لغة السريالية

لغة السريالية

اشتهرت‭ ‬السريالية‭ ‬بأنها‭ ‬المذهب‭ ‬التصويري‭ ‬الطرائفي‭ ‬الذي‭ ‬تبناه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬الفنانين‭ ‬التشكيليين،‭ ‬أمثال‭ ‬بابلو‭ ‬بيكاسو‭ ‬وسلفادور‭ ‬دالي‭ ‬ورينيه‭ ‬ماجريت‭ ‬وخوان‭ ‬ميرو‭ ‬وجيورجيو‭ ‬دي‭ ‬شيريكو‭ ‬وماكس‭ ‬آرنست‭ ‬ومارسيل‭ ‬دوشامب‭. ‬لكن‭ ‬السريالية‭ ‬تمتد‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب،‭ ‬ويلتفّ‭ ‬حولها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والشعراء‭ ‬والأدباء‭ ‬والمعماريين‭ ‬وحتى‭ ‬مخرجي‭ ‬السينما،‭ ‬مثل‭ ‬لويس‭ ‬بونويل‭. ‬وهي‭ ‬حركة‭ ‬فنية‭ ‬تنتمي‭ ‬أيديولوجيًّا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الحداثة‭ ‬الطليعية،‭ ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وازدهرت‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين،‭ ‬حتى‭ ‬خبت‭ ‬قوتها‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭.‬

تركت‭ ‬السريالية‭ ‬آثارًا‭ ‬بارزة‭ ‬وأفكاراً‭ ‬باهرة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها،‭ ‬مكّنتها‭ ‬من‭ ‬البقاء‭ ‬والاستمرار‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬المعاصر،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أدبائها‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا‭ ‬وبورخيس‭ ‬وجابريل‭ ‬جارسيا‭ ‬ماركيز‭.‬

ورغم‭ ‬أنها‭ ‬تعدّ‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المذاهب‭ ‬الفــنية‭ ‬طرافة‭ ‬وإثارة‭ ‬للجدل،‭ ‬فإن‭ ‬السريالية‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أقلّ‭ ‬المذاهب‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬للدراسة‭ ‬والفحص‭ ‬العلمي‭ ‬الرصين‭. ‬

فالدراسات‭ ‬والأدبيات‭ ‬عن‭ ‬السريالية‭ ‬قليلة‭ ‬للغاية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورنت‭ ‬بمثيلاتها‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬مذاهب‭ ‬فنية‭ ‬أخرى،‭ ‬مثل‭ ‬الرومانسية‭ ‬أو‭ ‬الواقعية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭... ‬إلخ‭. ‬فتكاد‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬كتبًا‭ ‬عن‭ ‬السريالية‭ ‬تجاوز‭ ‬عدد‭ ‬أصابع‭ ‬اليد‭ ‬الواحدة‭.‬

 

هذا‭ ‬الكتاب

يبلغ‭ ‬حجم‭ ‬الكتاب‭ ‬240‭ ‬صفحة،‭ ‬تتوزع‭ ‬على‭ ‬10‭ ‬فصول‭ ‬هي‭: ‬

مسار‭ ‬السريالية‭: ‬الأصول‭ ‬والتاريخ،‭ ‬السيرة‭ ‬والعقليات،‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السريالي‭.‬

كتابة‭ ‬السريالية‭: ‬الأوتوماتية،‭ ‬اللاتناغمية،‭ ‬الكولاج‭ ‬وقصدية‭ ‬المؤلف‭.‬

قراءة‭ ‬السريالية‭: ‬التناغم،‭ ‬جو‭ ‬الأحلام،‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬الاستعارة‭ ‬وكسر‭ ‬الألفة،‭ ‬انتشار‭ ‬السريالية‭ ‬وأيديولوجيتها‭ ‬ودلالتها‭.‬

تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مؤلفه‭ ‬بيتر‭ ‬ستوكويل،‭ ‬الباحث‭ ‬الأدبي‭ ‬بجامعة‭ ‬نوتنجهام،‭ ‬يفتخر‭ ‬بأنه‭ ‬باحث‭ ‬أسلوبي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تطبيق‭ ‬المنهج‭ ‬الأسلوبي‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬السريالية،‭ ‬وهذا‭ ‬منهج‭ ‬نقدي‭ ‬معاصر‭ ‬ينشغل‭ ‬بتحليل‭ ‬السمات‭ ‬الداخلية‭ ‬للنصوص‭ ‬الأدبية،‭ ‬ويتفادى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬يعانيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المناهج‭ ‬النقدية‭ ‬الأخرى،‭ ‬مثل‭ ‬مشكلات‭ ‬الإحالة‭ ‬النفسية‭ ‬للمؤلف‭ ‬المعهودة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬ومغالطة‭ ‬قصدية‭ ‬المؤلف‭ ‬المعهودة‭ ‬في‭ ‬المناهج‭ ‬الظاهراتية‭ ‬وفق‭ ‬الناقدين‭ ‬ويمسات‭ ‬وبردسلي،‭ ‬ومغبات‭ ‬التنكر‭ ‬للسّمة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬عند‭ ‬ممارسة‭ ‬النزعة‭ ‬العلموية‭ ‬الإحصائية‭ ‬المعهودة‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ‬البنيوي‭ ‬الشهير‭. ‬لكلّ‭ ‬ذلك‭ ‬نظن‭ ‬أن‭ ‬الباحث‭ ‬ستوكويل‭ ‬قد‭ ‬وفّق‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬المنهج‭ ‬الأسلوبي‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬النصوص‭ ‬السريالية‭. ‬

لكن‭ ‬كان‭ ‬يجدر‭ ‬بالكتاب‭ ‬أن‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬صور‭ ‬للّوحات‭ ‬التي‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬الباحث،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة،‭ ‬لكنها‭ ‬جميعًا‭ ‬متاحة‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬لأنها‭ ‬تمثّل‭ ‬علامات‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الفني‭ ‬الغربي‭. ‬

 

أصول‭ ‬السريالية

يبدأ‭ ‬الباحث‭ ‬باستعراض‭ ‬تاريخ‭ ‬السريالية،‭ ‬فيذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ظهور‭ ‬لمصطلح‭ ‬السريالية‭ ‬أتى‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬اأثداء‭ ‬تريزياسب‭ ‬للشاعر‭ ‬أبولينير‭ ‬عام‭ ‬1917،‭ ‬ويتكون‭ ‬المصطلح‭ ‬من‭ ‬شقين‭ ‬يعنيان‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬الواقع‭. ‬وهي‭ ‬تسمية‭ ‬دقيقة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬لأنها‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬شغف‭ ‬السريالية‭ ‬بما‭ ‬يعلو‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬العادي،‭ ‬وتقصد‭ ‬به‭: ‬الشيء‭ ‬المدهش‭ ‬والعجائبي‭ ‬والمرعب‭ ‬والأسطوري‭ ‬والسحري،‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ ‬محلّ‭ ‬مصادفة‭ ‬بحتة‭ ‬ولا‭ ‬يخضع‭ ‬لروتين‭ ‬الحياة‭ ‬الواقعية‭ ‬العادية،‭ ‬بل‭ ‬يكسر‭ ‬هذا‭ ‬الروتين،‭ ‬بما‭ ‬يغيّر‭ ‬الواقع‭ ‬نفسه‭ ‬ويخلخله‭. ‬وبالتالي،‭ ‬تعد‭ ‬السريالية‭ ‬حركة‭ ‬رفض‭ ‬جذري‭ ‬للواقع،‭ ‬وبحث‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬بديل‭ ‬يعلو‭ ‬فوقيًّا‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬المعتاد،‭ ‬ولذا‭ ‬تنشغل‭ ‬السريالية‭ ‬بالحلم‭ ‬واللاوعي‭ ‬والمصادفات‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تقترن‭ ‬بالحركات‭ ‬غير‭ ‬العقلانية‭ ‬والباراسايكولوجي‭. ‬

