قصيدة الأجفان والغبار للشاعر الكوبي فياض خميس
فياض خميس (1930 - 1988) شاعر وفنان تشكيلي وإعلامي ودبلوماسي كوبي. ولد في قرية نائية شمال المكسيك لأب مهاجر لبناني وأم مكسيكية. وصل إلى كوبا وهو بعمر ست سنوات مع العائلة التي كانت تتعقب لقمة الخبز بين الضِياع والبلدات الريفية وراء عربة الأب البائع الجوال. وإلى كوبا ينتمي خميس بتكوينه الوجداني والثقافي، أما صلته مع مسقط رأسه المكسيك فهي - على حد تعبيره - ذاتها التي تجمعه مع أي بلد من قارة أمريكا اللاتينية.
بالتوازي مع سنوات دراسته، بدأ خميس يداوم على مدرسة للفن التشكيلي في البلدة التي انتبذت فيها العائلة مكاناً تستقر فيه بعد سنوات من الترحال.
وانضم عام 1952 إلى عصبة «الأحد عشر»، وهـــــي جماعـــــة شبابيـــــة متمــــــردة على المــتواضع التشكيلي الفني المكرس؛ كما شرع بكتابة ونشر قصائده التي اتسمت في تلك المرحلة المبكرة بتأثير الشعرية الرومانسية، والموارد التي تتصف بالبعد الهرمونوطيقي (فن التأويل والتفسير).
على ضيق وضعه المادي وتردي حال الجيب والعوز، تمكن فياض عام 1954 من السفر إلى باريس، التي احتك فيها بالأجواء الثقافية الطليعية الفوضوية واللامنطقية، وداوم على ارتياد المقاهي والحانات التي كانت بمنزلة فضاء تجتمع فيه حلقات الأدباء والفنانين المقيمين والوافدين والمهاجرين إلى عاصمة النور.
وتركت السنوات الباريسية على الشاعر الكوبي الشاب أثراً مهماً طبع خبرته الحياتية وتوجهه الأدبي ببصمة لا يمكن نكرانها أو تجاهلها بأي حال من الأحوال، حتى أنه أقام فيها معرضه التشكيلي الفردي الأول برعاية أندريه برتون (1896 - 1966).
وبعد قيام الثورة الكوبية عام 1959، عاد خميس إلى هافانا، ووهب ما تبقى من حياته القصيرة للتحولات التي كانت تحصل في عمق الكيان الثقافي الأدبي والفن التشكيلي والصحافة في بلده كوبا.
وأوفد فيما بعد ليشغل منصب الملحق الثقافي في سفارة كوبا بالمكسيك.
ساهم خميس منذ خمسينيات القرن الماضي في المنجز الأدبي الشعري الكوبي، وانبرى مع شعراء جيله ممن ولدوا في العام نفسه (1930)، لدفع الشعر الكوبي نحو منعطف الحداثة بعد مرحلة التيار الباحث عن جذور هوياتية كوبيّة، والمعروف بـ «أصول»، الذي كان على رأسه الشاعر خوسيه ليثاما ليما (1910 - 1976). ومع الابتعاد عن التأويلية التفسيرية، وغنائية المجازات التشبيهية، والاستعارية المستغلقة التي ميزت تيار «أصول»، مال الشعر الكوبي نحو تحررٍ وانفتاح لغوي مبنى ومعنى، متابعاً سيرورته الباحثة عن شكل شعري متجدد.
وبالطبع شارك خميس في هذه التغيرات الحاسمة، ولعل قصيدة «متشرد الفجر» التي كتبها في باريس سنة 1956، تشكل نقطة فاصلة في المسار اللغوي والإيقاعي للقصيدة الكوبيّة، إضافة إلى مساره الشعري.
وتأخذ سنوات التحول الثوري الكوبي في تعميق النحت اللغوي والانحراف بالحالة الشعورية والشعرية نحو عذوبة المحادثة اليومية، والمفردات الكوبية المغرقة في محليتها الواقعية، كما في عجائبيّة أثيرية مفردة، دون نسيان الشعرية النثرية ورعشة شعر السردية وممارسة الحياة بكل ضراوتها.
