موسيقى كناوة في الصويرة من الطقوسيّ إلى الفنيّ

موسيقى كناوة  في الصويرة من الطقوسيّ إلى الفنيّ

لا‭ ‬تكاد‭ ‬مدينة‭ ‬الصويرة،‭ ‬جنوب‭ ‬المغرب،‭ ‬تُذكر‭ ‬إلا‭ ‬مقرونة‭ ‬بمهرجانها‭ ‬العالمي‭ ‬لموسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬gnawa،‭ ‬الذي‭ ‬ينظم‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يونيو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سنة،‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬تصير‭ ‬المدينة‭ ‬قِبلة‭ ‬لعشاق‭ ‬الموسيقى‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬مدن‭ ‬المغرب‭ ‬والعالم‭. ‬

إن‭ ‬كان‭ ‬المهرجان‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬محلياً‭ ‬صيف‭ ‬سنة‭ ‬1998‭ ‬بمشاركة‭ ‬مجموعة‭ ‬غانغا‭ ‬ganga‭ ‬من‭ ‬أكادير،‭ ‬والمْعلمين‭ ‬الصويرين‭: ‬المْعَلّم‭ ‬عبدالسلام‭ ‬البلغيتي،‭ ‬والمعلم‭ ‬عبدالله‭ ‬البلغيثي،‭ ‬والمعلم‭ ‬عبداللطيف‭ ‬المخزومي،‭ ‬ومجموعة‭ ‬ناس‭ ‬الغيوان‭ ‬الشهيرة،‭ ‬فإنه‭ ‬انفتح‭ ‬في‭ ‬الدورات‭ ‬الموالية‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬موسيقية‭ ‬أخرى‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬كناوة،‭ ‬مثل‭ ‬الجاز‭ ‬والبلوز‭ ‬التي‭ ‬تشترك‭ ‬مع‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬الإفريقي،‭ ‬وفي‭ ‬تعبيرها‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬الزنجية‭ ‬المنغرسة‭ ‬في‭ ‬العمق‭ ‬الإفريقي،‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬زنوج‭ ‬أمريكا‭ ‬بإخوتهم‭ ‬في‭ ‬الدم‭ ‬العرقي‭ ‬الذي‭ ‬استوطن‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭.‬

‭ ‬استطاع‭ ‬المهرجان‭ ‬أن‭ ‬يوحّد‭ ‬هذا‭ ‬الدم‭ ‬ويخلق‭ ‬تواصلاً‭ ‬ثقافياً‭ ‬بين‭ ‬ألوان‭ ‬الموسيقى‭ ‬العالمية،‭ ‬وشهدت‭ ‬الدورات‭ ‬الأخيرة‭ ‬مشاركة‭ ‬فنانين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬عازف‭ ‬الساكسفون‭ ‬الأمريكي‭ ‬كيني‭ ‬غاريت‭ ‬والفنان‭ ‬من‭ ‬الأصل‭ ‬الأفغاني‭ ‬هومايون‭ ‬خان،‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬المختصين‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬الهندية‭ ‬الكلاسيكية‭. ‬وقبل‭ ‬بلوغ‭ ‬هذا‭ ‬المجد‭ ‬الجماهيري،‭ ‬مرت‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬بمراحل‭ ‬متعددة‭ ‬راكم‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬المْعلم‭ ‬الكناوي‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬قائد‭ ‬المجموعة‭ ‬الكناوية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬المايسترو‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬تجاربَ‭ ‬أساسها‭ ‬الطقوس‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الديني‭ ‬ممثلاً‭ ‬في‭ ‬الأذكار،‭ ‬وبين‭ ‬الخرافي‭ ‬والأسطوري‭ ‬الذي‭ ‬يُناجي‭ ‬فيه‭ ‬الأرواح‭ ‬والكائنات‭ ‬الماورائية‭. ‬

 

