مشهد مؤلم اللغة العربية في عصرنا

مشهد مؤلم اللغة العربية في عصرنا

تستحق اللغة العربية منا الكثير، ونحن نعطيها القليل، بل نتهاون حتى في هذا القليل الذي لا يكاد يذكر إذا نظرنا إلى الواجب المطلوب، وإذا قارنّاه باهتمام الأمم بلغاتها، كما سنشير فيما يأتي من قول. 

 

هذا التفريط الواضح وجَّهَني إلى ألا أنصرف في هذه المداخلة الصغيرة لهذا الموضوع المهم إلى تناول قضايا اللغة العربية الداخلية، أي الحديث عنها باعتبارها لغة، تنصرف دراستها إلى البحث في تكوينها وغناها أو مقدرتها على البقاء وتلبية حاجة العصر، أو إمكانات تطورها أو سهولة وصعوبة قواعدها إلى آخر هذه القضايا التي يُعنى بها أهل اللغة ويطلبها دارسو تطورات المجتمعات، أو يعمل لها الباحثون في معطيات اللغة إلى آخر هذه التوجهات، فثمة أقوال كثيرة واجتهادات مثمرة هي حبيسة الأدراج، ظلت في حيز المعلومات أو المحاورات يتبادلها المهتمون في زوايا مَقْصِيّة لا يُسمع لها ولا يُلتفت إليها.
لذلك سينصرف تناولي هذا الموضوع إلى ما هو أهم وسابق على أي قضية أخرى، والنظر إليه باعتباره واجباً ومبرر وجود، وأعني هنا: القيمة العملية. 
فالسؤال الواجب طرحه: هل اللغة العربية لغة متفق على أهميتها أو ضرورتها في حياتنا العلمية؟ وهل تُعامل باعتبارها لغة قومية تلتف الأمة حولها وترى فيها عنواناً لوجودها ووسيلة لتعاملها في الحياة؟
هل اللغة العربية التي نعرفها ونتحدث عنها لها وجود مهم في حياتنا المعاصرة، ومن ثم يكون اهتمامنا بها ينطلق من أهمية هذا الوجود أو الحضور العملي؟
الجواب قد يكون صادماً إذا نظرنا إلى تعاملنا معها وإلى الواقع العملي لهذه اللغة في حياتنا اليومية. 
من هذا المنطلق يأتي مدخلي إلى التحدث عن اللغة العربية فأقول:
أولاً: هي لغة يتيمة الأب 
كما أن الإنسان يحتاج إلى أب فكذلك اللغة، فالأبوة تعنى أشياء كثيرة، فالأب هو الراعي والمخطط والحامي، واللغات كذلك تحتاج إلى مثل هذه الحماية وتعتمد على هذه الرعاية، ومن ثم فلكل لغة مهما تقدمت أو تأخرت رتبتها في مستويات اللغات وأهميتها، فإن وراءها أمة يرتبط وجودها ومصالحها ومسيرة حياتها بهذه اللغة، وترى فيها عنواناً لثقافتها، بل وجودها، وقد شهدنا صراعات مريرة وحروباً لإقرار فئة ما حق لغتها في البقاء والرعاية.

