الفنان جمال السجيني نابغة النحت

الفنان جمال السجيني نابغة النحت

عندما نسترجع التاريخ ونستعيد ذكرى فنان نابغة وفذة بمستوى جمال السجيني لتوثيق حياته ومسيرته الفنية التاريخية، وأثر ذلك في المجتمع، يجب أن ننظر إلى آثاره حولنا ونستشهد بها، لأن الناجح في عمله وإبداعه يجب أن يترك خلفه إرثاً ملموساً يستضيء به جيل من المبدعين تتلمذوا على يديه، وكانوا امتداداً له ولفكره ومسيرته في الحاضر والمستقبل يسترشد بهم النشء والفنانون الجدد. 

 

عند الحديث عن أستاذ النحت المصري جمال السجيني (1917 - 1977)، لن نتعب في البحث أو التدقيق لإيجاد الشواهد الدالة على نبوغه وإبداعه كفنان مؤسس ومكتشف مواهب ومعلم من الدرجة الأولى.
فقد استفاد كثير من زملائه وأصدقائه من أعماله التي تركها بعد رحيله عنا، ونبغ كثيرون من تلامذته بفضل علمه وأسلوب تدريسه لهم.
والحديث مع هؤلاء ذو شجون، والجلوس معهم بحر يثري المستمع والقارئ، عندما يسمع منهم عن فنان قلّ نظيره في عالمنا، فهذا الفنان يحمل بين يديه دستوراً إنسانياً لرسالته الفنية المقدسة.
الفنان النحات جمال السجيني ترك خلفه إرثاً عملياً وجيلاً من الرواد في فنهم يشار إليهم بالبنان، وقد نجد في رأي أستاذ ورئيس قسم النحت سابقاً بكلية الفنون الجميلة في القاهرة، د. محمد العلاوي، ما يسعفنا من معلومات ويعطينا الصورة الحقيقية للواقع الإنساني والفني الذي عاشه الفنان الراحل، الذي يرجع إليه فضل التمتع والاستفادة المتميزة منه كأستاذ كان يعامل أبناءه الطلبة المتميزين بالمحبة الأبوية والإرشاد الصادق وجلَد المثابر الصابر على تحمّل مسؤولية إيصال المعلومة العلمية والفنية لتلامذته.
كان د.العلاوي تلميذا هادئاً ومقرباً من أستاذه، بل يحمل صفات أستاذه نفسها، وجد فيه السجيني الهدوء والوداعة، ولاحظ عليه الإبداع المتأني ودراسته المتقنة قبل تنفيذ أي عمل، فقربه من نفسه واقترب منه أكثر، محتضناً إياه حيث سلم الأستاذ للتلميذ مقاليد التعليم، بعد أن صقله وحصّنه بعلمه وفنه.

