مستقبل لغة الضاد «مجتمع المعرفة» ورهان الوحدة

مستقبل لغة الضاد «مجتمع المعرفة» ورهان الوحدة

إن مواجهة مسلسل التحولات الكونية في مجال اللغة والهوية الإنسانية تفرض علينا «فهم» طبيعة مجتمع المعرفة المسؤول عن الوضعية الراهنة للغة، بغية تشخيص مكامن الخلل، لكن أيضاً لنشعر بأن اللغة منتج أساسي للفعاليات العلمية، والفكرية، والسياسية والثقافية العالمية، وندرك جيداً أننا فاعلون في الأزمة التي تعانيها لغتنا العربية، ومسؤولون عن التحولات والتغيرات التي تشهدها. 

 

بمعنى آخر، إن هذه التغيرات تؤثر في تطور مجتمعنا المعرفي كما في رهان وحدتنا العربية. إننا في حاجة ماسة إلى مقاربة متداخلة ومتعددة التخصصات لفهم عمق الأزمة التي تعانيها اللغة العربية في ظل العولمة، وإلى تجديد الحوار بين السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، الفلسفة، العلوم النفسية، اللسانيات، بغية دراسة واقع اللغة العربية اليوم كحقل ممكنات استراتيجية مفرغ من الفعالية الثقافية والتاريخية والإنتاجية العلمية والفكرية.
أولاً: في «معجزة» العربية
اللغة مشتقّةٌ من فعل «لغا»، «يلغو»، ومنها اللّغو، أي كثرة الكلام وقلّة المعنى. وقد أصبح سائداً بمعنى «اللسان»، وهو اللفظ الذي يعادل كلمة Langue التي تعني أيضاً اللسان. وفي علوم اللغة أصبح الشائع هو «اللسانيات»، وليس اللغويّات.
إن اللغة أسبق عن الوجود، حيث يعتبرها هايدجر منزل الوجود، فاللغة توجد أولاً ثمّ يسكن الوجود فيها، وهي المعركة التي دارت في الفلسفة الغربية بين الفلسفة الحديثة، حيث تسبق الماهية الوجود، والماهيّة هي الفكر أو الوعي، أو بالتعبير الديكارتي «الكوجيتو»؛ والفلسفة المعاصرة التي يسبق فيها الوجود الماهيّة. 
شكلت اللغة العربية مدخلاً أساسياً من مدخلات التكامل الثقافي والتاريخي للإنسان العربي، ومظهراً من مظاهر الهوية والانتماء إلى العروبة والقومية القطرية، منذ مئات السنين، كما أنها أضحت إرثاً حضارياً وتراثاً عالمياً يعبّر عن التعايش والتآخي والانتماء المشترك لملايين العرب لقرون طويلة.
ويعتبر القرآن الكريم أهم إشارة إلى «العربية»، باعتباره النصّ الدينيّ الوحيد الذي يُعلن جهاراً ارتباطه الوثيق بلغةٍ محدَّدة، ذلك أنّ اللفظ «عربيّ» ورد فيه إحدى عشرة مرّة، كلّها من دون استثناء صفة للكتاب نفسِه، أو للّسان الذي نزل به:
ورد لفظ «اللّغو» في القرآن الكريم 11 مرة بثلاثة معان. الأوّل تشويه الكلام، مثل اللغو في القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تسْمَعُوا لهَذاً الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (سورة فصلت - الآية 26) بقصد التشويه، وكذلك اللغو في الإيمان، أيْ الكلام الذي لا معنى له {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ} (سورة البقرة - الآية 225)، وبمعنى النميمة في الإعراض عن اللّغو {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} (سورة المؤمنون - الآية 3)، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (سورة الفرقان - الآية 72)، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (سورة القصص - الآية 55)، وفي صورة الجنّة التي لا يُسمع فيها لغو {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} (سورة الواقعة - الآية 25) يعادل اللّغو الإثم والكذب.