جذور‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة

إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شبه‭ ‬اتفاق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬قبائل‭ ‬إفريقية‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬الساحل‭ ‬الجنوبي،‭ ‬فإن‭ ‬الاختلاف‭ ‬قائم‭ ‬حول‭ ‬بداية‭ ‬انتقال‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬لكن‭ ‬الباحث‭ ‬عبدالله‭ ‬خليل‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬كناوة‭ ‬أو‭ ‬المغرب‭ ‬الأسود‮»‬،‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬قبائل‭ ‬صنهاجة‭ ‬المُرابطية،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدولة‭ ‬المرابطية‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬حقق‭ ‬هذا‭ ‬الوصل؛‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬كناوة‮»‬‭ ‬عليهم،‭ ‬المشتق‭ ‬من‭ ‬العبارة‭ ‬الأمازيغية‭ ‬‮«‬أكناو‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬الأبكم،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬تبخيسية،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬بسبب‭ ‬صعوبة‭ ‬لهجات‭ ‬الأفارقة‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬الساحل،‭ ‬الذين‭ ‬استقدموا‭ ‬باعتبارهم‭ ‬عبيداً‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬قصور‭ ‬الملوك‭ ‬والسادة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭. ‬وهنا‭ ‬وجه‭ ‬الشبه‭ ‬بين‭ ‬زنوج‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬الذين‭ ‬أبدعوا‭ ‬كناوة‭ ‬وزنوج‭ ‬أمريكا‭ ‬الذين‭ ‬عانوا‭ ‬العبودية‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬متقدم‭. ‬لكن‭ ‬تسمية‭ ‬‮«‬أكناو‮»‬‭ ‬تبقى‭ ‬مجرد‭ ‬افتراض‭ ‬مادامت‭ ‬هناك‭ ‬روايات‭ ‬أخرى‭ ‬تنسب‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬غينيا‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬التسمية،‭ ‬فإن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الأفارقة‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬عبيداً‭ ‬أسلموا‭ ‬ونالوا‭ ‬حريتهم،‭ ‬لكنهم‭ ‬حافظوا‭ ‬على‭ ‬تراثهم‭ ‬الموسيقي‭ ‬ومزجوه‭ ‬بالأذكار‭ ‬والمدائح‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬فن‭ ‬‮«‬كناوة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الامتداد‭ ‬الإفريقي‭ ‬لزنوج‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬والموضوع‭ ‬الإسلامي‭. ‬وقد‭ ‬جسدت‭ ‬هذه‭ ‬الموسيقى‭ ‬منطق‭ ‬الهوية‭ ‬الواحدة‭ ‬التي‭ ‬تجمع،‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬تناقض،‭ ‬بين‭ ‬العرقي‭ ‬والديني‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬قد‭ ‬وطّنت‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬تواشج‭ ‬مع‭ ‬الحركات‭ ‬الصوفية،‭ ‬فإنها‭ ‬شاركتها‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬الأضرحة‭ ‬فضاء‭ ‬للذِّكر‭ ‬والتعبير‭ ‬الروحي‭ ‬عبر‭ ‬الموسيقى،‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬الزوايا‭ ‬والأضرحة‭ ‬ملاذ‭ ‬فرق‭ ‬كناوة‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬فحدث‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬مثقلة‭ ‬بالعادات‭ ‬الموروثة‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬وخالطتها‭ ‬طقوس‭ ‬الشعوذة،‭ ‬عبر‭ ‬ادعاء‭ ‬محاولة‭ ‬إخراج‭ ‬الأرواح‭ ‬الشريرة‭ ‬من‭ ‬المرضى‭ ‬النفسيين‭ ‬الذين‭ ‬يتلبسهم‭ ‬الجن‭. ‬فصار‭ ‬ذبح‭ ‬الجدي‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬آلتي‭ ‬السنتير‭ ‬والهجهوج‭ ‬بصوتيهما‭ ‬الذي‭ ‬يساوق‭ ‬دقات‭ ‬القلب‭ ‬ويحرك‭ ‬الجسد،‭ ‬طقساً‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬موسيقى‭ ‬‮«‬كناوة‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الانحراف‭ ‬الذي‭ ‬مسّ‭ ‬بعض‭ ‬مجموعات‭ ‬كناوة،‭ ‬فقد‭ ‬حافظت‭ ‬مجموعات‭ ‬كثيرة‭ ‬على‭ ‬خصوصية‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الموسيقي‭ ‬بحفظه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تحريف‭ ‬عقدي،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الطقوس‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬مرتبطة‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬ومناجاة،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬إيذاء‭ ‬الجسد‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تنهجه‭ ‬فرق‭ ‬معينة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عيساوة‮»‬‭ ‬و«حمادشة‮»‬،‭ ‬اللتين‭ ‬تجمعان‭ ‬بين‭ ‬طقوس‭ ‬العزف‭ ‬وطقوس‭ ‬نزف‭ ‬الجسد،‭ ‬وتحاولان‭ ‬عبره‭ ‬إظهار‭ ‬القوة‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬تتجاوز‭ ‬آلامه،‭ ‬أي‭ ‬الجسد،‭ ‬وتحكّمُه‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بما‭ ‬يخلق‭ ‬الفارق‭ ‬بينهم‭ ‬وبقية‭ ‬الناس‭ ‬‮«‬العاديين‮»‬‭. ‬

