موسيقى كناوة في الصويرة من الطقوسيّ إلى الفنيّ
لا تكاد مدينة الصويرة، جنوب المغرب، تُذكر إلا مقرونة بمهرجانها العالمي لموسيقى كناوة gnawa، الذي ينظم في شهر يونيو من كل سنة، وعلى مدى أربعة أيام تصير المدينة قِبلة لعشاق الموسيقى من مختلف مدن المغرب والعالم.
إن كان المهرجان قد بدأ محلياً صيف سنة 1998 بمشاركة مجموعة غانغا ganga من أكادير، والمْعلمين الصويرين: المْعَلّم عبدالسلام البلغيتي، والمعلم عبدالله البلغيثي، والمعلم عبداللطيف المخزومي، ومجموعة ناس الغيوان الشهيرة، فإنه انفتح في الدورات الموالية على ألوان موسيقية أخرى قريبة من كناوة، مثل الجاز والبلوز التي تشترك مع موسيقى كناوة في الأصل الإفريقي، وفي تعبيرها عن الهوية الزنجية المنغرسة في العمق الإفريقي، الذي يجمع زنوج أمريكا بإخوتهم في الدم العرقي الذي استوطن شمال إفريقيا.
استطاع المهرجان أن يوحّد هذا الدم ويخلق تواصلاً ثقافياً بين ألوان الموسيقى العالمية، وشهدت الدورات الأخيرة مشاركة فنانين من أمثال عازف الساكسفون الأمريكي كيني غاريت والفنان من الأصل الأفغاني هومايون خان، أحد كبار الفنانين المختصين في الموسيقى الهندية الكلاسيكية. وقبل بلوغ هذا المجد الجماهيري، مرت موسيقى كناوة بمراحل متعددة راكم فيها «المْعلم الكناوي»، أي قائد المجموعة الكناوية وهو ما يشبه المايسترو في الموسيقى الكلاسيكية، تجاربَ أساسها الطقوس التي تجمع بين الديني ممثلاً في الأذكار، وبين الخرافي والأسطوري الذي يُناجي فيه الأرواح والكائنات الماورائية.
جذور موسيقى كناوة
إذا كان هناك شبه اتفاق على أن موسيقى كناوة تعود إلى قبائل إفريقية من بلدان الساحل الجنوبي، فإن الاختلاف قائم حول بداية انتقال هذا الفن إلى شمال إفريقيا، لكن الباحث عبدالله خليل في كتابه «كناوة أو المغرب الأسود»، يعتقد أن قبائل صنهاجة المُرابطية، نسبة إلى الدولة المرابطية في المغرب، كانت أول من حقق هذا الوصل؛ بل إنها التي أطلقت اسم «كناوة» عليهم، المشتق من العبارة الأمازيغية «أكناو» التي تعني الأبكم، وهي عبارة تبخيسية، قد تكون بسبب صعوبة لهجات الأفارقة المنتمين إلى بلدان الساحل، الذين استقدموا باعتبارهم عبيداً للعمل في قصور الملوك والسادة في شمال إفريقيا. وهنا وجه الشبه بين زنوج شمال إفريقيا الذين أبدعوا كناوة وزنوج أمريكا الذين عانوا العبودية إلى وقت متقدم. لكن تسمية «أكناو» تبقى مجرد افتراض مادامت هناك روايات أخرى تنسب هذا الفن إلى دولة غينيا. ومهما يكن من أمر التسمية، فإن كثيراً من الأفارقة الذين كانوا عبيداً أسلموا ونالوا حريتهم، لكنهم حافظوا على تراثهم الموسيقي ومزجوه بالأذكار والمدائح الإسلامية، فكانت النتيجة فن «كناوة» الذي يجمع بين الامتداد الإفريقي لزنوج شمال إفريقيا والموضوع الإسلامي. وقد جسدت هذه الموسيقى منطق الهوية الواحدة التي تجمع، دون أدنى تناقض، بين العرقي والديني.
وإذا كانت موسيقى كناوة قد وطّنت نفسها في المغرب في تواشج مع الحركات الصوفية، فإنها شاركتها أيضاً في اتخاذ الأضرحة فضاء للذِّكر والتعبير الروحي عبر الموسيقى، لذلك كانت الزوايا والأضرحة ملاذ فرق كناوة حتى الآن، فحدث أن صارت مثقلة بالعادات الموروثة بين الناس، وخالطتها طقوس الشعوذة، عبر ادعاء محاولة إخراج الأرواح الشريرة من المرضى النفسيين الذين يتلبسهم الجن. فصار ذبح الجدي والعزف على آلتي السنتير والهجهوج بصوتيهما الذي يساوق دقات القلب ويحرك الجسد، طقساً من طقوس موسيقى «كناوة».