وورد لفظ «لسان» في القرآن الكريم 25 مرة. أكثرها بمعنى الكذب (9 مرّات)، ومعه الصدق (مرتان). ثم الفصاحة والعي (8 مرّات)، ثم لسان القوم (5 مرّات)، واللسان عربي {لِتَكُونَ مِنَ المٌنَذِرِين بِلِسَان عَربيَ مُبِين} (سورة الشعراء - الآيتان 194-195) حتى يتحقق الإنذار، وعلى الرغم من أنه لسان عربي، فإنه مصدّق لما جاء قبله بالعبرية والآرامية {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وبُشرَى للمُحسِنيِن} (سورة الأحقاف - من الآية 12).
وكل نبي أرسل بلسان قومه كي يكون أكثر تأثيراً {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَين لَهُم} (سورة إبراهيم - الآية 4). ولما كانت الأقوام مختلفة، فالألسنة مختلفة {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ والأَرْضْ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (سورة الروم - الآية 22). واللسان هو البلاغة والفصاحة والطلاقة مثل موسى مع هارون {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} (سورة القصص - الآية 34)، من دون تعجل {لا تُحَرِكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (سورة القيامة - الآية 16). ومن دون تلعثم {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} (سورة طه - الآية 27)، {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَاني} (سورة الشعراء - الآية 13). وينشأ التلعثم من الخوف {فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (سورة الأحزاب - الآية 19)، واللسان هو القول الصادق {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (سورة مريم - الآية 50)، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ} (سورة الشعراء - الآية 84)، ونقيضه هو القول الكاذب {لِتَفْترُوا عَلَى الله الْكَذِبَ} (سورة النحل - من الآية 116)، {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَاب} (سورة آل عمران - من الآية 78)، {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} (سورة النساء - من الآية 46)، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} (سورة النحل - من الآية 62). 
ويلقي اللسان بالسوء {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} (سورة الممتحنة - من الآية 2). ويعبّر عما ليس في القلب وهو طريق النفاق. واللسان يعبّر عما في القلب كجزء من وحدة الوعي الذاتي العقلي، العقل، واللسان والفعل {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} (سورة الفتح - من الآية 11)، {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} (سورة الممتحنة - من الآية 2)، {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} (سورة النّحل - من الآية 62)، {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (سورة النّور - من الآية 15). واللسان شاهد {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْن} (سورة البلد - الآية 11)، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُم} (سورة النور - من الآية 24).

علاقة اللغة بالإنسان
إن العربي يحب لغته لدرجة التقديس، وهو يعتبرها السلطة التي لها عليه تأثير ليس فقط عن قوتها، بل عن قوته أيضاً، لذلك يظل البحث في المسألة اللغوية من هذا المنظور بحثاً في علاقة اللغة بالإنسان، وهو بحث في أصول الفكر، ومرجعيات المفكرين، إنه نقد للأوضاع، بل نقد لوصف تلك الأوضاع، لأن كل منظومة لغوية هي انعكاس لمنظومة فكر المتكلمين بها وثقافتهم وتصوراتهم. لذلك فالمسألة اللغوية مسألة أبستيمولوجية في نظامها وآلياتها، وقضية سوسيولوجية في رهاناتها ومحركاتها.
لكن برغم الأهمية التي تحتلها اللغة في الثقافة العربية والدين الإسلامي، فإن أمر اللُّغة عند العرب عجيبٌ، وأعجبُ منه أمرُ العرب مع لغتهم. وبوسعك أن تجزم بأنهم يستثيرون من الاستغراب ما لا تستثيره أمّة من الأمم، وكثيراً ما يحار المتأمل بفكر خالص كيف يُصار بالخيارات الجوهريّة في الحياة الجماعية إلى مثل هذه الأوضاع التي كأنما يتحوّل فيها الفاعل عدو نفسه. والأكثر وجعاً أنّ أصحاب القرار يتبنّون خطاباً عن المسألة اللُّغوية، يستوفي كل أشراط الوعي الحضاريّ، ثمّ يأتون سلوكاً يجسّم الفجوة المُفزعة بين الذي يفعلونه، والذي قالوه.
ثمّ يزداد المثقف ألماً حين يعلم علم اليقين أنّ الحقائق العلميّة ليس لها لدى ساسة العرب من الوزن ما لها لدى ساسة العالم المتطوّر. 
