لغتنا العربية بين الهوية القومية والتنكّر لها

لغتنا العربية  بين الهوية القومية والتنكّر لها

إن الظاهرة التي أشار ابن خلدون إليها في مقدمته، وهي تشبّه المغلوب بالغالب والاقتداء به في جميع أحواله وعوائده، تنطبق اليوم بشدة على كثير من المجتمعات العربية، حيث نجد العرب يرتدون ما يسوّقه الغرب من أزياء، ولو قبيحة ممزقة، ومن أطعمة، ولو ضارة، ويتبعون خلائقه وعاداته الاجتماعية ومدارسه الفكرية والأدبية، ويجد بعضهم مزية في أن يتحدث بلغة غربية ولو مع عربي مثله، وإذا لم يكن يتقن لغة غربية فإنه لا يتوانى عن إقحام بعض الكلمات أو العبارات الغربية في حديثه، ولو بلفظ مغلوط وتعبير سقيم مضحك.

 

إن معظم السائقين وعمّال الفنادق، في بعض الدول العربية، غرباء لا يعرفون غير الإنجليزية، وعناوين المحال التجارية في بعض دولنا عناوين أجنبية، وإذا أراد أحدهم أن يروّج سلعة من صنعه جعل لها اسماً أجنبياً، والمجيبات الآلية للهواتف تحدّثك غالباً باللغة الأجنبية، ولاسيّما الإنجليزية، وعناوين بعض محطات التلفزة وبرامجها أجنبية أو عاميّة، ولا تستخدم الفصحى إلا في قليل من البرامج والصحف المكتوبة، وبعض الأشخاص الأمّيين، بالمعنى الحديث للكلمة، الذين لا تشيع في بيئاتهم العبارات الأجنبية، تراهم يحيّونك أو يشكرونك بكلمات أجنبية لا يحسنون لفظها، ودرجت في إحدى الدول العربية الكبرى عادة تطريز السياسيين والصحفيين وممثلي السينما والمسرح والتلفزة أحاديثهم بكلمات إنجليزية، لا يجيد أكثرهم استعمالها ولا لفظها. حتى في صفوف اللغة والأدب العربي تجد من يحاضر ويناقش بالعاميّة، راطناً بكلمة أجنبية من هنا، وكلمة أجنبية من هناك.
بل إن بعض مؤسساتنا الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية تختصر اسمها بالحروف الأولى من اسمها الأجنبي، لا بالحروف الأولى من اسمها العربي، مع أن مقرّها في بعض البلاد العربية. ولا ينبغي أن يفهم من ملحوظتنا هذه بخساً لنشاط هذه المنظمة أو تلك، لكننا نسجل الظاهرة التغريبية، وآخر ظواهر التغريب المَرضيّ كتابة بعضهم الرسائل والمنشورات والإعلانات بلغة عربية فصيحة أو عامية، بأحرف لاتينية، مع أن الهواتف والحواسيب صارت تسمح بكتابتها بحروف عربية. وحتى النصوص المكتوبة بحروف عربية تكشف مقدار الانحدار في معرفة اللغة العربية، إذ تجد على «فيسبوك» وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، مثلاً، أقوالاً لأساتذة لغة عربية مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية، ولا نتحدث عن المحتوى، فذلك شأن آخر.