ترسيخ الانتماء
كل تلك اللغات لها آباء، هم رعاتها وحراس يحمونها وعلماء يخدمونها تطويراً وتسهيلاً مع تقديم وسائل تعلّمها المتطورة، وهذه كلها تنتقل من الدراسة النظرية إلى التطبيق والاستفادة العملية المباشرة. ويتجاوز قياس حضورها في المجتمع المحلي إلى السعي لنشرها وتسهيل تعلّمها وبث ثقافتها عالمياً: نعرف المعاهد البريطانية المنتشرة، تدعيماً للغة الإنجليزية، فالإنجليز يرون أن أهم ما قدمته الأمة الإنجليزية للعالم ليس مخترعاتها، وهي من الكثرة بمكان، ولكن هديتها الكبرى التي تعتز بها هي هذه اللغة. إنك إذا رأيت حال اللغات الأخرى من هذا الجانب فستجد أن اللغة الفرنسية - مثلاً - تقف وراءها بشدة وبتعصب حميد الأمة الفرنسية متمثلة في شعبها ودولتها تسخر كل الإمكانات وتخوض المعارك وتبذل الكثير لأجلها. فننظر مثلاً إلى جهودهم في نشرها من خلال معاهد فولتير المشهورة، وللألمان أيضاً، وللهدف نفسه، معهد جوته.
وأنا وأنت نعلم أن اللغة الفارسية وراءها دولة وشعب وعقيدة قومية ترى أن ترسيخ الانتماء لها من خلال هذه اللغة، ولا تسمح بأن ينازعها مكانتها حتى لغة القرآن الكريم التي لها عندهم تقديرها وتقديس كتابها، ولكن هذا لا ينازع اللغة القومية في مكانتها وحمايتها، فهي تأتي أولاً. 
أما قصة اللغة العبرية، التي لم يكن لها وجود عملي، وكانت لغة شبه مندثرة، فاستطاع رعاتها أن ينفخوا فيها الحياة، ويضعوها على سطح الاهتمام. ونتذكر هنا أن من مقررات مؤتمر بازل الواضحة والمحددة كانت متمثلة في دعوة صهيونية صريحة بإدراج اللغة العبرية في قراراتهم، داعين إلى التوحد تحتها واستخدامها لغة رسمية وأساسية، ولا بديل لهم عنها، فبدأت تلك اللغة الميتة بالتنفس لتدب فيها حياة، وكان لها مجمعها العلمي الذي أُسس في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل أول مجمع عربي بأربعة عقود.
في هذا السياق، من الرعاية الأبوية، نجد أن اللغة العربية: لغة تائهة مهجورة؛ ننظر فنجد أن من يعتبرون أنفسهم عرباً، ويضعون في دساتيرهم أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وتضم الجامعة العربية اثنتين وعشرين دولة عربية، ولكن ما الدولة التي يمكن اعتبارها الأب الراعي للغة العربية فعلاً لا قولاً، وتقدم الرعاية التي تحدثنا عنها؟ لا توجد!