وقد‭ ‬صدر‭ ‬أخيرًا‭ ‬عن‭ ‬جامعة‭ ‬أمستردام،‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬كتاب‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السريالية‭ ‬والممارسات‭ ‬السحرية‭ ‬السريّة،‭ ‬لمؤرخة‭ ‬الفن‭ ‬السريالي‭ ‬تيسيل‭ ‬بودون،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬رسالتها‭ ‬للدكتوراة‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬أمستردام‭. ‬وملخّص‭ ‬ما‭ ‬توصلت‭ ‬إليه‭ ‬الباحثة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬انشغال‭ ‬السريالية‭ ‬بالممارسات‭ ‬السحرية‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬حقيقي‭ ‬حدث‭ ‬بالفعل،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬اميل‭ ‬إلى‭ ‬الشعوذةب‭ ‬لدى‭ ‬السرياليين،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬رغبة‭ ‬محمومة‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬يراه‭ ‬السرياليون‭ ‬ايعلو‭ ‬فوق‭ ‬الواقعب‭ ‬وفق‭ ‬مصطلح‭ ‬السريالية‭ ‬الذي‭ ‬يجتمعون‭ ‬حوله‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬استعرضت‭ ‬المؤرخة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬الاجتماعات‭ ‬التي‭ ‬يقيمها‭ ‬السرياليون‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬وممارسات‭ ‬تستهدف‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬فوقه،‭ ‬وفق‭ ‬رؤية‭ ‬السرياليين‭. ‬وقد‭ ‬استغرق‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الممارسات‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬خلال‭ ‬الاجتماعات‭ ‬السريالية،‭ ‬بما‭ ‬يجعله‭ ‬مادة‭ ‬جيدة‭ ‬لمن‭ ‬يحب‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬بينهم‭.‬

 

الأسلوبية‭ ‬والسريالية

يسعى‭ ‬الباحث‭ ‬ستوكويل‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬السمات‭ ‬الأسلوبية‭ ‬للفن‭ ‬السريالي‭. ‬وبمعنى‭ ‬أبسط‭ ‬فهو‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬إجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬محدد‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬عملاً‭ ‬فنيًّا‭ ‬أو‭ ‬نصًّا‭ ‬أدبيًّا‭ ‬يوصف‭ ‬بأنه‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬السريالية؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نقول‭ ‬على‭ ‬لوحة‭ ‬أو‭ ‬قصيدة‭ ‬إنها‭ ‬سريالية؟

يجيب‭ ‬ستوكويل‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬الأسلوبية‭ ‬السريالية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحليل‭ ‬الأساليب‭ ‬والتقنيات‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬السرياليون‭ ‬في‭ ‬نصوصهم‭ ‬الأدبية‭ ‬وفي‭ ‬أعمالهم‭ ‬التشكيلية‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬يُعنون‭ ‬كتابه‭ ‬الغة‭ ‬السرياليةب‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬سمات‭ ‬النصوص‭ ‬اللغوية‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬تطرّق‭ ‬كثيرًا‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬لوحات‭ ‬سريالية‭ ‬لسلفادور‭ ‬دالي‭ ‬ومارسيل‭ ‬دوتشامب‭ ‬وبيكاسو‭.‬

 

الكتابة‭ ‬الأوتوماتية

ربما‭ ‬كانت‭ ‬التقنية‭ ‬السريالية‭ ‬الأولى‭ ‬والأهم‭ ‬والأشهر‭ ‬هي‭ ‬تقنية‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬يلجأ‭ ‬المؤلف‭ ‬إلى‭ ‬تصفية‭ ‬ذهنه‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬انشغالات‭ ‬واعية‭ ‬مسبقة،‭ ‬بحيث‭ ‬يسهل‭ ‬لعقله‭ ‬الباطني‭ ‬أن‭ ‬ينفتح‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ ‬صور‭ ‬وأخيلة‭ ‬لاواعية‭ ‬ويتركها‭ ‬تتوالى‭ ‬على‭ ‬ذهنه‭. ‬ثم‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يمسك‭ ‬بورقة‭ ‬وقلم‭ ‬ويسمح‭ ‬لهذه‭ ‬الصور‭ ‬والأخيلة‭ ‬بأن‭ ‬تتدفق‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مكتوب،‭ ‬بحرية‭ ‬تامة‭ ‬ودون‭ ‬أدنى‭ ‬تدخّل‭ ‬أو‭ ‬سيطرة‭ ‬من‭ ‬عقله‭ ‬الواعي‭. ‬فالكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬هي‭ ‬حرية‭ ‬كاملة‭ ‬لانسياب‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تحرير‭ ‬أو‭ ‬تصحيح‭ ‬أو‭ ‬رقابة‭. ‬والهدف‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يندهش‭ ‬الكاتب‭ ‬نفسه‭ ‬بما‭ ‬كتب‭ ‬بالضبط‭ ‬كدهشة‭ ‬القارئ‭.‬

في‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬يتحرر‭ ‬اتداعي‭ ‬الخواطرب‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يفصل‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬عن‭ ‬أسلوب‭ ‬مقارب‭ ‬لها‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬اتيار‭ ‬الوعيب،‭ ‬حيث‭ ‬الأخير‭ ‬هو‭ ‬الأسلوب‭ ‬المعهود‭ ‬لدى‭ ‬روائيين‭ ‬حداثيين‭ ‬كبار‭ ‬مثل‭ ‬فيرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬وجيمس‭ ‬جويس‭. ‬ويحدد‭ ‬أندريه‭ ‬بريتون‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬السريالية‭ ‬وبين‭ ‬أسلوب‭ ‬اتيار‭ ‬الوعيب‭ ‬كما‭ ‬يلي‭: ‬