يمكن أن نحمّل العولمة مسؤولية جزئية عن أزمة اللغة بالعالم العربي، لكن يجب أن نعي كفاعلين في الحقل اللغوي والفكري أننا أمام مرحلة حاسمة من تاريخ العربية، حيث يستوجب علينا دعم مختلف الاستراتيجيات الفكرية والسياسية الرامية إلى تنمية اللغة، والتأسيس لمجتمع معرفة عربي يدعم الفكر العلمي الحر، ويحافظ على اللغة والهوية العربية ويضمن استمرارها في الزمان والمكان في إطار بنود المشروع النهضوي.
ثانياً: اللغة العربية والبحث العلمي ومجتمع المعرفة
إن التحدي الذي تواجهه اللغة العلمية بالعالم العربي هو الاعتماد المتزايد على اللغة الإنجليزية أو الأجنبية عموماً، ليس كلغة ثانية مهمة، ولكن كوسيط رئيس للتدريس في المدارس والجامعات. ومن ثمّ أصبح التعليم على هذا النحو آلية لتجزئة أنظمة التعليم العربية، وخلق التباينات داخله.
وتنتقل التجزئة والتباينات من نظام التعليم إلى عالم العمل عندما يتم التمييز لمصلحة فئة من الخريجين تعلّموا بغير لغتهم الأصلية، ضد فئة أخرى تعلمت بلغتها الأم! 
والفشل في إضفاء الاعتبار والمكانة المناسبة للغة العربية الأم، يمكن أن يقود إلى فقدان الشباب العربي هويته واحترامه للغته وثقافته وانتماءه الوطني والقومي، بل يمكن أن يؤدي إلى طمس الوظيفة العلمية للعربية كمحرك لمجتمع المعرفة المعاصر لمصلحة اللغات الأجنبية كـ «الإنجليزية والفرنسية»، في ظل غياب استراتيجية عربية مندمجة وتنموية - على المستوى العملي - للرقي بوضع اللغة العربية وتشجيع مخططات البحث العلمي (ضمن الثقافات الثلاث)، في إطار مواكبة مستجدات العصر والحفاظ على الخصوصيات المحلية بالشكل الذي يضمن التعدد اللغوي ويحافظ على وحدة اللغة.
وقد أصبحت اللغة الإنجليزية اليوم لغة العلم والثقافة بامتياز، حيث استطاعت منذ ستينيات القرن الماضي أن تهيمن بشكل واضح على مختلف الفروع المعرفية، فأكثر من ثلثي الإنتاج العالمي في العلوم الحقة ينتج باللغة الإنجليزية، في ظل غياب كلي للغة العربية ضمن مختلف الفهارس العالمية المصنفة؛ سواء كمّاً أو كيفاً، بل حتى مع تراجع للغات ظلت مهيمنة على ساحة المعرفة العالمية خلال نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (الفرنسية والإسبانية). فلنتأمل الإحصاءات التالية وندرك الخطر الذي تواجهه اللغة العربية:
خلال سنة 2014، سجلت 92.2 في المائة من طلبات البراءات الدولية بعشر لغات فقط، مع نسبة 51 في المائة باللغة الإنجليزية في ظل غياب كلي للغة العربية.  
تفوق الميزانية المخصصة للبحث العلمي بالولايات المتحدة الأمريكية 359.9 تريليون دولار مقابل 51.1  تريليوناً لليابان (أكثر من سبعة أضعاف). 
ومن حيث النتائج تظل الهوة بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم واسعة جداً. في سنة 2001 نشر العلماء والباحثون في العلوم الاجتماعية الأمريكيون 200870 ورقة في «الدوريات الكبرى»، تليها اليابان 57420 ورقة؛ المملكة المتحدة 47660؛ ألمانيا 43623؛ فرنسا 31317؛ والصين 20978.
وعندما يتعلق الأمر بكبار الباحثين نجد الولايات المتحدة تملك 3835، متفوقة بثمانية أضعاف على المملكة المتحدة التي تحتل المرتبة الثانية. وقد أنتجت الولايات المتحدة حوالي ثلث المواد العلمية العالمية خلال عام 2001 بنسبة 44 في المائة من الاستشهادات.
ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق بمسألة الحظوة، لكن علماء الاجتماع الأمريكيين يميلون إلى الاعتماد على بعضهم البعض. وتستند هذه الأرقام إلى افتراضات اعتباطية، ولكنها؛ مع ذلك؛ أساسية لتحديد المجال العلمي، توزيع المكافآت، أشكال الاعتراف، قواعد المنافسة ورهانات الصراع.
وبالنسبة إلى دول العالم العربي، تنتج مختبرات الجامعات اليوم نحو 80 في المائة من الأبحاث العلمية؛ مما يجعل من الجامعة العربية عنصراً أساسياً في أيّ سياسةٍ تنموية أو إنتاجية أو تنافسية، ويستفيد البحث العلمي في العالم العربي من رمزية الدعم الشفوي للحكومات، لكنه يبقى من دون تطلعات المجتمع نظراً إلى قلة الإمكانات المرصودة له، الأمر الذي يجعل البحث العلمي العربي بالجامعات يحتل مراتب متأخرة جداً في سلّم التصنيفات الدولية، على سبيل المثال، ومقارنة مع نسب الإنتاج القومي الخام المخصصة للبحث العلمي سنة 2007 في الغرب (1.7 في المائة في المملكة المتحدة و1.2 في المائة في الاتحاد الأوربي) تبقى النسب العربية متواضعة، حيث نجد على رأس القائمة العربية 1.02 في المائة بتونس، ثم 0.64 في المغرب، و0.50 في الأردن، وفي نهاية اللائحة الكويت 0.02 والمملكة العربية السعودية  0.03 والبحرين 0.04. 
ومن ناحية الإنتاج العلمي في العلوم الحقة، تصنف مصر، الناشر العربي الأول، في المرتبة الـ32 عالمياً بـ 24.829 مقالة، والسعودية في المرتبة الـ43 بـ15.144 مقالة، ثم تونس في المرتبة الـ 45 بـ11.781 مقالة، لكن فيما يتعلق بالنشر في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية فنجد غياباً كلياً لمجلات عربية مصنفة ضمن الفهارس العالمية مثل Scopus وWeb of Science، بل إن كثيراً من الدوريات العربية لا ترقى إلى مستوى التصنيف الممتاز A أو A+.
وإذا استثنينا مجلات العلوم الإنسانية والاجتماعية الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فسنجد أن أغلب الدوريات والمجلات المحكّمة الجامعية والبحثية تقبع ضمن التصنيف البطيء C، وفي أحسن الأحوال التصنيف المتوسط B، الأمر الذي يجعلنا أمام أزمة «كم»، وبشكل خاص «أزمة كيف» ضمن البحوث العلمية الصادرة بالعربية.
وفي ارتباط بموقع الباحثين الاجتماعيين العرب ضمن هذا التصنيف، وجد ساري حنفي أن هناك غياباً للحوار/ النقاش المتصل بهذه القضية بالمشرق العربي، وهناك عدم توازن بين المقالات/ الكتب المهنية المنشورة، والمقالات الصحفية والتقارير غير المنشورة في مائتين وثلاث سير ذاتية لعلماء اجتماع بالعالم العربي، في التركيز على نوع واحد وغياب النقاش الناجم عن غياب «الجماعات العلمية». 
وخلص إلى نتيجتين أساسيتين: 
- ضعف البحوث العامة في كل أنحاء الوطن العربي، وإن كان ذلك لا ينطبق على حالة المشرق العربي بشكل خاص.
- ليست هناك صلة بين أنواع البحوث الأربعة هذه في المشرق العربي، بينما نجد أن الوضع «صحي» أكثر في الدول العربية الفرانكوفونية، حيث نلحظ توازناً وتداخلاً بين أنواع البحوث الأربعة، وحيث مقدار البحوث المهنية في المنطقة الأخيرة مؤشر جيد على وضع أكثر صحية هناك.