 

فولكلور‭ ‬بأثر‭ ‬سياحيّ

لم‭ ‬تظل‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬حبيسة‭ ‬الأضرحة‭ ‬والزوايا،‭ ‬ولا‭ ‬ارتهنت‭ ‬لطقوس‭ ‬‮«‬الحال‭ ‬trans‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬العازف‭ ‬الكناوي‭ ‬والمنصت‭ ‬إليها‭ ‬إلى‭ ‬لحظات‭ ‬التشوف‭ ‬الروحي‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬الجسد‭ ‬وتتلاعب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬يفقد‭ ‬معها‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه،‭ ‬والتي‭ ‬تلخصها‭ ‬العبارة‭ ‬المغربية‭ ‬المعروفة‭ ‬‮«‬الحال‭ ‬ما‭ ‬يشاور‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬لحظات‭ ‬‮«‬الحال‭ ‬الكناوي‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أشدُ‭ ‬سطوةً‭ ‬بحيث‭ ‬تصعب‭ ‬مقاومتها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتلبس‭ ‬صاحبها‭ ‬وتتسامى‭ ‬به‭. ‬فلقد‭ ‬استفاد‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الموسيقي‭ ‬من‭ ‬توجه‭ ‬الدولة‭ ‬نحو‭ ‬دعم‭ ‬الأشكال‭ ‬الفولكلورية‭ ‬الشعبية‭ ‬لتنتظم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مهرجانات‭ ‬تخص‭ ‬كل‭ ‬مدينة،‭ ‬وهكذا‭ ‬صار‭ ‬لمدينة‭ ‬مكناس،‭ ‬شمال‭ ‬المغرب،‭ ‬مهرجانها‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬عيساوة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يُنظم‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬ديسمبر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سنة،‭ ‬منفتحاً‭ ‬على‭ ‬أشكال‭ ‬موسيقية‭ ‬تراثية‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬المدينة‭ ‬أهمها‭ ‬الطرب‭ ‬الأندلسي‭. ‬

ولقد‭ ‬احتفى‭ ‬في‭ ‬دورته‭ ‬الرابعة‭ ‬بالحاج‭ ‬الحسين‭ ‬التولالي،‭ ‬أحد‭ ‬رموز‭ ‬فن‭ ‬الملحون‭ ‬بالمدينة‭ ‬والمغرب‭. ‬كما‭ ‬صار‭ ‬لمدينة‭ ‬الصويرة‭ ‬مهرجانها‭ ‬السنوي‭ ‬لفن‭ ‬كناوة،‭ ‬الذي‭ ‬أضحى‭ ‬موعداً‭ ‬سنوياً‭ ‬لعشاق‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭. ‬

كان‭ ‬لسياسة‭ ‬الدعم‭ ‬أثرها‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬وحفظ‭ ‬كرامة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬‮«‬المعلمين‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬بعضهم‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬صغيرة‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬أفراد‭ ‬للعزف‭ ‬بآلات‭ ‬‮«‬القراقب‮»‬‭ ‬و«الهجهوج‮»‬‭ ‬و«السنتير‮»‬،‭ ‬والتجول‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬الدكاكين‭ ‬والمقاهي‭ ‬للاسترزاق‭ ‬عبر‭ ‬عزفهم،‭ ‬مستثمرين‭ ‬الاحترام‭ ‬الذي‭ ‬يكنه‭ ‬الناس،‭ ‬خاصة‭ ‬البسطاء‭ ‬منهم،‭ ‬لموسيقيي‭ ‬كناوة‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تمثله‭ ‬من‭ ‬سطوة‭ ‬روحية‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬لاوعيهم‭ ‬الجمعيّ‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬كان‭ ‬يسيء‭ ‬للفنانين‭ ‬الكناويين،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيه‭ ‬امتهان‭ ‬لكرامتهم‭. ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬حسنات‭ ‬مهرجان‭ ‬كناوة‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لـ«المْعلمين‮»‬‭ ‬وخلق‭ ‬فرص‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬فرق‭ ‬كناوة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مدن‭ ‬المغرب،‭ ‬و«المْعلمين‮»‬‭ ‬المغاربة‭ ‬ونظرائهم‭ ‬العالميين‭ ‬والأفارقة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬وكانت‭ ‬الدورة‭ ‬التاسعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬المهرجان‭ ‬التي‭ ‬نُظمت‭ ‬بين‭ ‬12‭ ‬و15‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬الماضي،‭ ‬استثناءً‭ ‬بسبب‭ ‬تزامن‭ ‬التوقيت‭ ‬المعهود‭ ‬مع‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬الكريم،‭ ‬فرصةً‭ ‬إنسانيةً‭ ‬هائلة‭ ‬حين‭ ‬كُرم‭ ‬المعلم‭ ‬المغربي‭ ‬الراحل‭ ‬محمود‭ ‬غينيا،‭ ‬ويا‭ ‬لدلالة‭ ‬الاسم‭ ‬‮«‬غينيا‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬اشتق‭ ‬منه‭ ‬اصطلاح‭ ‬كناوة،‭ ‬والفنان‭ ‬السنغالي‭ ‬الراحل‭ ‬دودو‭ ‬نداي‭ ‬روز‭ ‬عازف‭ ‬الطبل‭ ‬والإيقاع‭ ‬الأشهر‭. ‬وكان‭ ‬لهذا‭ ‬التكريم‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬بوساطة‭ ‬عائلتي‭ ‬الفنانين‭ ‬الراحلين‭ ‬مجسداً،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬لبعد‭ ‬إنساني‭ ‬محمود،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬كان‭ ‬إحقاقاً‭ ‬لوصل‭ ‬بين‭ ‬الأجيال،‭ ‬حيث‭ ‬قدم‭ ‬حسام‭ ‬غينيا،‭ ‬ابن‭ ‬محمود‭ ‬غينيا‭ ‬ووريث‭ ‬أسراره‭ ‬الموسيقية،‭ ‬حفلاً‭ ‬تكريمياً‭ ‬لوالده‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكار‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬لعبه،‭ ‬ولايزال،‭ ‬‮«‬مهرجان‭ ‬كناوة‭ ‬وموسيقى‭ ‬العالم‮»‬‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السياحي،‭ ‬إذ‭ ‬تنتعش‭ ‬أسواق‭ ‬بازارات‭ ‬الأثواب‭ ‬والحقائب‭ ‬التقليدية،‭ ‬وأشكال‭ ‬العرعار‭ ‬التقليدية‭ ‬من‭ ‬موائد‭ ‬مزينة‭ ‬وعلب‭ ‬خشبية‭ ‬متوسطة‭ ‬وصغيرة‭ ‬الحجم،‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬الصناعة‭ ‬التقليدية‭ ‬بالمدينة‭. ‬‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الفنادق‭ ‬بأصنافها‭ ‬تسجل‭ ‬أرقام‭ ‬مبيت‭ ‬كبيرة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬إيجاباً‭ ‬على‭ ‬سكان‭ ‬المدينة‭ ‬الذين‭ ‬يعتبر‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬السياحة‭ ‬مدخل‭ ‬رزقهم‭. ‬وصارت‭ ‬مدينة‭ ‬الصويرة،‭ ‬وبتأثير‭ ‬من‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة،‭ ‬أيقونة‭ ‬ثقافية‭ ‬وفنية‭ ‬بامتياز،‭ ‬يحج‭ ‬إليها‭ ‬الفنانون‭ ‬والمبدعون‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬ندواتها‭ ‬ومعارضها‭ ‬التي‭ ‬تنظم‭ ‬طوال‭ ‬السنة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬المدينة،‭ ‬وتساوقاً‭ ‬مع‭ ‬رمزيتها‭ ‬الفنية،‭ ‬تضم‭ ‬معارض‭ ‬دائمة‭ ‬للفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬وورشات‭ ‬فنية‭ ‬للإبداع‭ ‬على‭ ‬النحت‭ ‬والصناعة‭ ‬التقليدية،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الإبداعية‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬فطرية‮»‬‭ ‬ظهرت‭ ‬بتأثير‭ ‬مباشر‭ ‬من‭ ‬الأجواء‭ ‬الفنية‭ ‬الواسمة‭ ‬لمدينة‭ ‬الصويرة‭. ‬