ايكمن‭ ‬الفرق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أسلوب‭ ‬اتيار‭ ‬الوعيب‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬كتابة‭ ‬يحرّكها‭ ‬وعي‭ ‬الكاتب‭ ‬وإرادته‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬مسعى‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬نص‭ ‬أدبي‭ ‬رفيع‭ ‬يلتزم‭ ‬تأطيريًّا‭ ‬بتقليد‭ ‬الواقع‭. ‬لكن‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬السريالية،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بتدخّل‭ ‬إرادة‭ ‬الكاتب‭ ‬بأي‭ ‬شكل‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬المادة‭ ‬المكتوبة،‭ ‬بل‭ ‬يترك‭ ‬العنان‭ ‬للقلم‭ ‬ليكتب‭ ‬الكلمات‭ ‬بكل‭ ‬عفوية‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬رقابة‭ ‬من‭ ‬المؤلفب‭. ‬وقد‭ ‬استخدم‭ ‬بريتون‭ ‬أسلوب‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬نصوص‭ ‬سريالية‭ ‬عديدة،‭ ‬كان‭ ‬أشهرها‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬زميله‭ ‬فيليب‭ ‬سوبولت‭ ‬بعنوان‭ ‬االحقول‭ ‬المغناطيسيةب‭ ‬عام‭ ‬1920،‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬مقاطعه‭: ‬

اتلك‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬نهايات‭ ‬أكاذيب‭ ‬الحزن‭. ‬فقد‭ ‬احتضرت‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية،‭ ‬في‭ ‬تدفّقها‭ ‬كنحلات‭ ‬طنانة،‭ ‬تبدو‭ ‬كأنها‭ ‬استحوذت‭ ‬على‭ ‬قرصات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬ارتشاف‭ ‬العسل‭. ‬بينما‭ ‬ظل‭ ‬الناس‭ ‬معلّقين‭ ‬يرقبون‭ ‬أمواج‭ ‬المحيط،‭ ‬وكانت‭ ‬الحيوانات‭ ‬تطير‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬بؤرة‭ ‬اهتماماتهم‭ ‬وخارجها‭. ‬ورغم‭ ‬مرور‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬فإن‭ ‬الكلاب‭ ‬الملكية‭ ‬لم‭ ‬تطعن‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬بل‭ ‬ظلت‭ ‬صغيرة‭ ‬السن‭ ‬وبعافية‭ ‬جيدة‭. ‬وربما‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬سيتهيأ‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ‭ ‬وتحتسي‭ ‬كؤوس‭ ‬الشراب‭ ‬ممزوجة‭ ‬بضحكات‭ ‬التسامر‭ ‬وتستمر‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬للأبد‭. ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬الآن‭. ‬فالوقت‭ ‬قد‭ ‬حان‭ ‬كما‭ ‬نعلم‭ ‬جميعًا‭. ‬فمن‭ ‬منّا‭ ‬سيرحل‭ ‬أولاً؟ب‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬كانت‭ ‬نهايات‭ ‬الفصول‭ ‬تتحدد‭ ‬بنهاية‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يستغرقه‭ ‬الكاتبان‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬بحيث‭ ‬يبدأ‭ ‬الفصل‭ ‬الجديد‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬يوم‭ ‬جديد‭. ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬بدايات‭ ‬ونهايات‭ ‬الفصول‭ ‬عشوائية،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بمضمون‭ ‬النص‭.‬

ويرى‭ ‬المؤلف‭ ‬ستوكويل‭ ‬أن‭ ‬أسلوب‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭ ‬يعبّر‭ ‬بشكل‭ ‬عبقري‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬السريالية،‭ ‬لكونه‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إفساح‭ ‬المجال‭ ‬للاوعي،‭ ‬ويترك‭ ‬للعقل‭ ‬الباطن‭ ‬حرية‭ ‬أن‭ ‬يتكلم‭ ‬بكل‭ ‬تلقائية‭ ‬وعفوية‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬وكأنما‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬إزالة‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬وبين‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬الأوتوماتية‭.‬

 

