عِرَار.. صعلكة القرن العشرين (شاعر العدد)

عِرَار.. صعلكة القرن العشرين (شاعر العدد)
        

          وهذا شاعر آخر من صعاليك القرن العشرين الذين استعادوا روح الصعلكة الجاهلية على طريق القوافي.

          إنه الشاعر الأردني  مصطفى وهبي التل، أو عرار الذي اختار اسمه بدلاً من اسمه المختار إعجابًا بذلك البيت الجاهلي الذي يقول:

أرادت عرارًا بالهوان، ومن يرد
                              عرارًا، لعمري، بالهوان فقد ظلم.

          وكأنه بذلك الاختيار الواعي لاسمه الجديد أراد الشاعر أن يكون إعلانًا عن إرادته الحرة ضد الهوان ومجابهة لكل من ظلم.

          وعرار الذي تملكته الصعلكة المغلفة بموهبة شعرية دافقة وخلاقة، ظل وفيًا للاسم والمبدأ الكامن وراء ذلك الاسم في كل ما كتب وكل ما قال وفي كل ما فعل أيضًا. ولعل قراءة سريعة لسيرة حياته تدلنا على مكامن الصعلكة في ممارسة الشاعر الحياتية اليومية وفي ممارسته الإبداعية أيضًا.

          وُلد مصطفى وهبي بن صالح المصطفى اليوسف التل في مدينة إربد شمال الأردن، في العام 1899، وفي تلك المدينة الرابضة على الحدود الشمالية للأردن تلقى تعليمه الابتدائي قبل أن يسافر إلى سورية في العام 1912 ليكمل رحلة التعليم الثانوي  في دمشق وحلب. وبعدها اعتمد على نفسه وشغفه الذاتي لاستكمال دراسته لثلاث لغات أتقنها بالإضافة إلى عربيته وهي التركية والفرنسية والفارسية. لكن ذلك الوعي المبكر بأهمية الدفاع عن الحقوق وعن النفس ضد من يريد هوانها ممن ظلم كما تعلمه من ذلك البيت الشعري القديم دفعه لدراسة القانون ذاتيًا،  وفي نهاية الأمر تقدم إلى وزارة العدلية  في سورية لاجتياز الامتحان الذي كانت تشترط اجتيازه من قبل كل من يريد ممارسة مهنة المحاماة، وهكذا اجتاز عرار الامتحان وأصبح محاميًا في العام 1930.

          وبالرغم من أنه مارس المهنة فورًا فإنه عاد إلى بلده لاحقًا ليعيّن مدرسًا في مدارسها، قبل أن يصبح حاكمًا إداريًا لثلاث نواح في الأردن، ويبدو أنه نجح في مهمته الإدارية تلك مما أهّله ليتسلم منصبًا أرقى من ذلك في سلم الوظائف الرسمية في الدولة الفتية، فقد اختير كمدع عام لمدينة السلط ثم عين رئيس تشريفات في الديوان العالي، ثم متصرفًا للبلقاء. وبالرغم من نجاحاته الإدارية تلك فإن روح الشاعر المتصعلك سرعان ما طغت على  تقاليد الوظيفة الرسمية الصارمة، فانتشرت قصائده الخارجة عن النسق الرسمي، ولأنه كان لا يتورع غالبًا في كسر ذلك النسق بقصائد تناول فيها بالنقد أوضاع بلاده السياسية، معتمدًا أسلوب السخرية والقوسة في مسح الجروح الوطنية، لم يجد مسئولوه بدا من عزله عن وظيفته، وعندما تطايرت قصائده القاسية والناقدة للنظام والسياسة في بلده وسياساته التي رأى الشاعر أنها لا تلبي طموحات الشعب الأردني المتطلع، ولا تعكس وجهة نظره القومية سارع رجال ذلك النظام إلى الزج به في السجن  ليغرد بين جدرانه بأغاني الحرية وتتردد أصداء قوافيه عابرة أسوار السجن وأسوار الأردن كلها ليتبادلها القراء والمريدون وكأنها منشورات سرية زادت من شهرة الشاعر وألبت رجال السياسة عليه.

          وعلى الرغم من إعجاب الملك عبدالله ملك الأردن به، وبقصائده ما أدى إلى تقريبه منه في أحيان كثيرة، فإن ذلك الإعجاب لم يكن ليسلب من الشاعر حريته في القول والنقد. وهكذا وجد نفسه بين الشارع والسجن يغني متغلبًا على خيباته المتلاحقة على صعيد الوطن والأمة. وفي فترات تألق الموهبة كانت تتشظى لتتوزع على اهتماماته الإبداعية المختلفة، فلم يكن ليكفي بكتابة القصيدة بل كتب عددًا كبيرًا من المقالات واشتغل على اللغة والأدب، كما استفاد من إجادته لثلاث لغات ليترجم منها إلى العربية بعض ما يختار. وكان من أبرز مساهماته على هذا الصعيد ترجمته رباعيات عمر الخيام من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية.

          وعلى الرغم من أن عرارا ترك وراءه إرثًا أدبيًا متنوعًا ما بين الشعر والمقالة والترجمة والمباحث التاريخية أيضًا، فإن البعض لا يحلو له إلا تصويره بتلك الصورة الكلاسيكية للشاعر النزق واللاهي والذي استسلم لوهم الخمرة في مضارب الغجر على أطراف المدينة. لكن الشاعر الذي وجد في هؤلاء الغجر صورة إنسانية عفوية، وأحد تجليات الفن الفطري ونموذجًا للظلم البشري عندما تقع تحت طائلته فئة من فئات المجتمع بشكل جماعي، لم يكترث لما روجه عنه أعداؤه وغيرهم ممن ظنوا به الظنون، بل مضى في طريقه الشعري وجوديًا حرًا وشاعرًا مجددًا على طريق الرومانسية العربية، وثائرًا بوجه الظلم والطغيان السياسي والاجتماعي على حد سواء.

          والمطلع على ما ترك عرار وراءه من شعر يدرك بسهولة تميز هذا الشاعر الموهوب، ويتلمس أطراف إبداعاته المتنوعة في كل ما كتب.

          توفي عرار في العام 1949 بعد أن أضاف لمكتبة الأدب العربي عدة عناوين مهمة أشهرها ديوانه «عشيات وادي اليابس»، والذي يعتبر الالتماعة الإبداعية الأهم لأحد أهم صعاليك القرن العشرين.

 

 

سعدية مفرح