مع قارئ مجلة العربي، نتذكر فياض خميس ابن عائلة شعرية من الرُّحّل، نتذكره مع قصيدة تنتمي إلى مرحلة الشباب الأول قبل سفره إلى باريس، وفيها تعبير عن برازخ يتقاطع فيها الأزل والزمان، وتومض منها إشارة شعرية تحمل طعم الرحيل والشوق للاحتضان، إشارة رافقت الشاعر طوال سيرته الشعرية رغماً عن التحولات التاريخية الشعرية الكبرى ووجود الضفاف الشكلية المتعددة.
الأجفان والغبار
(1)
هنا يُفقَد شيءٌ ما، شيءٌ يُسمع لآخرِ مرة،
يتردد رجعه بين الجدران كجسد فارغ.
هنا يَسقطُ شيءٌ ما، شيءٌ يَسقطُ من هنا،
أحدهم، بجلبةٍ ونواح، يَهبطُ السلالم
العتيقة التي يعلوها غبارٌ ميت.
هنا يهبو شيء ما، أحدهم يموت محاطاً بهمهمة،
أحدهم يمضي!
وللتو لا يتبقى حتى ولا الصدى. يا له من سواد حالك!
لا أحد يتكلم، ما من أحد يعرف الآخر؛
في الداخل، الأعين الدامعة، أعين قاطني هذه
الدارة المغمورين، مستغرقة بالتأمل.
(2)
زمنُ اليقظةِ هو موسمُ الأرقِ.
صمتٌ حيث تنهمر دموع، حجارة،
وكلمات محمّلة بضوضاء ونضير عشب،
كلمات بسيطة من حنو وتِبْر.
زمن تقليب الأغراض التي كانت غافية:
كتب مؤلفة بعناية، كؤوس، أوراق لعب،
سكاكين بلا موت ولا وميض.
إطراق أجفان مفجوعة،
مترقبة، بينما في مرآة
مربّعة على نحو مريع وخاوية
يركد الليل.
(3)
إنه شهر شباط
يجرجر رماداً وأصواتاً متقطعة الأوصال.
إنه الشتاء السُبَات... الحياة الدامسة باستمرار.
شباط المحاصر بين جُدُر متصدعة.
والآن مَنْ ينتحب عند قدمي التمثال،
مَنْ يترك أثرَ خَطْوِه على التراب
بينما أنوار الليل تتدلى من الأشجار
كثمار زمنٍ مفعم بالحب؟
كل شيء آيل إلى السكون، بلا أوراق ولا أنجم.
ولسوف يغادر النواطير متعبين من النظر أبداً
إلى مقاعد تقتحمها الظلال،
وإلى الخليج حيث الوحدة تبحر مبتعدة.
(4)
والغد، يا تُرى ماذا عنه؟
من سيسهر غداً على هذه الذكريات؟
نثارُ الغبارِ هامدٌ بلا حراك
كأطلالِ قلعة.
ما مِنْ غدٍ، محضُ يومٍ آخر
من عطش، يوم ضرير من كآبة،
بلا عصافير ولا إشراق،
يوم ضائع وقارس على الدوام.
(5)
بعيدٌ أنا عن التوهم. تعلمت الغناء.
أمي وأبي يبتسمان عند النافذة.
أحدهما يعلم أنني عاشق.
أحدهما يناديني بحنان.
يا صغيرتي، أنذهب اليوم للتسلق؟
إلى جواري هي تحلم.
الطقس حلو، جميع النوافذ مشرعة. أنتنزه اليوم؟
أشجار اللوز تنتظر ظلالنا،
مطمئنة مقابل البحر.
(6)
على حين غِرّة، يحضر الصمت الهائل المعتاد،
والأجفان المثقلة بالهباء الذي يتناثر
لجوجاً بلا انقطاع.
البوابة نفسها بشقوقها القديمة،
نفس الرطوبة... نفس السلّم
المعوّج، مع وَقْعِ خطوات وأصوات عجائز أو أطياف.
ما مِنْ أحدٍ يأتي للكلام عن الضوء الذي يهطل على المدينة،
ولا عن الصخب الذي يخبط في الشوارع.
ولا عن الضحكة التي تغزو الأرصفة.
ما من أحد يبصق في وجه الشتاء.
هنا فقط تلبث الأيام والحشرات،
وهذه العزلة من قوس مشدود بين الدواثر ■