وحدة اللغة العربية
ما يعنينا هنا هو اللغة والأدب، ولا شك في أن الانتماء الفكري إلى مدارس الغرب، والشرق الأقصى أحياناً، أضعف الركن الأساسي الذي حفظ اللغة العربية قروناً طويلة، ومازال يجاهد في حفظها بكثير من العناء، وهو كون الدين الإسلامي عربي اللغة، فتراخى الانتماء الديني، لكون الغالب إما على دين آخر أو على فلسفة لا دينية وأفضى إلى تراخي الانتماء اللغوي. وحينما يضعف العامل الموحد للأمة، وهو الدين عند بعضهم، والقومية عند آخرين، يعتلّ العامل المشترك بينهم، وهو اللغة، فيسود الاستعجام من جهة، وتغلب العاميات من جهة أخرى. وقد حصل شبه ذلك عند انهيار الامبراطورية الرومانية، والقياس مع الفرق، إذ اتخذ كل شعب من الشعوب اللاتينية التي استقلت عن تلك الامبراطورية لهجة خاصة من لهجاته لغة رسمية له، فكانت الفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها، على ما هو معروف.
فانهيار الدولة وانقسامها إلى دول عدة يؤديان إلى انقسام لغاتها وتعددها. وشرط اللغة الواحدة وجود دولة واحدة تستعملها، هي أو دولة أو دول تابعة لها سياسياً. فإذا تفرّقت اللغة الواحدة في دول مستقلة شتى، تطورت في كل دولة على حدة بأسلوب خاص ونشأت بين صورها المتعددة فروق ضئيلة أو واسعة، فإنجليزية المملكة المتحدة غير إنجليزية الولايات المتحدة، مثلاً، وفرنسية فرنسا غير فرنسية كندا أو بلجيكا أو سويسرا، إلخ.
لكن اللغة العربية تكاد تكون في هذا استثناء، فهي منتشرة في دول عدة، لكن صورتها واحدة بفضل الإسلام، على ما قدمنا، وبمقدار ما يقوى هذا العامل تشتد آصرة اللغة وتظل موحدة، والعكس صحيح. ولنعترف أن هناك حرباً على العروبية في اتجاهين: الاتجاه الديني بحيث يُعمل على تشويه صورة الإسلام وإظهاره بمظهر الدين المتخلف الكريه، والاتجاه القومي بحيث يعمل على تفريق العرب وإدخال بعضهم في حروب على بعض، وتشويه صورتهم في الخارج، بحيث يبدون متوحشين يشاركون في العصابات والمافيات، ويرتكبون أفعالاً جرمية، ومنع بعض متفوقيهم في العلوم البحتة والتكنولوجيا من بلوغ درجات علمية عليا ما لم يُضمن ولاؤهم للغرب، أو العمل في مؤسساته. وهذه الحرب التي تصحبها حملات إعلامية أجنبية نفسية، منظمة وفاعلة، يساهم فيها بعض العرب عن جهل أحياناً، وعن سوء نية أحياناً أخرى، تؤثر ليس في الرأي العام العالمي فحسب، بل في الرأي العام العربي نفسه، ولاسيما في أوساط الشباب، فينتج عن ذلك استنكار لبعض الأفكار الدينية الإسلامية، وربما للدين الإسلامي كله، وتنكّر للفكر العربي وللغة العربية نفسها، وميل إلى تغيير الانتماء الديني أو اللغوي أو القومي، أي إلى تبديل الهوية.