قصيدة‭ ‬الشعر‭ ‬المتسلسل

‭ ‬ابتكر‭ ‬السرياليون‭ ‬ما‭ ‬أسموه‭ ‬بقصيدة‭ ‬االشعر‭ ‬المتسلسلب،‭ ‬حيث‭ ‬يشارك‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬بمشاركات‭ ‬عشوائية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطّلع‭ ‬أي‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬مشاركات‭ ‬غيره،‭ ‬فينتج‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬قصيدة‭ ‬لم‭ ‬يتوقع‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬فحواها‭ ‬أو‭ ‬معانيها‭. ‬فقط‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬كل‭ ‬سطر‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬لقواعد‭ ‬النحو‭ ‬الفرنسي،‭ ‬بحيث‭ ‬تترك‭ ‬خانات‭ ‬خاوية‭ ‬لكل‭ ‬عنصر‭ ‬لغوي،‭ ‬ويتم‭ ‬ملء‭ ‬كل‭ ‬خانة‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭. ‬فالسطر‭ ‬الواحد‭ ‬كان‭ ‬ينقسم‭ ‬إلى‭ ‬الخانات‭ ‬التالية‭: (‬اسم‭ ‬شيء،‭ ‬نعت،‭ ‬فاعل،‭ ‬فعل،‭ ‬اسم‭ ‬شيء‭ ‬ثان،‭ ‬نعت،‭ ‬مفعول‭ ‬به‭).‬

ونجم‭ ‬عن‭ ‬التجارب‭ ‬السريالية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬القصائد‭ ‬المتسلسلة‭ ‬أبيات‭ ‬شعرية‭ ‬كالتالي‭:‬

شخص‭ ‬متفانٍ‭ ‬كما‭ ‬قطّ‭ ‬خاوٍ‭ ‬من‭ ‬العظام

كجثة‭ ‬مهيبة‭ ‬ترتشف‭ ‬عصير‭ ‬العنب‭ ‬الطازج

حزنت‭ ‬ورقة‭ ‬الشجر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬الشوك

لا‭ ‬يمكن‭ ‬للأنف‭ ‬أن‭ ‬تغفر‭ ‬لأنها‭ ‬جاوزت‭ ‬عقدة‭ ‬الدم

البقر‭ ‬يتربع‭ ‬على‭ ‬عواميد‭ ‬التلغراف‭ ‬ويلعب‭ ‬الشطرنج

كيف‭ ‬تمكّن‭ ‬الثعبان‭ ‬المجنح‭ ‬من‭ ‬إغواء‭ ‬الطائر‭ ‬الحبيس؟

كانت‭ ‬ملابسه‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يوليو‭ ‬تعدل‭ ‬قطيع‭ ‬فئران‭ ‬هاربة

أرأيتم‭ ‬السمكة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقف‭ ‬أمام‭ ‬الأوبرا‭ ‬مقطّعة‭ ‬الأوصال؟

في‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬فيها‭ ‬الأمن‭ ‬إلا‭ ‬ببصق‭ ‬الدم‭ ‬على‭ ‬الحجارة

‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬سوى‭ ‬لعربة‭ ‬إطفاء‭ ‬أن‭ ‬تطرد‭ ‬هذا‭ ‬الكابوس‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬المعيشة‭ ‬لولا‭ ‬عطل‭ ‬خراطيم‭ ‬المياه

وقد‭ ‬استخدم‭ ‬الشاعر‭ ‬السريالي‭ ‬ديفيد‭ ‬جاسكوين‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬ببراعة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬التي‭ ‬حازت‭ ‬إعجاب‭ ‬أندريه‭ ‬بريتون‭.‬

 

الكولاج

برعت‭ ‬السريالية‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬محاولتها‭ ‬لابتكار‭ ‬طرق‭ ‬وتقنيات‭ ‬جديدة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬إلغاء‭ ‬دور‭ ‬الإرادة‭ ‬الواعية‭ ‬والعقل‭ ‬الواعي‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭. ‬وتمادت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬توخّت‭ ‬العشوائية‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفني،‭ ‬وقد‭ ‬شملت‭ ‬إحدى‭ ‬طرق‭ ‬الإبداع‭ ‬الفني‭ ‬السريالي‭ ‬قص‭ ‬الكلمات‭ ‬والعبارات‭ ‬من‭ ‬الجرائد‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قواميس‭ ‬وفق‭ ‬أرقام‭ ‬صفحاتها‭ ‬فقط،‭ ‬ثم‭ ‬لصقها‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬بعضها‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي،‭ ‬حيث‭ ‬ينتج‭ ‬عنها‭ ‬جمل‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭. ‬

ثم‭ ‬تطورت‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يسمى‭ ‬االكولاجب‭ ‬السريالي،‭ ‬حيث‭ ‬يجلب‭ ‬الفنان‭ ‬السريالي‭ ‬عدة‭ ‬عناصر‭ ‬مختلفة‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭ ‬أيضًا‭ ‬تحكمه‭ ‬المصادفة‭ ‬الموضوعية‭ ‬وحدها،‭ ‬بحيث‭ ‬ينجم‭ ‬عنها‭ ‬أشكال‭ ‬فنية‭ ‬وجمل‭ ‬كتابية‭ ‬جديدة‭ ‬وغير‭ ‬معتادة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬السريالية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬التقنيات‭ ‬اللغوية‭ ‬والفنية‭ ‬التي‭ ‬استخدمها‭ ‬السرياليون‭ ‬كانت‭ ‬مرتبطة‭ ‬بشكل‭ ‬وثيق‭ ‬بجوهر‭ ‬فلسفتهم‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬تحرير‭ ‬اللاوعي،‭ ‬وإلجام‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬اكتشاف‭ ‬ما‭ ‬فقدته‭ ‬الحياة‭ ‬البشرية‭ ‬جراء‭ ‬كبت‭ ‬اللاوعي‭ ‬وهيمنة‭ ‬الوعي‭ ‬عليها‭ ‬بما‭ ‬أسقطها‭ ‬في‭ ‬حضارة‭ ‬استهلاكية‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬تعتبر‭ ‬الأشد‭ ‬فظاعة‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الحل‭ ‬لديهم‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬طفولة‭ ‬الوعي‭ ‬البشري‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬براءته‭ ‬الأصلية‭ ‬ويرتقي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬حضارة‭ ‬مادية‭ ‬الطابع‭ ‬تقتل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬فردوسي‭ ‬وترسّخ‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شيطاني‭ ‬داخل‭ ‬الإنسان‭.‬

 

اكتشاف‭ ‬المدهش‭ ‬في‭ ‬العادي

من‭ ‬التقنيات‭ ‬السريالية‭ ‬إعادة‭ ‬تقديم‭ ‬الشيء‭ ‬الجاهز‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مدهش‭ ‬جديد،‭ ‬بما‭ ‬يكسر‭ ‬اعتيادنا‭ ‬عليه‭ ‬ويقدمه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مختلف‭ ‬يجعلنا‭ ‬نرى‭ ‬الواقع‭ ‬بطريقة‭ ‬عجائبية‭ ‬مختلفة‭. ‬وكان‭ ‬أبرز‭ ‬السرياليين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الفنان‭ ‬مارسيل‭ ‬دوتشامب،‭ ‬حين‭ ‬قدّم‭ ‬امبولةب‭ ‬في‭ ‬معرضه‭ ‬الفني‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬انافورةب‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬للسريالية‭ ‬حدودها‭. ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشف‭ ‬مارسيل‭ ‬دوتشامب‭ ‬أن‭ ‬االأشياء‭ ‬الجاهزةب‭ ‬واالكتابة‭ ‬الأوتوماتيةب‭ ‬ليست‭ ‬تقنيات‭ ‬فنية‭ ‬تتحقق‭ ‬فيها‭ ‬التلقائية‭ ‬والعفوية‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يظنّه‭ ‬السرياليون،‭ ‬فكتب‭ ‬يقول‭: ‬

افي‭ ‬البداية‭ ‬عندما‭ ‬مارست‭ ‬الأوتوماتية،‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬أنني‭ ‬محصّن‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬تدخّل‭ ‬من‭ ‬عقلي‭ ‬الواعي‭ ‬على‭ ‬اختياراتي‭ ‬الفنية،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أتجنب‭ ‬أي‭ ‬تصنيف‭ ‬للأشياء‭ ‬بصفتها‭ ‬جميلة‭ ‬أو‭ ‬قبيحة،‭ ‬لكنني‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬عقلي‭ ‬الواعي‭ ‬كان‭ ‬ينجح‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬التسلل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أفعل‭ ‬ويؤثر‭ ‬فيه‭ ‬ليدفعه‭ ‬نحو‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬متوافقًا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬مع‭ ‬معيار‭ ‬الجمال‭ ‬المعهود‭ ‬لدى‭ ‬العقل‭ ‬البرجوازي‭ ‬الواعيب‭.‬

