أسرار دير سيناء
فلنسافر إلى مصر...
هكذا قررت الأختان في صوت واحد تقريبا، كانتا في حاجة إلى كثير من الضوء والدفء، بعيداً عن «كليبرشان»، البلدة الأسكتلندية المعتمة التي تضم بيتهما وقبر أبيهما، كانت التوأمان أنجيس وشقيقتها مرجريت تعيشان في ظل أبيهما المحامي الثري جون سميث، وكان بينهم اتفاق، كل لغة يتعلمانها يسافران لبلدها، تعلمتا الفرنسية فأخذهما إلى فرنسا، ثم إلى إسبانيا ثم إلى إيطاليا، لكنه مات فجأة بعد أن زرع فيهما حب السفر واكتشاف الأماكن، الغريبة.
«أنجيس» الكبرى هي التي طرحت فكرة السفر لمصر، كانت قد هبطت للعالم قبل أختها بعشر دقائق تقريباً، وكانت أكثر ارتباطاً بالكنيسة وقصص الكتاب المقدس، وتريد أن ترى الأرض التي وقعت فيها أحداث هذا الكتاب، لم تكن هناك معلومات مؤكدة عن ذلك البلد، غير أن النيل يجري فيه، ويحكمه تركي اسمه الخديوي إسماعيل، وهو مليء بالأماكن الغريبة التي تستحق الزيارة، ولكن كانت هناك أخبار أخرى، مشروع قناة السويس أوشك على الانتهاء، ستتصل مياه البحر الأبيض بالأحمر، وسيختصر طريق إنجلترا إلى الهند لنصف الوقت، وكانت إنجلترا قد تنبأت بفشل المشروع، معتقدة أن الأرض سوف تنشق وتغوص مياهها في الأخاديد العميقة، أو أن جوانبها ستنهار وتغرق كل ما يمر بها من سفن، ولكن مرت عشرة أعوام من عمر المشروع وتواصل الحفر ولم تحدث الكارثة المنتظرة.
بداية الرحلة
في ديسمبر عام 1869 وصلت الاثنتان إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، وأمسكت مرجريت أنفها وهي تهتف: يا إلهي، هذه المدينة لها رائحة غريبة جداً، ولكن انطباع أنجيس كان مختلفاً، فبالرغم من أن الإسلام قد دخل مصر من أكثر من ألف عام، فإنها رأت فيها مدينة الكتاب المقدس، تخيلت أنها ستصادف سيدنا يوسف عليه السلام وهو يتجول وسط الأزقة الضيقة، أو سيدنا إبراهيم عليه السلام ومعه زوجته راشيل وهما متجهان للسوق، أو تسمع صوت النبي موسى عليه السلام وهو يتجادل مع البائعين، وحين رأت واحداً يقود حماره تخيلت أنه يحمل السيدة مريم وعلى ذراعها الطفل يسوع وهما يهربان، وعندما جلست في فندق شبرد وامتدت أمامها مياه النيل وهو ينساب، تخيلت أنها سوف ترى السلة التي وضعت فيها أم موسى طفلها وتركتها تسبح مع الموج.
كان النيل مزدحماً بالسفن التي ترحل جنوباً، للشلال الأول عند أسوان، وكانتا تشعران أن هذه رحلة العمر ويجب أن تكتشفا كل مكان في أرض التوراة القديمة، واقترح عليهما بعض نزلاء الفندق فكرة استئجار «دهبية»، وهي سفينة صغيرة تسبح على النيل وتتوقف عندما تشاءان، وهكذا بدأتا في البحث عن «ترجمان» محترف، وظهر لهما المستر «كيرتيزا»، أحد رعايا جزيرة مالطا الذي يجيد العربية والإنجليزية والفرنسية، استولى عليهما في لمحة واحدة، وقبل أن يتناقش معهما في شيء أو يكتب أي عقد، كان يقودهما عبر الأزقّة الضيقة والمساجد العتيقة والكنائس المليئة بالأيقونات، خلف ضجيج الشارع والقمامة المتناثرة، أخذهما إلى عالم من الجمال المختبئ تحت ركام الزمن، واستطاع أن يستأجر «الدهبية» وطاقم البحارة الذي سيعمل معها، بما فيه «الريس» الذي سيقود الجميع، وقبل موعد الرحيل أطلق فيها ثلاثاً من القطط حتى تصطاد الفئران المختبئة بين الأخشاب.