 

موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬والفنون‭ ‬في‭ ‬الصويرة

انتقلت‭ ‬مدينة‭ ‬الصويرة،‭ ‬وتسمى‭ ‬أيضاً‭ ‬موكادور،‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬بالأمازيغية‭ ‬‮«‬بين‭ ‬الأسوار‮»‬،‭ ‬من‭ ‬محليتها‭ ‬وضيق‭ ‬أفقها‭ ‬وأسوارها‭ ‬الحافة‭ ‬نحو‭ ‬الآفاق‭ ‬المشرعة‭ ‬بفضل‭ ‬الفن‭. ‬والزائر‭ ‬للمدينة‭ ‬يسجل‭ ‬أنها‭ ‬ورشة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لمختلف‭ ‬الفنون‭ ‬الإبداعية،‭ ‬فعلى‭ ‬طول‭ ‬‮«‬سوق‭ ‬واقا‮»‬‭ ‬و«درب‭ ‬العلوج‮»‬‭ ‬و«ساحة‭ ‬مولاي‭ ‬الحسن‮»‬،‭ ‬يلفي‭ ‬الزائر‭ ‬ورشات‭ ‬للفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬والنقش‭ ‬على‭ ‬خشب‭ ‬العرعار‭ ‬وعلى‭ ‬الحديد‭. ‬وغالبية‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفنانين‭ ‬فطريون،‭ ‬لم‭ ‬يتلقوا‭ ‬تكويناً‭ ‬علمياً‭ ‬أو‭ ‬أكاديمياً،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يكونون‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بالمدارس‭ ‬الفنية،‭ ‬ولكن‭ ‬أعمالهم‭ ‬الفنية‭ ‬تشد‭ ‬الناظر‭ ‬وتبهره‭. ‬ومن‭ ‬الفنانين‭ ‬مَنْ‭ ‬بلغ‭ ‬شهرة‭ ‬معقولة‭ ‬مثل‭ ‬الفنانة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الفطرية‭ ‬الراحلة‭ ‬الركراكية‭ ‬بنحيلة،‭ ‬وقد‭ ‬لعبت‭ ‬زيارات‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬للمدينة‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬الفنون‭ ‬وتشبُّع‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬بالثقافة‭ ‬الفنية،‭ ‬وساهم‭ ‬‮«‬مهرجان‭ ‬كناوة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تدفق‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬والفنانين‭ ‬العالميين،‭ ‬فنشأت‭ ‬علاقة‭ ‬وطيدة‭ ‬بين‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬والفنون‭ ‬‮«‬الفطرية‮»‬‭ ‬في‭ ‬الصويرة‭.‬