دمث الخلق
يكشف العلاوي أسراراً عن الفنان السجيني لا يعرفها أحد، ويظهر مناقب لم يظهرها للعالم أحد قبله، فقد كان ملازماً لأستاذه طوال سنوات الدراسة والعمل بعد ذلك.
 فالسجيني، وفق د. العلاوي، كان دمث الخلق هادئ الطباع قليل الكلام، وفي المقابل فهو عنيف في عمله صبور متحمل عبء إخراج وتنفيذ العمل الفني، يعمل بكل جلد ودراسة دقيقة وموضوعية فائقة في تعامله عندما يمسك المطرقة والإزميل، وهو يطوع لفكره النحاس والحديد والخشب والأحجار.
 يقول العلاوي عن أستاذه إنه من أصدق الناس مع الطلبة، ومن يكتشف فيهم القدرات المتميزة، ولا ينسى أبداً وقوفه معه في معرضه الأول الذي أقامه في بداية مشواره الفني، وأنه كان يرتب معه توزيع الأعمال في المعرض، ويبدي له النصيحة المهمة التي كان يستمع العلاوي لها وينفذها بكل حرص ورضا.
 وأكد أن السجيني فنان نابغة لم ينل، بعدُ، ما يستحق من تكريم وتقدير من الجهات المعنية بالفنون.
وعن أعماله الحديثة يقـــول العلاوي إن «تمثال سيد درويش أول عمل خــرج به السجيني عن الطور التقليدي الثائر على نهج أسلوب الفنان الكبير محمود مختار، فكان ذلك الخروج نوعاً من تحديد الشخصية الفنية المتميزة الجديدة في الوقت نفسه، كما أن السجيني عندما مزج بين الخامات لم يرد بهذا المزج الخلط، أو إدخال العناصر المختلفة من دون ضرورة، فقد وظّف هذا المزج بهدف جميل خدم الموضوع وحدد الكتلة بكامل عناصرها على أساس هذه المواد، وليس مزجاً ارتجالياً لا معنى له».
 ويتابع: «كان السجيني ثائراً في إنتاجه يتغلغل في أعماق الكتلة الفنية الصمّاء لينجزها بعد ذلك عملاً رائعاً يكاد ينطق، لا يمل المشاهد من التردد عليه مرات ومرات، وفي كل زيارة يظن أنه يراه للمرة الأولى».
ويضيف أن أستاذه كان يعمل بكل قوته وطاقته العنيفة، كأنك أمام رجل سريع الغضب أو فوهة بركان ثائر، وهذا عكس طبعه في حياته اليومية بعيداً عن ساحة العمل والإنتاج والتعامل مع الآخرين من حيث التواصل والمعيشة.
وأشار العلاوي إلى أن السجيني استطاع أن يخرج من تحت عباءة أستاذه الفنان محمود مختار، وتجاوز النحت التقليدي بأن أدخل مادتين لتشكيل الكتلة المنحوتة هما النحاس والحجر، على سبيل المثال، ليصبح هذا التمرد الرائع والخروج المتميز عن النص والإيقاع المتعارف عليه في تلك الفترة حلية فنية يمارسها الموسيقار المتمكن من نفسه، والفنان الذي يعرف أين يضع قدميه.
ويضيف أنه لا يجد فــــي القاموس من الكلمات ما يفي السجيني حقـــــه كفـــــنـــــان وأستاذ ومعلّم أخلص في فـــنه، من دون أن يأخذ حقه كما يستحق من هذا العالم، الذي كثيراً ما يظلم فيه الفنان والشاعر والموسيقار المبدع.