ثالثاً: تنمية اللغة باب الوحدة العربية
أمام هذه التحديات التي تواجه مستقبل اللغة العربية، يمكن أن نخلص إلى كون هذه الأخيرة في حاجة ماسة إلى استراتيجية ومشروع وحدوي وتنموي واضح المعالم كي تستطيع الحفاظ على بقائها، واستمرارها وعطائها، وإسهامها في التطور الثقافي والحضاري، وضمان التنافسية في حقل العلوم والمعارف الإنسانية والبحتة، في أفق جعل العربية لغة مركزية ضمن حقل المعارف العالمية.
إن تنمية اللغة تكمن في عدم الفصل بين النظر العقلي والتنظير والفعل والممارسة، حيث يصبح الربط بين اللغة والثقافة والتقنيات الحديثة والتطور الحضاري والتنمية أمراً سلساً وضرورياً، فلا يمكن التعبير عن الأدوات التقنية إلا من خلال لغة مؤهلة محسوبة، قادرة على تنمية الوعي القومي العربي بأهمية وضرورة تنمية وعي الوحدة العربية وتطوير وحدة الوعي العربي.    
ينبع رهان تنمية الوحدة العربية من مبدأ أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد في كونيته الثقافية، لابد له أن يضمن مشروعاً لغوياً بلا تشكيك ولا ارتياب. 
فاللغة هي الحامل الأكبر للمنتج الثقافي، وهي الجسر الأعظم للمسوق الإعلامي، وهي السيف الأمضى في الاختراق النفسي، وعليها مدار كل تسلل أيديولوجي أو اندساس حضاري، وهو الأمر الذي يجعل اللغة العربية مدعوة إلى الحفاظ على عبقها التاريخي ومواكبة التحولات الكونية بما يخدم وحدة الكيان العربي وتنمية المشروع النهضوي العربي، في ظل عصر أصبح فيه التكتل اللغوي والثقافي خياراً استراتيجياً لمواجهة العولمة النيوليبرالية.
وأمام هيمنة اللغة الإنجليزية وضعف الإنتاج العلمي باللغة العربية، فإن مستقبل العربية بالعالم العربي رهين بتنمية الإنتاج المعرفي وتوسيع نطاق اللغة العلمية، ولاسيما التقنية، ودمج الكلمات المقترضة من اللغات الأجنبية، في مجرى اللغة الوطنية والقومية.
وهذان السبيلان، إضافة إلى أنهما ينتجان مزيداً من التفاضل اللغوي، يقدمان شكلين من القدرة اللغوية في آن واحد؛ قدرة متزايدة للغة العربية في التلقي والتكيف، وأخرى متنامية للعربية لتكون أكثر مانحة. 
وتسهم اللغة القطْرية والوحدوية في حماية الإرث التاريخي والحضاري العربي في وجه مختلف مظاهر التعصب والتطرف اللغوي. ونجد ما يمثل هذا السيناريو في المغرب، حيث توجد أقلية أمازيغية (من بين الأمازيغ) تستعمل حركاتها المتطرفة وسائل الابتزاز والضغط والتحريض، من أجل فرض خططها، ومحاولة تفكيك تماسك الوطن لمصلحة مزاعمها الأسطورية. 
نحن لا نشكك في الدور التاريخي والاجتماعي للأمازيغ في تحقيق التماسك المغربي، المغاربي والعربي، ولطالما عشنا موحدين تحت لواء الدولة الوطنية والقومية، ولا يمكن أن نسمح لبعض المزاعم الخرافية والأسطورية أو حتى الإثنية بأن تعرقل مسار بناء الوحدة العربية وتنمية وحدة الوعي العربي، أو أن تنازعنا حركات متطرفة في عروبتنا وقوميتنا النهضوية. لذلك ستكون اللغة العربية سنداً قوياً لتجاوز كل التحديات التي تواجه تماسك الجسم العربي في إطار التعدد الثقافي والإثني ووحدة اللغة العربية.
وكان العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني، قد أوصى في أواخر أيامه باللغة العربية خيراً، وأنكر أن يكون قد فكّر يوماً في إضعافها أو إقبارِها؛ بل إنّه أمر بإدخال الإنجليزيّة منذ الطّور الثاني في التعليم الابتدائي، كما أمر بإدراج العربيّة في تعليم المواد العلمية بالتعليم العالي، في إطار سعى حثيث نحو دعم فكرة الوحدة القومية العربية لمواجهة عوائق التنمية الثقافية، الاقتصادية والسياسية. 
