قراءة في رواية «الحفرة» للروسي بلاتونوف

قراءة في رواية «الحفرة»  للروسي بلاتونوف

يمكن أن يتأخر اكتشاف أحد الكتّاب حفنة من الأعوام أو ما يزيد على عقود عدة ربما، غير أنه ينبغي للإجحاف الزمني في حق كتّاب من هذا الطراز ألا يؤثر في مقاربتنا لمواقعهم في رفوف المكتبة الأدبية العالمية. أندريه بلاتونوف واحد من هذه الأسماء التي احتكرتها الظلمات إلى زمن قريب جداً، فظلّ يراوح في التخوم ويقيم في مطرح لا يصل إليه الضوء مثلما يجب.


ها نحن اليوم إزاء رواية «الحُفرة» التي تعد جديد الكاتب بلاتونوف بـ «العربية»، وقديمه في لغته الأم الروسية، ها هنا رواية صدرت منذ عقود وخصّت صوتاً تأليفياً روسياً سمّاه ستالين «الكاتب الخبيث»، في حين اقترح غوركي أن تُترك تأملاته جانباً للمستقبل فحسب، هرباً من سوداويتها الطافقة. وإذا كانت هوية بلاتونوف ظلت من بين الأقل شيوعاً خارج حدود بلاده في وسط أقرانه الروس، فإن هذا الواقع سرى على العالمين الأنجلوساكسوني والفرانكوفوني وسواهما من القارات الأدبية، ولم يختزل بمنطق جغرافي أو معيار إثني.
لكن ها نحن اليوم قبالة منجز مضيء وثوري ورؤيوي وإزاء صوت مسموع في الآداب الروسية كان معارضاً من الرعيل الأول، وأحد المنبوذين خلال المرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. خلال فترة طويلة جرت التضحية بموهبة بلاتونوف على مذبح السياسة، والحال أن هبته التأليفية انتظرت الكشف عن محفوظات الاستخبارات السوفييتية لتستعيد مكانها المستحق، وبغية أن يجري إخراجها من المطهر القسري. ها نحن نستطيع أخيراً أن نتورط في تلك المغامرة الأدبية التي كرّسها بلاتونوف والتي تبدأ بالأمل ولا تنتهي عند نقد التوتاليتارية القاسي.
تأتي «دار سؤال» راهناً بترجمة أتمّها خيري الضامن لـ «الحفرة»، وهو أحد نصوص الكاتب الروسي التخييلية، فتقوم من طريق ذلك بالتذكير بمرتبته التأليفية، روائياً، وهو الذي تقرّب في منجزه من المسرح والشعر، وعدّت أعماله من العلامات المبكّرة في بزوغ الوجودية. 
في المعنى التقويمي المنوط بالصيغة الفنية يمكن القول إن بلاتونوف هو قريب إيزاك إيمانويليفيتش بابل، وبوريس ليونيدوفيتش باسترناك، وميخائيل أفانيسيفتس بولغاكوف، ويسعنا أن نضيف أنه وعلى شاكلتهم أسهب في الكتابة عن الحقبة التي عاشها في كثير من التبصّر.
حين أراد جوزيف برودسكي تزكية أدباء القرن العشرين استبقى ستة أسماء فحسب. تحدّث عن بروست وكافكا وموزيل وفولكنر وبلاتونوف وبيكيت. وضع الروسي في أعلى المشهد التأليفي في القرن الماضي، لأنه وفي عرفه يضاهي عمالقة التخييل الآتين من القرن التاسع عشر. هذه شهادة من أهل بيت بلاتونوف الذي لم يشكّك يوماً فيما اختزنه موهبةً. ثمة طرفة يستذكرها الراغبون في الإحاطة بهالة الروسي الكتابية وهو المولود عند مفترق قرنين في سبتمبر عام 1899، وعند مفترق المدينة والقرية، لوالد عمل في السكة الحديد. 
تقول الحكاية إن الشاب الذي لم يكن قد تجاوز الحادية والعشرين في عام 1920، وخلال مشاركته في «المؤتمر الروسي الأول للكتّاب العمال» تلقى استمارة وزّعت على الحاضرين، وتضمّنت السؤال التالي: «أيّ تيار أدبي تنتمي إليه أو تؤيده؟»، فجاء جوابه على الاستفهام حاسماً واستشرافياً: «لا أؤيد أي تيار، ذلك أني أتبع تياري الشخصي». الحكاية التي أوردها روبرت تشاندلر في توطئة ترجمته لنص بلاتونوف «العودة» تخبرنا عن اعتداء محق وعن ثقة واعية بالقدرة التأليفية الدفينة.