وعبارة‭ ‬االتوافق‭ ‬مع‭ ‬معيار‭ ‬الجمال‭ ‬المعهود‭ ‬لدى‭ ‬العقل‭ ‬البرجوازي‭ ‬الواعيب‭ ‬تعتبر‭ ‬بمنزلة‭ ‬تهمة‭ ‬خطيرة‭ ‬جدًّا‭ ‬في‭ ‬السريالية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قيلت‭ ‬لأحدهم‭. ‬وهي‭ ‬تهمة‭ ‬كافية‭ ‬لطرد‭ ‬من‭ ‬يتهم‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬السرياليين‭ ‬غير‭ ‬مأسوف‭ ‬عليه‭ ‬للأبد‭. ‬

لكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬السريالية‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تتقدم‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬لكسر‭ ‬المألوف‭ ‬الواعي‭ ‬وتقديم‭ ‬الجانب‭ ‬اللاواعي‭ ‬والمدهش‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ابتكار‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬الفريدة‭.‬

 

هل‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬للسريالية‭ ‬معنى؟

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬السريالي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬عنصر‭ ‬الدهشة‭ ‬والإبهار،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬فقط‭ ‬بإدهاش‭ ‬المتلقي،‭ ‬بل‭ ‬يسعى‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬إدهاش‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتجه‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬باهرة‭ ‬ومدهشة‭. ‬

وقد‭ ‬برع‭ ‬السرياليون‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬المواد‭ ‬العادية‭ ‬غير‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬أعمالهم‭ ‬الفنية،‭ ‬فاستخدموا‭ ‬قصاصات‭ ‬الورق‭ ‬والصحف‭ ‬والطوابع‭ ‬المستعملة‭ ‬والريش‭ ‬والأسلاك‭ ‬التي‭ ‬اكتسبت‭ ‬جميعها‭ ‬سمات‭ ‬فنية‭ ‬جديدة‭ ‬عندما‭ ‬وضعت‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الفنان‭ ‬السريالي‭ ‬الذي‭ ‬حشرها‭ ‬مع‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬العناصر،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬مكتوب،‭ ‬بحيث‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬مجمل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬غير‭ ‬فنية‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬طريقة‭ ‬السرياليين‭ ‬في‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬الفن‭ ‬البرجوازي‭ ‬الذي‭ ‬نفروا‭ ‬منه‭ ‬وعافوا‭ ‬معاييره‭ ‬الجمالية‭ ‬الاستهلاكية‭. ‬

وهنا‭ ‬يطرح‭ ‬المؤلف‭ ‬ستوكويل‭ ‬سؤالًا‭ ‬مهمًّا،‭ ‬وهو‭: ‬هل‭ ‬يستمر‭ ‬الفن‭ ‬السريالي‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬الإدهاش‭ ‬والإبهار،‭ ‬بمرور‭ ‬الأجيال؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬صدمة‭ ‬الدهشة‭ ‬والإبهار‭ ‬السريالية‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬وقتي،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينزوي‭ ‬ويخبو‭ ‬ويخفت‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن؟‭ ‬وبالتالي،‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬للفن‭ ‬السريالي‭ ‬معنى‭ ‬الآن،‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬تقريبًا؟

كان‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬سابقًا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬هانز‭ ‬ريختر،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: ‬

الوحات‭ ‬بيكاسو‭ ‬وسيزان‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬إبهارنا‭ ‬وإدهاشنا‭ ‬كلما‭ ‬نظرنا‭ ‬إليها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تذوي‭ ‬عنا‭ ‬الدهشة‭ ‬أو‭ ‬الانبهار‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬عليها‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬انبهارنا‭ ‬بها‭ ‬وتقديرنا‭ ‬لها‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬اللوحات‭ ‬والأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬الأخرى‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬إبهارنا‭ ‬وإدهاشنا‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬تفقد‭ ‬قيمتها‭ ‬الفنية‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الصفرب‭. ‬فإلى‭ ‬أي‭ ‬طرف‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬تنتمي‭ ‬الأعمال‭ ‬السريالية؟‭ ‬يجيب‭ ‬الباحث‭ ‬ستوكويل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بقوله‭ ‬إن‭ ‬الأعمال‭ ‬السريالية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إبهارنا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬لكن‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الأشعار‭ ‬والقصص‭ ‬الأدبية‭. ‬ويستشهد‭ ‬ستوكويل‭ ‬بالأبيات‭ ‬الشعرية‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬هيو‭ ‬سايكس‭ ‬ديفيز‭:‬