إن وحدة العربية وانفلاتها من إغراءات الإثنيات المحلية هما الرهان الذي وجب على الباحثين وصناع القرار السياسي استحضارهما في سياق تنمية وعي الوحدة العربية وتطوير وحدة الوعي العربي.
رابعاً: المقترحات والتوصيات
-التشبث العربي بالثوابت الحضارية القومية، المتجلية في الحفاظ على الوحدة اللغوية كتجلي للهوية، والوعي النهضوي، وعدم الانسياق وراء إغراءات اللغات القومية الأخرى (الإنجليزية، الفرنسية...)، والبحث عن تحقيق التكامل المحلي الضامن لتعدد الثقافات الفرعية ووحدة اللغة والثقافة العربية في مواجهة النيوليبرالية.
-مواجهة التهديدات الثقافية واللغوية، وعلى رأسها خطر خصخصة وعولمة نظم التربية والتعليم العربي، الأمر الذي يفقد معه الجيل الناشئ عروبته وهويته القومية وكرامته الأممية، مما يهدد تفعيل المقتضيات التنموية والثقافية للمشروع النهضوي العربي.
-بناء القدرة الذاتية للدفاع عن الهوية واللغة العربية، فلا يمكن حماية المشروع النهضوي والاستقلال السوسيو-سياسي والثقافي العربي من دون تطوير استراتيجيات ذاتية: دفاعية وتنموية وعلمية وتقنية.
إننا في حاجة إلى انتهاج استراتيجية لغوية تستهدف الاستخدام الأمثل للموارد والقدرات المتاحة بشكل منهجي ومدروس، وتجنيدها في سياسات تنموية لغوية وعلمية قادرة على توفير أجوبة الرقي بالمجال المعرفي وتغذية التنمية الاقتصادية.   
-إقامة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربي، يحفظ الهوية العربية من جهة، ومن جهة أخرى يقوم على أساس شراكة قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني. إن الحاجة أضحت ماسة إلى قيام سلطة تعليمية فوق –قطرية فعالة على الصعيد العربي. وسوف يكون من المهام الأولى لهذه السلطة مواجهة الاختراقات الأجنبية لمنظومة التعليم التي تتوارى من خلالها اللغة العربية، وتفرض قيماً مجتمعية غريبة على المجتمعات العربية. 
-تنمية استراتيجية تطوير اللغة ضمن الدولة القومية الاتحادية، عبر تجاوز منزلقات الدولة القومية الاندماجية، والتي قد تسهم في الإلغاء النسبي أو الكلي للكيانات الموضوعية القطرية، وتعويضها بالقومية والاتحادية التي تتكفل بحماية اللغة والهوية على المستويين المحلي والعربي.   
-في ظل التحولات والتغيرات السياسية والاجتماعية، والتفتت والصراعات التي تعرفها المنطقة العربية، وجب الحرص على تبني وعي لغوي قومي من طرف مختلف الفاعلين، يتم بموجبه التركيز على تعلّم اللغة العربية بوصفها مدخلاً للتربية على القيم، وغرس أسس العروبة والهوية القومية، وتنمية المقومات المركزية للمشروع النهضوي لدى العموم.
-تشجيع الترجمة وحركة التعريب في مختلف الحقول المعرفية والحفاظ على أصالة اللغة العربية/ الأم، مع تجديدها بما يخدم رهانات العصر ويحافظ على الهوية القومية والوحدوية. 
-تشجيع الجامعات والمختبرات والمراكز البحثية والباحثين - خاصة الشباب - المهتمين بحقل اللغة العربية، وتجديد الحوار بين مختلف العلوم والتخصصات، بغية الدفع بقاطرة التنمية اللغوية والحرص على تنمية مجتمع معرفة عربي ذي أسس ومرجعيات قومية/ وحدوية/ اتحادية/ نهضوية تخدم رهان وحدة الوعي العربي ووعي الوحدة العربية ■