‭ ‬ولعل‭ ‬فن‭ ‬النحت‭ ‬على‭ ‬الحديد‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أيقونات‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يتواشج‭ ‬مع‭ ‬كناوة،‭ ‬وهو‭ ‬فن‭ ‬حديث‭ ‬نسبياً‭ ‬في‭ ‬الصويرة،‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬أربع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة،‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬حدادة‭ ‬الفنان‭ ‬محمد‭ ‬أبي‭ ‬ناصر،‭ ‬أحد‭ ‬شباب‭ ‬المدينة‭ ‬المولعين‭ ‬بالقراءة‭ ‬وبالفن،‭ ‬تزامناً‭ ‬مع‭ ‬الفورة‭ ‬السياحية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬المدينة‭ ‬بعد‭ ‬نجاح‭ ‬الدورات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مهرجان‭ ‬كناوة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تجربته‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬وُوجهت‭ ‬بلامبالاة،‭ ‬بل‭ ‬وبسخرية؛‭ ‬فإنها‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تثبت‭ ‬جدارتها،‭ ‬ويصبح‭ ‬النحت‭ ‬على‭ ‬الحديد‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ورْش‭ ‬المدينة‭ ‬الفني‭. ‬

تقع‭ ‬ورشة‭ ‬الفنان‭ ‬محمد‭ ‬أبي‭ ‬ناصر‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬واقا‭ ‬بالمدينة‭ ‬القديمة،‭ ‬وتضم‭ ‬منحوتات‭ ‬أبدعها‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬عوادم‭ ‬السيارات‭ ‬والأباريق‭ ‬غير‭ ‬المستعملة‭ ‬وحديد‭ ‬المصبرات‭ ‬والنفايات‭ ‬الحديدية‭ ‬على‭ ‬أشكالها،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬البارز‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬تجسد‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬المعلم‭ ‬الكناوي‮»‬‭ ‬في‭ ‬وضعيات‭ ‬عزف‭ ‬مختلفة،‭ ‬حاملاً‭ ‬آلة‭ ‬‮«‬الكنبري‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬القراقب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬السنتير‮»‬‭ ‬بشعره‭ ‬المفتول‭ ‬وقبعته‭ ‬الكناوية‭ ‬الشهيرة‭. ‬ويَعتبر‭ ‬أبو‭ ‬ناصر‭ ‬أن‭ ‬‮«‬جذبات‭ ‬الموسيقي‭ ‬الكناوي‭ ‬هي‭ ‬ترجمة‭ ‬لجذبات‭ ‬الفنان‭ ‬الروحية‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬نوع‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يمارسه‮»‬‭. ‬ويضيف‭ ‬لمجلة‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تجسيد‭ ‬شخصية‭ ‬الكناوي‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي،‭ ‬لأنه‭ ‬ابن‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬بموسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬ويُنظم‭ ‬فيها‭ ‬مهرجان‭ ‬دولي‭ ‬خاص‭ ‬به‮»‬‭. ‬إن‭ ‬الناظر‭ ‬للشخصيات‭ ‬الكناوية‭ ‬التي‭ ‬تجسدها‭ ‬أعمال‭ ‬الفنان‭ ‬أبي‭ ‬ناصر‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬روح‭ ‬المدينة‭ ‬ويترجم‭ ‬تاريخها‭ ‬القديم،‭ ‬تاريخ‭ ‬كناوة‭ ‬في‭ ‬امتداده‭ ‬الإفريقي‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬متأصلاً‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تعيش‭ ‬هادئة‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬الأطلسي،‭ ‬ويتعايش‭ ‬فيها‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أعراقهم‭ ‬وجنسياتهم،‭ ‬ولعل‭ ‬موسيقى‭ ‬‮«‬كناوة‮»‬‭ ‬إحدى‭ ‬ركائز‭ ‬هذا‭ ‬التعايش‭ ‬الفذ‭. ‬