عبور الشلال
أصبحت «الدهبية» جاهزة للرحيل، ولأن أعياد الكريسماس كانت قريبة، فقد زين السفينة بالورد وسعف النخيل وجعلها تبدو كعروس، وبعد أيام عدة من الرحيل بدأ مظهر الآنستين في التغير، لم تلفح الشمس وجهيهما فقط، ولكن بدلت ألوان ثيابهما أيضاً، كانت النسوة في القرى التي يمررن بها هن اللاتي يقمن بغسل ثيابهن، ومن النادر أن يستخدمن الصابون، حتى أصبحت كلها مائلة للون البني، ولكن هذا لم يكن ليمنعهن من التمتع بصفاء النيل، والشطآن الخضراء التي لا يقطعها سوى كثبان الرمال، كأن مياهه تنساب، من بين أصابع الآلهة، كما قال عنه هيرودوت، لذلك يستحم فيه المصريون مرتين في الصباح وفي المساء.
لكن ذروة الرحلة كانت عبور الشلال الأول عند أسوان، لم يكن كيرتيزا راغباً في المضي أبعد من أسوان، ولكن الأختين أصرّتا على اجتياز الشلال والدخول في بلاد النوبة، كانت السفن مكدسة بالفعل ولا تستطيع العبور، كانت هناك سفينة أخرى ضخمة غائصة في الطين وسط جلاميد الصخور، وأخذ كيرتيزا يصيح بهما أن سفينتهما سوف تتحطم مثلها تماماً إذا أصرتا على المجازفة، واستمر زحام السفن العاطلة مدة ثلاثة أيام، حتى ظهر ضابطان من جيش الخديوي، وأحضرا خمسين رجلاً من النوبيين الأشداء، وقفت الأختان مبهورتين تتأملان أجسادهم السوداء اللامعة وهم يحيطون السفينة المغروسة بالحبال ثم يبدأون في جذبها وهم لا يكفون عن الغناء «يا مهوّن... هوّنها علينا».
انزلقت «الدهبية» أخيراً إلى بلاد النوبة، أرض «كوش» القديمة كما ذكرتها التوراة، وسط جلاميد الصخر المحفور عليها أسرار الحياة، الصخور نفسها التي رآها نبي الله موسى عليه السلام في طفولته، وبعد أسبوع من الإبحار وصلتا إلى نهاية مصر الفرعونية عندما شاهدتا معبد أبوسمبل الغارق في الرمال ولا يبدو منه غير الجزء العلوي للملك رمسيس الثاني وزوجته نفرتاري جميلة الجميلات.
إنجيل سيناء
بعد عام كامل من التجول عادت الأختان إلى لندن، لم تعد قريتهما الصغيرة كافية لهما، خرجتا لعالم واسع وحياة جديدة، وبدأت أنجيس في تأليف كتاب عن رحلتها للشرق، كانت في أعماقها مؤلفة روائية، كتبت روايتين قبل ذلك لم يكتب لهما النجاح، ولكن كتاب «الحج للشرق» لفت الأنظار إليها، وبدأت تجني بعض الشهرة، وفي الوقت نفسه وقعت مرجريت في الحب، تقابلت مع جيمس جيبسون الذي يكبرها بسبعة عشر عاماً، كان أسكتلندياً مثلها ويتشارك معها في تجربة السفر إلى مصر، خاصة صحراء سيناء، تزوجته سريعاً، وجدت أنجيس نفسها وحيدة للمرة الأولى في حياتها، وكعادتها عكفت على دراسة اللغات وخاصة العربية، كانت لغة صعبة، ولكن جرس الألفاظ أعاد إلى ذاكرتها رحلتها مع أختها لمصر، وبدأت تفكر جدياً في العودة إليها، لكن الحرب كانت مشتعلة هناك، انتبهت بريطانيا فجأة إلى أهمية قناة السويس، وأحست أنها أخطأت حين تركت منفذاً بحرياً مهماً مثل هذا، وأخذت تتحين الفرص حتى تقفز عليه، وتمكن جيشها بالفعل من هزيمة جيش الفلاحين الذي يقوده عرابي.