الهجرة المكانية والنفسية
هذا الواقع النفسي الذي يساعد على زيادة الإيهام به الوضع المأسوي الحالي للبلاد العربية، يوقع كثيراً من العرب في عقدة الدونية، وفي محاولة الهجرة المكانية أو النفسية عن القيم العربية والإسلامية، إلى حيث الأمن والنظام والفكر والحرية والتقدم.
ومن غير المستغرب أن يصاب من يهاجر إلى الغرب، وحتى إلى الشرق المتقدم، ولو عبْر وسائل الثقافة والإعلام، بصدمة الحضارة الباهرة التي يفتقر إليها في بلاده، وأن يندهش - مثلاً - حين يرى رئيس وزراء غربياً يعاقَب بجمع القمامة بسبب تهمة فساد وجهت إليه، ويرى الفساد، في الوقت نفسه، عاماً في بعض البلدان العربية من غير حساب ولا عقاب. هذه الصدمة وتلك الدهشة تحملانه بصورة شبه مؤكدة على التعلق بالغرب والشرق المتقدم وحضارتهما ولغتهما، وتنفّره من المشرق والمغرب العربيين ومن اللغة العربية. ذلك لأن من البواعث على معرفة اللغة واستعمالها الحب والرغبة، إذا صح القول: حب أهلها أو نتاجهم وعبقريتهم والرغبة في الانتساب إليهم أو التمثل بهم أو الإفادة منهم، وهذا ينشئ حباً لتعابير اللغة وإعجاباً بها. وكثير من العرب لم يعودوا يقدّرون أمتهم ولا يؤمنون بقدراتها. ومما يؤكد أثر ذينك الباعثين أن كثيرين تعلموا لغات غير لغتهم من خلال مسلسلات تلفازية تعلّقوا بقصصها وممثليها من غير أن يفكروا في صعوبة اللغة وسهولتها. وكثير من العرب تعلموا لهجات عربية غير لهجتهم، ولاسيما اللهجات المصرية والسورية واللبنانية، لتعلقهم ببعض الأفلام السينمائية أو المسلسلات التلفازية أو الأغاني الجميلة. وكثير من الأطفال تعلموا كلاماً وأغاني بلغة عاملة المنزل الأجنبية الوافدة من بلاد بعيدة لحبّهم لها، وقيامها مقام أمهم أحياناً.
والذين يتحدثون عن صعوبة اللغة العربية وسهولة غيرها، إنما يعبّرون في الحقيقة عن كرههم للواقع السياسي والاجتماعي، وعن حالة الانفصام التي تعيشها بعض المجتمعات العربية، وليس عن حقيقة اللغة، بدليل أنهم قد يحفظون أغنية لشاعر عربي قديم بصوت مغن حديث بسبب حبهم للحنها ولأداء المغني أو المغنية أيضاً، ولا يخطر لهم في هذه الحالة أن يبحثوا في نحو القصيدة أو صرفها، ولا في غريب ألفاظها أو مألوفها. 
وقد يتعلم أحدهم أصعب اللغات الأجنبية ويتقنها إتقان أهلها المجيدين لها وليس المتوسطي المستوى منهم، وذلك لحاجته إلى الدراسة أو العمل في بلادهم التي يُعجب بتفوّقها في العلم أو في الاقتصاد. بل إن من يدرس الأدب الفرنسي في فرنسا نفسها، مثلاً، يُفرض عليه دراسة اللغة الفرنسية القديمة، مع أنها لغة ميتة حقاً، وبالتالي شديدة الصعوبة، فيتعلمها من غير اعتراض. ولعل الأمر قريب من هذا في اللغة الإنجليزية. والفرنسي الذي يقرأ الأدب الكلاسيكي الفرنسي (أدب القرنين السابع عشر والثامن عشر)، يجد قريباً من الصعوبة التي يجدها العربي في فهم أدب قدماء العرب منذ الجاهلية حتى نهاية العصر العباسي. ويجد صعوبة أكبر منها إذا قرأ أدب «النهضة» (أدب القرنين الخامس عشر والسادس عشر)، وأدب ما قبلها. 
لكن الفرنسي يستمتع بأدبه المنتمي إلى تلك العصور، ويبذل الجهد الكافي لفهمه، لاعتزازه بهويته وثقافته، على حين أن كثيراً من العرب يتنكرون لأدبهم القديم ويتأففون منه، وأن عدداً من الدول العربية ألغى أو كاد يلغي دراسة ذلك الأدب في المرحلتين المتوسطة والثانوية، واختصرها في المرحلة الجامعية، قسم اللغة العربية وآدابها.

اللغة رياضة
الخمسون كيلوجراماً وزن ثقيل لا يستطيع أكثرنا حمله، ولكنه خفيف على الربّاع المتمرّس، السعيد بمزاولة التمارين الرياضية، الراغب في بلوغ بطولة محلية أو دولية، المنتشي بتصفيق المشاهدين المعجبين بقوته وتجاوزه للأرقام القياسية، وفق التعبير الرياضي. 
والمشكلة في مَن يتحدثون عن صعوبة اللغة العربية أنهم يريدون حمل مائة كيلوجرام من غير رغبة في أن يبذلوا الجهد المطلوب للقدرة على حملها، بل بشعور فيه احتقار لرياضة رفع الأثقال. هذا لا يعني أن «العربية» حمل ثقيل، بل يعني أن الثقل والخفة نسبيان، وأن الثقيل يصبح خفيفاً بمجرد أن تمارس الرياضة التدريجية الضرورية لحمله، ولا يكون ذلك إلا بوجود الرغبة والصبر، فيُنتقل من الخفيف إلى الأقل خفة، فإلى الأثقل، وهكذا حتى تُبلغ درجة عليا من القدرة على رفع الأثقال.
وأذكر أن أحد أساتذة التجويد القرآني كان يقول لنا ونحن فتيان: «اللفظ رياضة في اللسان والشفتين والحنكين، والإرادة وطول المراس يجعلان هذه الرياضة عادة ومَلَكة، وعندئذ تسهل قراءة القرآن وتجود». ويحسن أن نزيد هنا أن العضلة التي لا تحرّكها تضعف، وربما ماتت، ولهذا كانت الرياضة ضرورية لنماء الجسم، وإذا أنت لم تروّض لغتك ضعفت أو ماتت. والاستعمال، في مختلف المجالات، رياضة للغة ودليل على حياتها ووجودها، سواء في ذلك الكلام اليوميّ أو الكتابة أو التأليف في الأدب والعلم والفلسفة والفنّ.
و«العربية» لا تكاد ترتاض اليوم إلا في المكتوب - وهو في زمننا عليل وتغزوه العجمة- وفي قليل من الشفهيّ، مع أن اللغة كلام شفهيّ قبل أن تكون كلاماً مكتوباً، ولا تُتعلّم اللغة إلا بالحديث، فقد يكون أحدنا متقناً للغةٍ من اللغات كتابة ونحواً، لكنه يجد نفسه غريباً عنها حين يقيم في بلد أصحابها، ولا يعدّ نفسه متقناً لها إلا بعد أن يعيشها مع أهلها حديثاً وكتابة. ومن هنا غربة أكثرنا عن العربية، فنحن قلّما نتكلّمها، بل نتكلّم بعض فروعها، أي اللهجات. وليس مطلوباً الحديث بالفصحى في الشارع، وملعب المدرسة، والمحال التجارية، وما أشبه ذلك، بل يكفي أن يجري ذلك في قاعات المؤسسات التعليمية والعلمية، وفي وسائل الإعلام.
ولا يمكن إتقان اللغة بالتمني والنظر إليها من خارجها وكأنها كائن غريب، أو آلة تبلى بالاستعمال الطويل، بل لابد لإتقانها من عيشها وحبها، واعتبارها جزءاً من شخصية متكلمها أو المنشئ بها، ولابد من عدّ استعمالها الطويل صاقلاً لها ومجدداً لألقها، لا متلفاً لها، كالجوهرة التي يجلوها الصائغ فتلتمع بين يديه. إن الزوجين اللذين لا مودة بينهما قلّما يسعدان في الحياة الزوجية أو يلدان ذرية سوية.