واقع مر
يذكرني هذا الواقع المر بقصيدة للشاعر الكويتي محمد المشاري بعنوان «البائسة»، وهي قصيدة رمزية تتحدث فيها أم عن عقوق أبنائها، يصور من خلالها واقعاً سياسياً: 
في ليلة مسفرة السماءْ
تلفها غلالة شهباء
أبصرت في منعطف الطريق
امرأة تفترش الحصباء
جليلةً، مهيبةً، محنيةً من وطأة السنين
من حقب مرت بها بعد حقب
رأيتها تبكي بكاءً خافت الأنين
ووجهها في كفها
تمسح دمعاً فوقه انسكب 
وتمضي الحكاية لتكشف أن هذه المرأة العجوز لا تشكو فقراً، فإن المال عندها «ليس يفنيه اللهب»، ولكن بكاءها لأنها رُزئت في أبنائها الذين حدثتهم عن القيم والحب والنخوة والإباء والحياة والضياء:  
لكنهم - وا أسفاه - أكثرهم غدا 
منحرفاً يخبط في الشقاء
 ........................
وهكذا نبذت في العراء
وحيدة، شريدة، منسية إلا من الهوان والحزن 
كأنني ثكلى بلا أبناء!
وتكشف الحكاية عن مغزاها المباشر. فهذه الأم ليست أُمَّاً حقيقية، ولكنها دالة على فكرة تقول:
فقلت لما هزني الذهول والعجب:
يا أمُّ... مَنْ أنتِ، وما الاسم وما النسب؟
فأجهشت وهي تقول: أمة العرب! 
(أصداء. ص 13، 14)
وهذا التعبير نفسه ينطبق على لغة العرب في زماننا هذا، ففي واقعنا اليومي نصيبها هو النصيب نفسه الذي حظيت به الأمة، فهي لغة مهجورة مقصية، يزداد إقصاؤها مع مطلع كل فجر.
ثانياً: لغة تمت تنحيتها
 يزداد القول وضوحاً حينما تنكشف الحالة التعسة للغة العربية عندما نواجه أنفسنا بالحقيقة الماثلة من خلال سؤال محدد: أي لغة تستطيع أن تستخدمها لقضاء أكثر حاجاتك في مناحي الحياة المختلفة في دولنا العربية الآن، وأستخدم دول الخليج العربي مثالا لقربي منها؛ هل هي اللغة العربية أم الإنجليزية؟ 
ستجد أن الحال تقول لك: إن اللغة الإنجليزية هي الأكثر استخداماً في الأسواق والمستشفيات والشركات، إلخ. وكل تعاملاتك ستكون أسهل وأيسر إذا استخدمت اللغة الإنجليزية حتى في التعاملات اليومية العادية. تشتري شيئاً فيُقدم الإيصال لك باللغة الإنجليزية، تُرسل لك فاتورة، لتعرف من خلالها ما لك وما عليك، فتأتيك باللغة الإنجليزية، تُدخل سيارتك في ورشة وكِيلُها في الكويت، فتأتيك مخاطباته ورسائله التليفونية باللغة الإنجليزية فقط، تحجز موعداً في مستشفى محلي، فيرسل لك تأكيد الموعد بغير اللغة العربية، تدخل مطعماً فيقدم لك قائمة طعامه بغير اللغة العربية إلا في حالات استثنائية تكون هي لغة ثانية بجانب اللغة الإنجليزية.  تجد كل هذا وأكثر وأنت تسير في الشوارع والأسواق، وتدخل المجمعات الضخمة، اسمها المستعمل «المولات»، التي تتلألأ في الأضواء بمسميات المتاجر والدكاكين بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان في لغتنا العربية، ووصل الأمر المتدني إلى مستوى: «كوافير سقراط»!  
أليست هذه المسميات مرت من بوابة وزارة التجارة أو أي جهة مخولة وافقت عليها؟ ألا تعلم تلك الجهات أن ثمة نصاً دستورياً يحدد اللغة التي يجب أن تستعمل في هذا البلد أو ذاك؟
ولو استطردت في العرض لطالت الاستشهادات، ولكن ما ذكرته دالّ على ما أريد قوله، وهو معروف لا يحتاج إلى بيان، فخلاصة القول أنك أينما التفتّ ستجد هذه المحاصرة الضخمة للغة التي نزعم أنها، دستورياً، اللغة الرسمية، ونحن هنا لا نتكلم عن لغة علم أو مصطلحات، ولكن عن لغة الحياة اليومية.
هذا الغزو اللغوي يتحرك في الشوارع بحريّة، بل يحظى بالإعجاب والانبهار، ويرتفع مستوى التبني له حتى يصبح لغة يومية تغلغلت إلى البيوت وبين الآباء والأبناء، فهل يرتجى بعد ذلك نجاح أي إصلاح أو تقويم لمستوى التعامل مع اللغة العربية؟