براعة ونبوغ وتفوق
أما تلميذه المبدع الآخر فهو الفنان الكويتي العالمي سامي محمد، وهو غني عن التعريف، وأعماله تشهد له بالبراعة والنبوغ والتفوق بشهادة النقاد.
وقد برع سامي محمد في فنه، مطوراً أسلوبه في الرسم والنحت، ومقدماً في الوقت نفسه دليل براعة أستاذه الفنان السجيني الذي درّسه في ستينيات القرن الماضي مع مجموعة أخرى من الطلبة الكويتيين، ومنهم عبدالعزيز الحشاش - رحمه الله - الذي كان على قدر من البراعة والشموخ، ما يؤكد أن السجيني بنى للفن العالمي معبداً يشار إليه.
وهناك في مصر عَلَم آخر، فذ في عمله متفرد في أسلوبه متميز في أدائه ودقيق في إنتاجه ومنحوتاته، هذا هو الفنان المصري المعاصر النحات أحمد سامي، الذي تنبأ له السجيني بالنبوغ والتفوق أثناء دراسته بكلية الفنون الجميلة، عندما قال له: «يا أحمد أنت ستصبح علامة من علامات النحت في مصر، وأنا فخور بك».
وتحقق للأستاذ ما تنبأ به، وأصبح أحمد سامي اليوم ركناً من أركان الحركة التشكيلية في فن النحت الحديث، له قامته وعطاؤه الذي لا ينضب.
واختصر سامي رأيه في أستاذه بأن «الموت حق»، لكننا فقدنا نبعاً صادقاً من العطاء الفني ما سنحت له الظروف بأن يحقق كل ما يرجو من أماني في مجال النحت والتطوير المتميز، مضيفاً: السجيني من الفنانين المعروفين في مصر بحبه للهدوء والعمل برويــــة وصبر ودراسة، فلم يكن يميل في حياته إلى الحركة السريعة والاستعجال، ولا يحب الظهور والأضواء وكثرة الحديث والجدال، فهو أشبه ما يكون بالبذرة التي تنبت بصمت وهدوء، لتصبح بعد ذلك شجرة وارفة تضم الجميع تحت ظلها؛ من تلامذة وأصدقاء وزملاء وجمهور يعشق فنه.
كان السجيني قريباً من الجميع، وكان عدد طلابه في الســــتينيات لا يتجاوز العشرة أو أقل من ذلك، نبغ منهم - كما أسلــــــفنا-  الفنان الكويتي سامي محمد وعبدالعزيز الحشاش، ومن مصر أحمد سامي ومحمد العلاوي، ومجموعة كبيرة أخرى خلال سنوات عمله بكلية الفنون الجميلة ودراسته، ولا مجال لذكرهم جميعاً، لكن برز منهم الوشاحي أستاذ الأساتذة، والفنان المبدع ملك نحت البورتريه، محمد عبدالمنعم الحيوان، والفنان النابغة أحمد جاد، ومجموعة كبيرة أخرى سارت على نهج الفنان السجيني، وأكدت للتاريخ تميّز أستاذهم الذي تأسسوا على نهجه المتميز، مؤكدين انتماءهم لمدرسته.
عمل السجيني بكلية الفنون الجميلة في أثناء عمادة د. يوسف كامل للكلية، وكانت مصر، وقتها، تقود العالم، نظراً إلى مكانتها الفنية الرائدة، وقد اختاره د. كامل زوجاً لابنته، وهذه شهادة يجب ألا تنسى، لأن الرجل كان دقيقاً في اختياره، حريصاً على ابنته أو بناته، حيث زوجهن لثلاثة رموز فنية في مصر، هم حسني البناني، ويوسف مصطفى، وجمال السجيني، الذي تزوج من السيدة هدى يوسف كامل عام 1944، وقد اشتهرت بعد ذلك بهدى السجيني.
درس السجيني التصوير والرسم الزيتي، وأبدع فيهما، لكنه وجد ذاته كنحات متمكن من جميع المفردات الفنية في مجال النحت، وبالمستوى نفسه كان في الرسم الزيتي.
وعند سؤال النحات الكبير أحمد سامي - التلميذ «الشقي» للسجيـــــني، كما كـــــان يسميه - عن رأيه في أستاذه، قال إن السجيني أستاذ عظيم ومعـــــلم بارع وظّـــــف مهارته الفنية وخبرته العملية لخدمة بلاده مصر وتاريخها، بالتزامه وأدائه المتميز نحو هموم وقضايا وطنه في مرحلة مهمة جداً وحسّاسة، حيث كان يجمع في أسلوبه الفني بين الأصالة الفنية والحداثة منها، ويصوغ، ببراعة فائقة، تعبيره عن شخصه وشخصية جمال السجيني وقامته الشخصية في وقت واحد.
أما السجيني الأستاذ، والحديث مازال للفنان د. أحمد سامي، فقد كان فريداً متميزاً في عطائه الشخصي لتلاميذه، إذ يعلو عطاءه الإخلاص في الأداء لرسالة كان يؤمن بها، فلم يتأخر في لحظة عن متابعتهم عن قرب وهم ينجزون أعمالهم الفنية، متخذاً أسلوب الحوار الثقافي والتاريخي والفلسفي نهجاً للتوجيه والنصيحة، وكان ذلك يساعد الطالب على تلقي المعلومة بهدوء وسلاسة وترحاب، حيث كان هذا عامل بناء جيداً ومتميزاً لشخصية الطالب أثناء الدراسة الأكاديمية على مستوى يضاهي الأداء العلمي الفرنسي في المدارس الفنية، كما هو في «بوزار»، مما ساعد أغلب الذين تتلمذوا على يديه على صقل مواهبهم، وبناء شخصية الفنان العارف لتفاصيل عمله الفني كنحات. 
وأخيراً علينا أن نعترف بأن د. جمال السجيني أسس للفن ساحة مليئة بتلاميذه المبدعين في الوطن العربي، رغم وجود تيار مخالف ومحارب لفن النحت يرى البعض فيه أنه مخالف للدين، إذ لا مجال للخوض في ذلك الآن، ونكتفي بأن نؤكد للدارسين والباحثين أن السجيني - رحمه الله - لم يستسلم لليأس حتى آخر يوم في حياته، فقد كان ولايزال يشار إليه بالبنان ■