كُتبت رواية «الحفرة» في عام 1930 وتختلف المصادر في تأكيد نشرها عندما كان الكاتب لايزال حياً، ذلك أن الرقابة تعمّدت النيل من تجربته الكتابية خلال أكثر من محطة. تتمحور هذه الحكاية على منشأة سكنية قيد البناء ومرصودة لتغدو صرح الشيوعية مستقبلاً، غير أن خلافاً بين العمال والفلاحين لا يلبث أن يُفشّل المشروع، فتتحوّل الحفرة إلى قبر جماعي. بين دفتي الرواية نقرأ بلاتونوف يلقي تلك النظرة الفردية على فلاحين عيونهم فارغة، غير أنهم يبيّنون تبصراً لا يرحم: «مضى فوفيش حسب نصيحة الرجل، وسرعان ما لمح براكة أو عنبراً خشبياً أشبه بالقاووش أو الثكنة، وفي الداخل سبعة عشر أو عشرون شخصاً يغطّون في النوم على ظهورهم، والقنديل الذاوي ينير الوجوه البشرية الغافية. كل النيام هزالى كالموتى».
يعد بلاتونوف من ضمن الأصوات الروائية الأولى خلال الحقبة البولشيفية، وقد استخدم في حكايته التي يلقيها في عشرينيات القرن الماضي مفردات محددة ارتبطت بطبيعة الاتحاد السوفييتي ونظامه. ارتقى بمفهوم الحياة والموت ليجعله بطل نصوصه وليتأمل الوجود من قرب. ظل بلاتونوف في جميع قسماته الكتابية وفياً للإقامة في فسحة الفروق الصغيرة وبين المفاصل المحورية، بين الحيواني والإنساني من جهة، وبين الحي والميت من جهة ثانية.
لابد من قراءة «الحفرة»، ذلك أن الشخصيات التي تكتنفها وحتى الأكثر إثارة للنفور من بينها تتمتع بنسق من الغنى المتقشف. يستعيد بلاتونوف من خلالها مجموعة إنسانية معدمة تنهشها الانقسامات ويشتتها العنف، في حين يصرّ على أن يظهر حزناً يصيب القسم الأكبر من الناس.
في وسط كل هذا يميل السرد صوب طبيعة غير مبالية تقدّم وجهها «البرّاني» فقط. نقرأ في هذا السياق: «الريح نادراً ما تحظى بمثل هذه الفرحة، وليس بوسعها أن تبتدع ما يضاهي الموسيقى، ولذا تقضي أوقات المساء راكدة بلا حراك. حّل السكون بعد أن هدأت الريح وتلفع الجو بظلام أكثر هدوءاً».
لا يختلف اثنان على صعوبة ترجمة بلاتونوف، ذلك أن لغته تقوم على نسق لا ينتمي تماماً إلى الواقعية المباشرة، ولا يشبه التهكم بالكامل أيضاً، ذلك أن سرده على خصوصية واضحة يجعل الكلمات الأكثر بساطة تحمل إيقاعاً على حدة. نقرأ «خفتت العاصفة الثلجية ولاح القمر دون وضوح في السماء البعيدة التي تخلصت من الزوابع والغيوم، وبدت خالية مشرعة الأبواب أمام الحرية الأبدية، وفظيعة رهيبة في الوقت ذاته، كون الحرية بحاجة إلى الوئام والمودة. تحت هذه السماء على الثلج الناصع الذي ربض الذباب في بعض مواضعه احتفل الناس في جو رفاقي بهيج».
من المفارقات الأدبية أن يكون تشيخوف أصدر عملاً مسرحياً استهلالياً سمّاه «بلاتونوف»، وهو نص بمنزلة محاكاة ساخرة اجتماعية، وأحياناً عنيفة تتسلل إلى حقبة انحدار تعلن فوضى الثورة الروسية، وتبدو كأنها عمل مسرحي حول العبث الذي يصيبنا بحداثته.
أما الكاتب بلاتونوف فعمد في منجزه إلى بسط فكرة الهدم فوق سطوره، وكأنها جناح أسود، والحال أن هذه الثيمة حاضرة في جميع ثنايا مؤلفاته. في وسط قصص بلاتونوف ها نحن نواجه خراب العالم في خضم بحث مضنٍ عن اليوتوبيا، بحث ينتهي في حال من الجنون مع ضياع الهوية، ويبلغ حد تمزيق بعض الشخوص المتصوّرة، تماماً.
استبسل بلاتونوف في الإجابة عن متطلبات الواقعية الاجتماعية، والحال أن شكل الحكاية عنده اقترب من شكل الحكايات التأسيسية. يلاحق أبطاله الأهداف الإيجابية أو على الأقل هذا ما تبيّنه خطبهم. 
في أكثر من بُعد يمكن الإشارة إلى أن شخوص بلاتونوف يشبهون أبطال الأساطير والقصص الخيالية والملاحم. في هذا السياق يجري إلقاء كل نموذج تخييلي من بين هؤلاء في غياهب العالم، فلا نتأخر في ملاحقته وهو يطلق بحثه الحثيث عن إجابات. لا يلبث أن يتقاطع مسار الشخصية المحورية مع مسار وسطاء هم دليله إلى ما يجب فعله، وكما في الحكايات الخيالية ندرك أن هذه التجربة الفردية في الهيئة هي كونية في الفعل.
من بين خروم الكلمات الخارجة من أفواه الشخوص، يبيّن بلاتونوف العجز الكلي والكبت السائد، فضلا عن القلق. في الحكايات يلجأ هؤلاء إلى الكليشيهات والشعارات التي يسوّقها الخطاب الرسمي بغية التعبير عن تطلعاتهم، غير أنهم لا يلبثون أن يستهجنوا في طريقة وحشية وغير واعية في آن خديعة هم ضحاياها وسجناؤها على السواء ■