وليس‭ ‬النحت‭ ‬على‭ ‬الحديد‭ ‬وحده‭ ‬الذي‭ ‬ترجم‭ ‬مكانة‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الصويرة،‭ ‬إذ‭ ‬ألهمت‭ ‬كناوة‭ ‬فنانين‭ ‬تشكيليين‭ ‬محليين،‭ ‬غالبيتهم‭ ‬‮«‬فطريون‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬نُظم‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬بين‭ ‬11‭ ‬و25‭ ‬نوفمبر‭ ‬الماضي‭ ‬معرض‭ ‬جماعي‭ ‬تشكيلي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الباستيون‮»‬‭ ‬بباب‭ ‬القصبة‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ليلة‭ ‬المعارض‮»‬،‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬الفنانون‭: ‬عابد‭ ‬الكوزي،‭ ‬قاسم‭ ‬حليلة،‭ ‬مصطفى‭ ‬أسماح،‭ ‬مصطفى‭ ‬بنمالك،‭ ‬مصطفى‭ ‬إيغورد،‭ ‬والفنانة‭ ‬البلجيكية‭ ‬المقيمة‭ ‬في‭ ‬الصويرة‭ ‬ميشيل‭ ‬سوكلاو‭.‬

وفي‭ ‬بعض‭ ‬لوحات‭ ‬المعرض‭ ‬بورتريهات‭ ‬عن‭ ‬موسيقيي‭ ‬كناوة‭ ‬وإكسسواراتها،‭ ‬ومنها‭ ‬القبعة‭ ‬الكناوية‭ ‬الشهيرة‭ ‬بألوانها‭ ‬الزاهية‭ ‬المعروضة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬محلات‭ ‬بيع‭ ‬تذكارات‭ ‬المدينة،‭ ‬أو‭ ‬المعلم‭ ‬الكناوي‭ ‬وهو‭ ‬يداعب‭ ‬آلة‭ ‬‮«‬الهجهوج‮»‬‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الألوان‭ ‬التي‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬موسيقيو‭ ‬كناوة،‭ ‬الأحمر‭ ‬والأخضر‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬اللذين‭ ‬يجسدان‭ ‬انتماء‭ ‬خاصاً،‭ ‬يسميه‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬خليل‭ ‬برابط‭ ‬‮«‬الأخوية‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬الفن‭ ‬الكناوي‭ ‬يخلق‭ ‬علاقة‭ ‬إنسانية‭ ‬تشبه‭ ‬رابطة‭ ‬الدم‭ ‬الأخوية،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تفقها‭ ‬أحياناً‭ ‬بسبب‭ ‬عامل‭ ‬الاندماج‭ ‬الروحي‭ ‬بين‭ ‬أعضاء‭ ‬المجموعة‭ ‬الواحدة،‭ ‬بحيث‭ ‬يبلغ‭ ‬الاحترام‭ ‬بينهم‭ ‬مداه‭ ‬الأبعد‭. ‬

ومن‭ ‬التجارب‭ ‬التشكيلية‭ ‬التي‭ ‬تستلهم‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬في‭ ‬لوحاتها‭ ‬تجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬والفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬الصويري‭ ‬يوسف‭ ‬الأزرق،‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬انطباعية‭ ‬تحاور‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الجسد‭ ‬الكناوي‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬العزف‭ ‬والموسيقى‭ ‬الخاصة‭ ‬للكناوي‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬حركاته‭ ‬وسكناته‭ ‬وتحدد‭ ‬طبيعة‭ ‬التجاوب‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بينهما‭.  ‬يسمي‭ ‬يوسف‭ ‬الأزرق‭  ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬‮«‬نشيد‭ ‬الألم‮»‬،‭ ‬مستحضراً‭ ‬تاريخ‭ ‬معاناة‭ ‬السود‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬عبيداً،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يسجل‭ ‬عبرها‭ ‬انحرافات‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬حين‭ ‬يرتبط‭ ‬بطقوس‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬جهل‭ ‬كبير،‭ ‬حين‭ ‬يعمد‭ ‬بعض‭ ‬ممارسي‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬الزوايا‭ ‬إلى‭ ‬تعذيب‭ ‬الجسد‭ ‬بدل‭ ‬التسامي‭ ‬به‭. ‬