المزج المضحك
تأتي الخطورة بعد ذلك من التبني الرسمي لهذا التوجه، وهو تبنٍّ يبرز واضحاً في التعليم بكل مستوياته، وهي قصة مؤلمة الخوض فيها يدمي القلب، فتكفي الإشارة إليها فقط لأتجه إلى التبني الآخر لهذا الفساد الذي يبرز جلياً في وسائل الإعلام؛ سواء خاصة أو عامة، فكلاهما اليد الرسمية لها نصيب فيه، فتلمس ذلك التساهل ثم التفريط التام في استخدام اللغة العربية، إذ يبرز التوسع في استخدام اللهجات، وهي عشرات، كل واحد أو واحدة من المذيعين يستظرف نفسه أو يغطي عجزه اللغوي باستخدام «العامية»، ثم تطور الأمر إلى تسلل المفردات غير العربية، ثم بدأ المزج المضحك بين «العامية» والأجنبية، فتسمع كلمتين عاميتين وخمساً أجنبية، وتفرك أذنيك قبل عينيك لتسأل: أي لغة تسمع ومن ثمّ تفهم! 
ولكنك في المقابل إذا تابعت محطات الأمم الأخرى فسترى وتسمع لغات إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية، فإذا هي لغة ذات مستوى واحد محدد، بينما نحن يتقاطر علينا هذا الهجين المشوه. 
أتذكّر حَيْرتي عندما زرت ألمانيا وتجولت فيها منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فقد كنت أقلّب قنوات التلفزيون في فندق مشهور؛ أخبار، منوعات، دراما، فلا أرى إلا اللغة الألمانية، إذ إن كل الأعمال الفنية «مدبلجة»، أو قل «مؤَلْمَنة»، فالأمر واضح، ومادمت بينهم فعليك أن تقبل لغتهم وتتعامل معها، وتستجيب لهذا الاعتزاز باللغة والتحمس عند تلك الأمم التي تحترم نفسها باحترام لغتها. 
كان ابني في مطار إحدى مدن الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية، حيث تكثر الجالية المتحدثة باللغة الإسبانية، وكان من الطبيعي، مادام هو في مطار أمريكي أن يتحدث الإنجليزية، ففوجئ بغضب الموظف الذي اعتقد - من شكله - أنه من أهل اللغة الإسبانية، وسأله:
- لماذا لا تتحدث الإسبانية؟   
الدلالة واضحة على التمسك والحماسة للغة القومية، في مقابل البلادة والتفريط الحاصلين عندنا، فما أسهل أن يهجر العربي لغته من دون أن تهتز منه شعرة، بل ستغمره سعادة وفخر بأن شدقيه يلتويان بلغة أخرى، ولعل أخطر ما نواجهه، وهو أكثر إثارة للسخرية، ما نلاحظه من سلوك لزعماء ومسؤولين رسميين في المحافل المختلفة عندما نرى تسابُقهم، من دون ضرورة أو حاجة، إلى هجر اللغة العربية بكل بساطة وكأن الأمر لا يستدعي التفكير.
وهنا أستحضر موقفاً قرأت عنه يُبين تلك العزة والاعتزاز باللغة القومية التي تصل إلى حد التعصب الحميد، فقد ذُكر أن الزعيمين المتميزين لبريطانيا وفرنسا، تشرشل وديجول، جمعتهما مفاوضات فردية، فجلسا بصحبة مترجميهما وبدأت المفاوضات، وكلُّ مترجم يترجم كلام زعيمه، وكانت المفاجأة هي أن كل واحد من الزعيمين يستوقف مترجمه قائلاً: إنك لم تحسن نقل كلامي، إذ إن كلا منهما يعرف لغة الآخر جيداً، ومن ثم يحكم على دقة الترجمة. وتفاهما بعد ذلك على أن يتخليا عن المترجمين، ويتكلم كل واحد منهما بلغته.   وبغضّ النظر عن صحة هذه الواقعة، فمن المؤكد أن كلا الزعيمين معروف عنهما اعتزازه بلغته، وكلاهما كان بليغاً فيها، يُستشهد بخطبه وتعليقاته الثاقبة. وفي سياق هذا الاستشهاد قرأت من قريب أن إحدى هذه الأمم الحية وجهت لوماً علنياً شديداً لأحد مسؤوليها حينما استخدم غير لغته في مفاوضاته مع الطرف الآخر. 
هذا الاعتزاز اللغوي المفقود عندنا هو منبع الداء ومركزه الأساسي، إذا لم تتم معالجته فكل حديث عن اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم ووعاء حضارة العرب والحبل الوثيق الذي يشدهم إلى بعضهم بعضاً هو لغو لا قيمة له ولن يؤدي إلى أي نتيجة، مثل تراكم معلومات في الرأس لا تنعكس في السلوك والممارسة. 
إذن البدء يأتي من الالتفات إلى معالجة هذا الجانب، وإعطائه الأولوية، وبعدها يأتي أي حديث عن اللغة وأهميتها، ومشكلاتها وحلولها. 

هل ثمة مخرج من هذا المأزق؟
نعم، وهو واضح وضوح الشمس، ومحصن قانونياً، وأعني به تطبيق ما نصت عليه دساتيرنا العربية من أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، ومن ثم التمسك بتحقيق هذا على صعيد الواقع، فمن حق هذه اللغة أن تُستعمل، مثل أي لغة أخرى، في المواقف المختلفة، ومن حق المواطن أن يُخاطب بلغته، وتوثق عقوده بها، وبها يعلّم أبناءه، وتنطق وسائله الإعلامية بها من دون أن تزاحمها لغة أخرى، وبها تسمى متاجر بلده، ولا يتم تجاوز هذا إلا في أضيق الحدود لأسباب علمية أو عملية أو موضوعية.  وأقول مرة أخرى: إنها لغة كريمة تستحق كل ما يبذل من أجلها ■