الحياة والموت حالتان بشريتان لا لغويتان
عقدة الدونية تبعث بعضهم على اتهام اللغة العربية بالعجز عن مواكبة علوم العصر وتكنولوجيّاته، ولاسيما في التعبير عن الأفكار العلمية، وهذا اتهام غير علميّ، فليس من لغة عاجزة أو قادرة، بل ثمة أمة عاجزة عن تطويع لغتها للقضايا العلمية والتكنولوجية، والمصطلحات التي تقتضيها، أو قادرة على ذلك. 
والدليل على هذا الأمر لهجات الشعوب اللاتينية التي أومأنا إليها منذ قليل، فقد كانت اللاتينية هي لغة العلم والأدب والفكر في البلاد الخاضعة للإمبراطورية الرومانية، ولم يكن لتلك اللهجات الشعبية محل في المؤسسات العلمية والتعليمية، فلما استقلت تلك الشعوب وصارت دولاً قوية وأحلت لهجاتها محل اللاتينية، صارت تلك اللهجات لغات قومية، وسادت في المؤسسات، واستطاعت التعبير بفصاحة عن الأدب والفكر والعلم في أرقى مستوياته. والترجمة العلمية بين أمّتين نِديتين أو متقاربتين في القوة، أمر طبيعي يفيد في تقدّم العلم، لكنه بين أمة ضعيفة متخلّفة وأمّة قوية يبدو كصعود السلّم بعكّازتين. فمهما بلغت العكازتان من الصلابة فإنهما لن تسهّلا الصعود، وربّما أدّتا إلى السقوط. وهذا شأن العرب اليوم مع الأمم المتقدمة.
وأقول أكثر من ذلك: ليس من لغات أو كلمات حيّة ولغات ميتة أو كلمات مماتة، بل هناك لغات وكلمات لايزال مستعملوها أحياء، ولغات وكلمات مات مستعملوها.
اللغات لا تعيش ولا تموت، بل المستعمل هو الذي يقع عليه حال الحياة أو حال الموت. وحين تتوقف الأمة عن استعمال لغتها كليّة تصبح لغتها لغة الأجيال الماضية، أي لغة الأموات. واللغة التي يتوقف استعمالها في ميدان من الميادين هي لغة الأموات الذين كانوا يعملون في ذلك الميدان.
إن المجامع ومراكز الأبحاث والمنظمات الثقافية والعلمية لا تحيي لغة أو تمنع موتها، بل تكون صدى للأموات أو للأحياء من أهل اللغة، فإذا كانت الأم حية نشطة في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والعلمية والتكنولوجية، وعملت تلك المؤسسات على دراسة نتاجها، وابتكرت لها المصطلحات التي تلبي حاجاتها على مختلف الصعد، كان عملها صدى للحياة، أما إذا غلب على تلك المؤسسات دراسة النصوص القديمة، كان عملها أشبه بزيارة القبور، وأما إذا انصبّ جهدها على دراسة نتاج الأمم الأخرى وترجمة مصطلحاتها، كان عملها مجرد صدى للحياة لا الحياة نفسها.