وعلى الرغم من هذا الانحراف الذي مسّ بعض مجموعات كناوة، فقد حافظت مجموعات كثيرة على خصوصية هذا اللون الموسيقي بحفظه من كل تحريف عقدي، إلا من الطقوس التي ظلت مرتبطة بها من ذكر ومناجاة، بعيداً عن إيذاء الجسد الذي كانت تنهجه فرق معينة مثل «عيساوة» و«حمادشة»، اللتين تجمعان بين طقوس العزف وطقوس نزف الجسد، وتحاولان عبره إظهار القوة الروحية التي تتجاوز آلامه، أي الجسد، وتحكّمُه في الذات الإنسانية، بما يخلق الفارق بينهم وبقية الناس «العاديين».
فولكلور بأثر سياحيّ
لم تظل موسيقى كناوة حبيسة الأضرحة والزوايا، ولا ارتهنت لطقوس «الحال trans» التي ترفع العازف الكناوي والمنصت إليها إلى لحظات التشوف الروحي التي تحرك الجسد وتتلاعب به إلى درجة يفقد معها السيطرة عليه، والتي تلخصها العبارة المغربية المعروفة «الحال ما يشاور»، التي تفيد بأن لحظات «الحال الكناوي» هي أشدُ سطوةً بحيث تصعب مقاومتها قبل أن تتلبس صاحبها وتتسامى به. فلقد استفاد هذا اللون الموسيقي من توجه الدولة نحو دعم الأشكال الفولكلورية الشعبية لتنتظم في إطار مهرجانات تخص كل مدينة، وهكذا صار لمدينة مكناس، شمال المغرب، مهرجانها الشهير «عيساوة»، الذي يُنظم في شهر ديسمبر من كل سنة، منفتحاً على أشكال موسيقية تراثية تتميز بها المدينة أهمها الطرب الأندلسي.
ولقد احتفى في دورته الرابعة بالحاج الحسين التولالي، أحد رموز فن الملحون بالمدينة والمغرب. كما صار لمدينة الصويرة مهرجانها السنوي لفن كناوة، الذي أضحى موعداً سنوياً لعشاق هذا الفن عبر العالم.
كان لسياسة الدعم أثرها في تنظيم موسيقى كناوة وحفظ كرامة كثير من «المعلمين» الذين كان بعضهم يلجأ إلى الخروج في مجموعة صغيرة مكونة من ثلاثة إلى أربعة أفراد للعزف بآلات «القراقب» و«الهجهوج» و«السنتير»، والتجول على أصحاب الدكاكين والمقاهي للاسترزاق عبر عزفهم، مستثمرين الاحترام الذي يكنه الناس، خاصة البسطاء منهم، لموسيقيي كناوة استناداً إلى ما تمثله من سطوة روحية كما هي متأصلة في لاوعيهم الجمعيّ. والحقيقة أن هذا الوضع كان يسيء للفنانين الكناويين، إن لم يكن فيه امتهان لكرامتهم. ولعل من حسنات مهرجان كناوة إعادة الاعتبار لـ«المْعلمين» وخلق فرص التواصل بين فرق كناوة في مختلف مدن المغرب، و«المْعلمين» المغاربة ونظرائهم العالميين والأفارقة على وجه الخصوص. وكانت الدورة التاسعة عشرة من المهرجان التي نُظمت بين 12 و15 من مايو الماضي، استثناءً بسبب تزامن التوقيت المعهود مع شهر رمضان الكريم، فرصةً إنسانيةً هائلة حين كُرم المعلم المغربي الراحل محمود غينيا، ويا لدلالة الاسم «غينيا» الذي اشتق منه اصطلاح كناوة، والفنان السنغالي الراحل دودو نداي روز عازف الطبل والإيقاع الأشهر. وكان لهذا التكريم الذي تم بوساطة عائلتي الفنانين الراحلين مجسداً، من جهة، لبعد إنساني محمود، وفي الوقت نفسه، كان إحقاقاً لوصل بين الأجيال، حيث قدم حسام غينيا، ابن محمود غينيا ووريث أسراره الموسيقية، حفلاً تكريمياً لوالده في ساحة مولاي الحسن.
ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبه، ولايزال، «مهرجان كناوة وموسيقى العالم» في المجال السياحي، إذ تنتعش أسواق بازارات الأثواب والحقائب التقليدية، وأشكال العرعار التقليدية من موائد مزينة وعلب خشبية متوسطة وصغيرة الحجم، التي تتميز بها الصناعة التقليدية بالمدينة. كما أن الفنادق بأصنافها تسجل أرقام مبيت كبيرة، وهو ما ينعكس إيجاباً على سكان المدينة الذين يعتبر كثير منهم السياحة مدخل رزقهم. وصارت مدينة الصويرة، وبتأثير من موسيقى كناوة، أيقونة ثقافية وفنية بامتياز، يحج إليها الفنانون والمبدعون للمشاركة في ندواتها ومعارضها التي تنظم طوال السنة، كما أن المدينة، وتساوقاً مع رمزيتها الفنية، تضم معارض دائمة للفن التشكيلي وورشات فنية للإبداع على النحت والصناعة التقليدية، وكثير من التجارب الإبداعية فيها «فطرية» ظهرت بتأثير مباشر من الأجواء الفنية الواسمة لمدينة الصويرة.
موسيقى كناوة والفنون في الصويرة
انتقلت مدينة الصويرة، وتسمى أيضاً موكادور، التي تعني بالأمازيغية «بين الأسوار»، من محليتها وضيق أفقها وأسوارها الحافة نحو الآفاق المشرعة بفضل الفن. والزائر للمدينة يسجل أنها ورشة مفتوحة لمختلف الفنون الإبداعية، فعلى طول «سوق واقا» و«درب العلوج» و«ساحة مولاي الحسن»، يلفي الزائر ورشات للفن التشكيلي والنقش على خشب العرعار وعلى الحديد. وغالبية هؤلاء الفنانين فطريون، لم يتلقوا تكويناً علمياً أو أكاديمياً، وقد لا يكونون على علم بالمدارس الفنية، ولكن أعمالهم الفنية تشد الناظر وتبهره. ومن الفنانين مَنْ بلغ شهرة معقولة مثل الفنانة التشكيلية الفطرية الراحلة الركراكية بنحيلة، وقد لعبت زيارات كبار الفنانين للمدينة دوراً مهماً في ترسيخ الفنون وتشبُّع أهل المدينة بالثقافة الفنية، وساهم «مهرجان كناوة» في تدفق مزيد من المبدعين والفنانين العالميين، فنشأت علاقة وطيدة بين موسيقى كناوة والفنون «الفطرية» في الصويرة.
ولعل فن النحت على الحديد أحد أهم أيقونات الفن الذي يتواشج مع كناوة، وهو فن حديث نسبياً في الصويرة، بدأ منذ أربع عشرة سنة، في ورشة حدادة الفنان محمد أبي ناصر، أحد شباب المدينة المولعين بالقراءة وبالفن، تزامناً مع الفورة السياحية التي عرفتها المدينة بعد نجاح الدورات الأولى من مهرجان كناوة.
وعلى الرغم من أن تجربته في البداية وُوجهت بلامبالاة، بل وبسخرية؛ فإنها استطاعت أن تثبت جدارتها، ويصبح النحت على الحديد جزءاً من ورْش المدينة الفني.
تقع ورشة الفنان محمد أبي ناصر في سوق واقا بالمدينة القديمة، وتضم منحوتات أبدعها من بقايا عوادم السيارات والأباريق غير المستعملة وحديد المصبرات والنفايات الحديدية على أشكالها، غير أن البارز هو وجود أعمال فنية تجسد شخصية «المعلم الكناوي» في وضعيات عزف مختلفة، حاملاً آلة «الكنبري» أو «القراقب» أو «السنتير» بشعره المفتول وقبعته الكناوية الشهيرة. ويَعتبر أبو ناصر أن «جذبات الموسيقي الكناوي هي ترجمة لجذبات الفنان الروحية مهما كان نوع الفن الذي يمارسه». ويضيف لمجلة العربي أن «تجسيد شخصية الكناوي أمر طبيعي، لأنه ابن المدينة التي تعرف بموسيقى كناوة ويُنظم فيها مهرجان دولي خاص به». إن الناظر للشخصيات الكناوية التي تجسدها أعمال الفنان أبي ناصر يجد فيها روح المدينة ويترجم تاريخها القديم، تاريخ كناوة في امتداده الإفريقي الذي صار متأصلاً في مدينة تعيش هادئة على شاطئ الأطلسي، ويتعايش فيها الناس على اختلاف أعراقهم وجنسياتهم، ولعل موسيقى «كناوة» إحدى ركائز هذا التعايش الفذ.