لا‭ ‬يبدو‭ ‬كإصبع‭ ‬بل‭ ‬كريشة‭ ‬من‭ ‬مكسور‭ ‬الزجاج‭ ‬

لا‭ ‬يبدو‭ ‬مثل‭ ‬كرسي،‭ ‬بل‭ ‬كسيدة‭ ‬عجوز‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬كوم‭ ‬من‭ ‬الحجارة

لم‭ ‬يتفوّه‭ ‬أحد‭ ‬بتفاحة‭ ‬لما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬دقيقة،‭ ‬حتى‭ ‬شعرت‭ ‬بأنني‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الاحتضار‭ ‬

أخيرًا‭ ‬تمكنت‭ ‬سمكة‭ ‬السردين‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الصينية‭ ‬وهدم‭ ‬البيت،‭ ‬لكن‭ ‬الناس‭ ‬توافقوا‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يلحظوا‭ ‬وقوع‭ ‬أي‭ ‬تغيير،‭ ‬فكانت‭ ‬أجواء‭ ‬إنجليزية‭ ‬الطابع‭ ‬للغاية

 

إبهار‭ ‬سريالي

يرى‭ ‬ستوكويل‭ ‬أن‭ ‬استمرار‭ ‬الإبهار‭ ‬السريالي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأشعار‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وغيرها،‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬لعدم‭ ‬تهيّب‭ ‬السرياليين‭ ‬أو‭ ‬تخوّفهم‭ ‬من‭ ‬ابتكار‭ ‬واستخدام‭ ‬تقنيات‭ ‬فنية‭ ‬فريدة‭ ‬وطريفة‭ ‬عمدت‭ ‬إلى‭ ‬إثارة‭ ‬اللاتناغم‭ ‬والنشاز‭ ‬والصراع‭ ‬اللحني‭ - ‬وفق‭ ‬مصطلحات‭ ‬الموسيقيين‭ - ‬بين‭ ‬العناصر‭ ‬الفنية‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الواحد،‭ ‬لكن‭ ‬بشكل‭ ‬كان‭ ‬يؤدي‭ ‬دومًا‭ ‬إلى‭ ‬ابتكار‭ ‬حساسية‭ ‬جمالية‭ ‬جديدة‭ ‬مفارقة‭ ‬للمعتاد‭ ‬والمعهود،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬زمنهم‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬زمننا‭ ‬الحالي،‭ ‬ولذا‭ ‬تظل‭ ‬السريالية‭ ‬تحتفظ‭ ‬دومًا‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الطرافة‭ ‬والطزاجة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬منتجاتها‭ ‬الفنية‭ ‬والأدبية،‭ ‬بما‭ ‬يمكّنها‭ ‬على‭ ‬تحدي‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭. ‬

لقد‭ ‬برعت‭ ‬السريالية‭ ‬في‭ ‬محاولتها‭ ‬ابتكار‭ ‬طرق‭ ‬وتقنيات‭ ‬طريفة‭ ‬وعجيبة‭ ‬هدفت‭ ‬إلى‭ ‬إلغاء‭ ‬دور‭ ‬الإرادة‭ ‬الواعية‭ ‬والعقل‭ ‬الواعي‭ ‬في‭ ‬الإبداع،‭ ‬وتمادت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬توخت‭ ‬العشوائية‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفني،‭ ‬وتغييب‭ ‬دور‭ ‬المؤلف،‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬أعمالها‭ ‬وكأنها‭ ‬منتجات‭ ‬جمعية‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬لأفراد‭ ‬محددين‭ ‬بصفاتها‭ ‬وسماتهم‭ ‬الشخصية،‭ ‬بل‭ ‬توازت‭ ‬طرق‭ ‬ومنتجات‭ ‬الإبداع‭ ‬الفني‭ ‬السريالي‭ ‬مع‭ ‬مكنون‭ ‬الفلسفة‭ ‬السريالية‭ ‬نفسها‭ ‬بشكل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬له‭ ‬مثيل‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المذاهب‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولذا‭ ‬تظل‭ ‬المعاني‭ ‬السريالية‭ ‬طازجة‭ ‬مهما‭ ‬تخطاها‭ ‬الزمن‭ .

لوحة‭ ‬سريالية‭ ‬بعنوان‭: ‬إلحاح‭ ‬الذاكرة‭ ‬لسلفادور‭ ‬دالي