اللغة مرآة قوة الأمة وضعفها
اللغة مرآة للأمة التي تتكلم بها، فهذه فرنسا - مثلاً - دولة قوية مستقرة مستقلّة، نسبياً، وتملك قرارها، وتعتز بلغتها وحضارتها، فلغتها كصورتها، لكنها بدأت تتراجع أمام الزحف الأمريكي، وأخذت لغتها تتراجع أمام اللغة الإنجليزية، واضطرت هي نفسها إلى استعمال «الإنجليزية الأمريكية» في الكليات العلمية والصناعية، لأن أمريكا صارت القوة العظمى، ولأن سلطتها المنبسطة حتى على مستعمراتها غير المباشرة، كاليابان وكوريا، فرضت على الناس تعلّم إنجليزيتها هي، لا إنجليزية المملكة المتحدة، ولاسيما عند استعمال الحاسوب وما يتصل به، وما يتعلق بالاختراعات الحديثة والاكتشافات العلميّة. إنه الواقع السياسي الذي فرض الواقع اللغوي. فما بالك بدول عربية قلّما تملك قرارها، وتكاد تنسلخ من هويتها، وتتنكر للغتها، ويقاتل بعضها بعضاً؟
إننا نظلم المؤسسات العلمية، ولاسيما المجامع حين نوكل إليها وحدها مهمة النهوض باللغة. إذ من الصعب أن تستعيد اللغة العربية عافيتها، وتسترد عزتها قبل أن يُكتب للعرب الاستقرار وحريّة القرار، والإحساس بالقيمة الذاتية والحضاريّة للأمة العربية، أي حين يؤمن العرب بهويتهم اللغوية والحضارية، ويدافعون عنها، ويعملون على ترسيخها، لا على تجاهلها وإنكارها، كما فعل بعض دعاة العولمة، أي حين تعود العروبية أيديولوجيّة راسخة تعتنقها الأمة بصدق، لا مجرّد كلمة تسجّل في الدساتير وبطاقات الهوية وجوازات سفر. 
وقد يبلغ العرب ذلك حين يخرجون من الجحيم الذين زُجّوا فيه (ولنلحظ أن كلمة جحيم من أصل عِبري)، ويعودون أمة واحدة في الفكر واللغة والقوة العسكرية التي تحمي الشعب والفكر معاً، والتي تكون في خدمة الأمة لا في موقع التسلط عليها. فالتطور السياسي الإيجابي شرط أساسي للنهوض باللغة العربية، ومتى استقلّ العرب سياسة وفكراً وأدباً، وأتيح لهم أن ينتجوا بحريّة، من غير تقييد لحقول إنتاجهم، كما يحصل اليوم، إذ يحظر عليهم حتى مجرّد التفكير في بعض الاختصاصات العلمية، فكيف بالإنتاج فيها؛ حينئذ لا يعود تنظيم المجامع اللغوية ومراكز الدراسات والأبحاث، وسائر المؤسسات العلمية والتربوية همّاً، ولا يعود الحديث عن التبسيط اللغوي ضرورة، لأن الحالة الصحية للأمّة تنتج لغة صحيحة، وقواعد سلسة مفهومة، لأنّها تأتي عفو التجربة والعمل والإنتاج.
هذا لا يعني الاستسلام لليأس، والتوقف عن الإبداع والنشاط العلمي، وإغلاق مجامع اللغة والمؤسسات العلمية الشبيهة بها أو المكملة لها، فهذا أشبه بالاحتضار. بل على الأمة أن تستمر في الإنتاج جهد طاقتها، مهما كان إنتاجها متواضعاً، ومهما أصاب بعضه من عيوب، على أن تنشر الوعي العام، في الوقت نفسه، بضرورة ترميم الذات العربية، وعلاج عللها، واستعادة العوامل القادرة على بنائها من جديد بناء صحياً قوياً، بريئاً من عقدة الدونية، وجديراً بحمل الرسالة الحضارية العربية، والارتقاء بها، واستعادة الثقة بهويتها ومقامها العالي، وإعادة الاعتبار إلى اللغة بوصفها جامعاً بين البلاد العربية، ومادة حية للتعبير عن فكر العرب وأدبهم وعلمهم ■