وليس النحت على الحديد وحده الذي ترجم مكانة موسيقى كناوة في مدينة الصويرة، إذ ألهمت كناوة فنانين تشكيليين محليين، غالبيتهم «فطريون»، وقد نُظم في الفترة بين 11 و25 نوفمبر الماضي معرض جماعي تشكيلي في «الباستيون» بباب القصبة التاريخي في المدينة القديمة تحت عنوان «ليلة المعارض»، شارك فيه الفنانون: عابد الكوزي، قاسم حليلة، مصطفى أسماح، مصطفى بنمالك، مصطفى إيغورد، والفنانة البلجيكية المقيمة في الصويرة ميشيل سوكلاو.
وفي بعض لوحات المعرض بورتريهات عن موسيقيي كناوة وإكسسواراتها، ومنها القبعة الكناوية الشهيرة بألوانها الزاهية المعروضة في أحد محلات بيع تذكارات المدينة، أو المعلم الكناوي وهو يداعب آلة «الهجهوج» مع التركيز على الألوان التي يتميز بها موسيقيو كناوة، الأحمر والأخضر على الخصوص، اللذين يجسدان انتماء خاصاً، يسميه د. عبدالله خليل برابط «الأخوية»، أي إن الفن الكناوي يخلق علاقة إنسانية تشبه رابطة الدم الأخوية، إن لم تفقها أحياناً بسبب عامل الاندماج الروحي بين أعضاء المجموعة الواحدة، بحيث يبلغ الاحترام بينهم مداه الأبعد.
ومن التجارب التشكيلية التي تستلهم موسيقى كناوة في لوحاتها تجربة الشاعر والفنان التشكيلي الصويري يوسف الأزرق، التي تصدر عن تجربة انطباعية تحاور العلاقة بين الجسد الكناوي في حالات العزف والموسيقى الخاصة للكناوي التي تتحكم في حركاته وسكناته وتحدد طبيعة التجاوب الذي ينبغي أن يكون بينهما. يسمي يوسف الأزرق هذه التجربة «نشيد الألم»، مستحضراً تاريخ معاناة السود الذين كانوا عبيداً، وفي الوقت نفسه يسجل عبرها انحرافات هذا الفن حين يرتبط بطقوس تنم عن جهل كبير، حين يعمد بعض ممارسي هذا الفن في الزوايا إلى تعذيب الجسد بدل التسامي به.
يقول الأزرق لمجلة العربي: «الرقص الكناوي بالنسبة إلي ليس فقط مجرد إيقاعات ورقصات مجانية يقوم بها أشخاص لمدة معينة من أجل الحصول على مقابل مادي، بل هو تاريخ وحضارة ونقْل روحي ونفْسي صادق لِما عاشته حضارات وشعوب. كما أنه يوفر متعة بصرية أخاذة ومدهشة تجعل المتلقي يحس بنشوة روحية وشعرية عميقة».
يجمع يوسف الأزرق بين الأيقونات البصرية والكاليغرافيا في تجربة استلهام موسيقى كناوة، مستثمراً حضوره لفعاليات المهرجان. ويضيف الأزرق في هذا الصدد: «أغلب لوحاتي الانطباعية المجسدة له تمّ إنجازها بشكل مباشر أمام الخشبة المخصصة للعروض، أو في عمق الليالي الكناوية الساحرة حتى أتمكن من اقتناص تلك الشذرات الدافقة».
ولهذا نفهم لمَ يتكرر في المكون الكاليغرافي للوحاته معجم: الرقص، الجسد، التوحد، حيث الإحالة على التناغم الفاتن بين الكلمة واللون والموسيقى التي تتسامى بالجسد وترفعه عن الجهل والبشاعة.
لاتزال الصويرة، أو موكادور، تنام هادئة على جانب الأطلسي، تمتع زوارها بمشاهد الغروب الفاتنة، وتذكّر قصبتها التاريخية بالماضي البعيد، أما بحرها الدافئ فيدثرها ويطعم أبناءها، وفي يونيو، تفتح ذراعيها للزوار من مختلف مدن المغرب والعالم، يملأونها صخباً وشغباً، تتحملهما بأناة وتغرس فيهم أثراً سامياً لا يذبل، وحين يُسألون بعد العودة إلى الديار يقولون «كنا على موعد مع موسيقى كناوة ولحظة تطهير روحي كاملة» ■