفة السرّيّة: إعادة اكتشاف التقنيّات الضائعة لكبار الرسامين القدامى».
انتقلت هذه التقنيّة إلى إيطاليا في ما بعد ثمّ إلى كلّ أنحاء أوربا. وافق البعض على آراء الفنان هوكني، وهاجمه البعض الآخر واتهموه بأنه شخص ضئيل المقدرة يحاول إنزال كبار الرسامين القدامى إلى مستواه الأقلّ شأناً. حصلت النقـــــاشات على شبكة الـ «بي بي سي» BBC الأمريكيّة ضمن برنــــامج بثتــه تلك القناة.
أثارت هذه النظريّات جدلاً واسعاً بين المهتمّين؛ فهاجم البعض آراءه ودحضها.
الصورة في عمل هوكني هي الأساس، إلا أنّ الفكرة هي الأهم حين تحمل اللوحة مضامين فنيّة وعاطفيّة.
من أقواله: «أرسم ما أرغب برسمه، وعندما أرغب به، وحيثما أرغب». يُذكّرنا هذا بقول لبيكاسو: «طالما أني أستطيع أن أرسم اليد كما رسمها رفاييل، فإني أستطيع أن أرسم ما أريد وكما أريد».
يُفهم هوكني في مجاله كفنان تقليديّ. في النهاية، لا يقوم اقتراحه على خلق منطوق لغويّ تصويريّ مقروء ومفهوم تحت علامة التشخيصيّة الجديدة. الصور هي علامات تصويريّة وفي بعض الأحيان ساخرة وكاريكاتوريّة. ما يُميّز عمله هو العلامة أو الرابط بين التصوير (استعمال اللون) والكتابة، لعبة التناوب بين اللون المصوّر في التقنيّة المنوّعة وخشونة القماشة ورغبة روائيّة واضحة.
عمله المعنون «طيران باتجاه إيطاليا - منظر سويسريّ» Vol vers l`Italie- paysage Suisse هو قصّة رحلة بالسيّارة مع أصدقائه، رحلة قصيرة جاءت بناءً على رغبته. هوكني هو رسّام Dessinateur بارع، ظهر هذا الشيء في أعماله في مرحلة الشباب. منذ منتصف ستينيّات القرن الماضي أصبح رسمه أكثر واقعيّة، تخلى عن الخشونة التي وسمت أعماله في السنوات الأولى. أعمال هوكني تدعو إلى التمتّع بملذات الحياة، مليئة بضوء الشمس... وبالسخرية.
استخدم آلات كثيرة في تنفيذ أعماله مجرّباً وسائل تكنولوجيّة غير مألوفة بالرسم، فمن استخدام البلاستيك المستقطب مروراً بأجهزة الفاكس إلى الـ «آي فون» الذي يُتيح له استخدام أصابعه في الرسم الـ Brushes وهو مزوّد بخيارات عديدة للتحكّم بسمك الخطوط ونوعيّتها وألوانها.
ويستخدم أيضاً الكمبيوتر، لأنه يسمح له بتكثيف الوقت إلى حدّه الأدنى، فالعمل معه قد يستغرق الثواني القليلة بدل الساعات المطلوبة للمواد الأخرى. يرفض الفنان الشهرة، وبوصفه أنه أعظم رسام في العالم على قيد الحياة، يعلق على ذلك بالقول إنه «كلام صحف» لا يشغلني. احتفلت به أمريكا قبل بلده الأمّ إنجلترا. وبيعت لوحاته في أشــــهر المـــــزادات بمبالغ كبيرة ■
استخدم ديفيد هوكني صوره الفوتوغرافية في لوحاته بمفهوم جديد (فوتوكولاج)
لوحة غير تقليدية المجزأة صورها لإعادة تركيبها (فوتوكولاج)