يقول‭ ‬الأزرق‭ ‬لمجلة‭ ‬العربي‭: ‬‮«‬الرقص‭ ‬الكناوي‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬مجرد‭ ‬إيقاعات‭ ‬ورقصات‭ ‬مجانية‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬أشخاص‭ ‬لمدة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مقابل‭ ‬مادي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬وحضارة‭ ‬ونقْل‭ ‬روحي‭ ‬ونفْسي‭ ‬صادق‭ ‬لِما‭ ‬عاشته‭ ‬حضارات‭ ‬وشعوب‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يوفر‭ ‬متعة‭ ‬بصرية‭ ‬أخاذة‭ ‬ومدهشة‭ ‬تجعل‭ ‬المتلقي‭ ‬يحس‭ ‬بنشوة‭ ‬روحية‭ ‬وشعرية‭ ‬عميقة‮»‬‭.‬

يجمع‭ ‬يوسف‭ ‬الأزرق‭ ‬بين‭ ‬الأيقونات‭ ‬البصرية‭ ‬والكاليغرافيا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬استلهام‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة،‭ ‬مستثمراً‭ ‬حضوره‭ ‬لفعاليات‭ ‬المهرجان‭. ‬ويضيف‭ ‬الأزرق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭: ‬‮«‬أغلب‭ ‬لوحاتي‭ ‬الانطباعية‭ ‬المجسدة‭ ‬له‭ ‬تمّ‭ ‬إنجازها‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬أمام‭ ‬الخشبة‭ ‬المخصصة‭ ‬للعروض،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الليالي‭ ‬الكناوية‭ ‬الساحرة‭ ‬حتى‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬اقتناص‭ ‬تلك‭ ‬الشذرات‭ ‬الدافقة‮»‬‭. ‬

ولهذا‭ ‬نفهم‭ ‬لمَ‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬المكون‭ ‬الكاليغرافي‭ ‬للوحاته‭ ‬معجم‭: ‬الرقص،‭ ‬الجسد،‭ ‬التوحد،‭ ‬حيث‭ ‬الإحالة‭ ‬على‭ ‬التناغم‭ ‬الفاتن‭ ‬بين‭ ‬الكلمة‭ ‬واللون‭ ‬والموسيقى‭ ‬التي‭ ‬تتسامى‭ ‬بالجسد‭ ‬وترفعه‭ ‬عن‭ ‬الجهل‭ ‬والبشاعة‭. ‬

لاتزال‭ ‬الصويرة،‭ ‬أو‭ ‬موكادور،‭ ‬تنام‭ ‬هادئة‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬الأطلسي،‭ ‬تمتع‭ ‬زوارها‭ ‬بمشاهد‭ ‬الغروب‭ ‬الفاتنة،‭ ‬وتذكّر‭ ‬قصبتها‭ ‬التاريخية‭ ‬بالماضي‭ ‬البعيد،‭ ‬أما‭ ‬بحرها‭ ‬الدافئ‭ ‬فيدثرها‭ ‬ويطعم‭ ‬أبناءها،‭ ‬وفي‭ ‬يونيو،‭ ‬تفتح‭ ‬ذراعيها‭ ‬للزوار‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬مدن‭ ‬المغرب‭ ‬والعالم،‭ ‬يملأونها‭ ‬صخباً‭ ‬وشغباً،‭ ‬تتحملهما‭ ‬بأناة‭ ‬وتغرس‭ ‬فيهم‭ ‬أثراً‭ ‬سامياً‭ ‬لا‭ ‬يذبل،‭ ‬وحين‭ ‬يُسألون‭ ‬بعد‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭ ‬يقولون‭ ‬‮«‬كنا‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬موسيقى‭ ‬كناوة‭ ‬ولحظة‭ ‬تطهير‭ ‬روحي‭ ‬كاملة‮»‬‭ ‬