رحلت أنجيس وحدها لليونان ولكنها لم ترتح لها كثيراً، كانت أثينا مليئة بالحانات أكثر مما ينبغي، وغادرتها إلى قبرص، وعندما كانت تجلس أمام الميناء كانت تجد كثيراً من السفن تتجه إلى مصر، كانت قناة السويس قد غيرت كل خطوط الملاحة، وجدت نفسها تقفز في إحداها وتهبط في السويس، أقرب نقطة تستطيع العبور منها إلى سيناء، كانت قد سمعت كثيراً عن دير سانت كاترين، وعن الرهبان اليونانيين الذين يقيمون فيه، والمخطوطات النادرة الموجودة في خزائنه، وكان زوج أختها جيبسون قد حكى لها الكثير عن مشاهداته أثناء رحلته لمصر، ولأنه يهتم كثيراً بالمخطوطات القديمة، فقد حكى لها كثيراً عن العالم الألماني فون تشندروف وقصته مع رهبان الدير، فقد اكتشف في مكتبتهم أقدم إنجيل معروف على وجه الأرض، كان باحثاً ورساماً ألمانياً، تخصص في البحث عن الأناجيل القديمة النادرة، سافر إلى باريس وفينيسيا ولندن يفتش في مكتباتها القديمة، وقد وجد أن أقدم إنجيل في أوربا يعود فقط للقرن العاشر الميلادي، لذلك قرر أن يتجه للشرق ، مهد المسيحية.
زار الأديرة الموجودة في الصحراء، ثم قرر أن يذهب إلى أقدمها، دير سانت كاترين الموجود في وادي سيناء، كان الإمبراطور الروماني جستنيان قد بناه في القرن السادس الميلادي تخليداً لروح القديسة كاترين التي استشهدت في الإسكندرية، جاء تشندروف يحمل خطاباً من أسقف الدير الموجود في القاهرة، وسمح له الرهبان بالدخول، لم تكن هناك بوابة للدير، لذلك أدلوا له سلة ليضع نفسه فيها ويرفعوه لأعلى، وسمحوا له بالإقامة داخل الدير مدة أسبوع واحد، والبحث في مكتبة الدير التي كانت مليئة بالمخطوطات التي لم ترتب أو تفحص.
ولم يلفت نظره المجلدات المتراصة فوق الأرفف، ولكن كومة من الأوراق كانت ملقاة في أحد الأركان ومجهزة للحرق هي التي استأثرت باهتمامه، طلب أن يفحصها ووافق أمين المكتبة بلا مبالاة، بدأ يقلب في الصفحات المتناثرة، كتابات باللغة السريانية والآرامية واليونانية، مختلطة بصفحات أخرى مكتوبة بالعربية، أعاد ترتيبها لعلها تؤدي به إلى شيء، جمع خمسين صفحة متشابهة في العمر ولون الورق، مكتوبة باليونانية، ولكنه لم يكن متأكداً من أن هناك شيئاً ذا أهمية، كان في حاجة إلى مزيد من البحث، ومزيد من الأدوات التي لم يكن يملكها في الدير، ولكن أيام ضيافته كانت قد انتهت. وغادر الدير ومعه الصفحات الخمسون التي جمعها، وفي بلدته «ليبزج» اكتشف أنه يجب أن يعود إلى الدير من جديد، كانت الصفحات جزءاً من إنجيل قديم يعود تاريخه للقرن السادس الميلادي، أقدم من أي إنجيل آخر رآه، كان يريد أن يقلب مكتبة الدير رأساً على عقب حتى يعثر على بقية المخطوط، ولكنه كان في حاجة إلى سلطة أقوى حتى لا يقف الرهبان في طريقه.
سافر تشندروف إلى روسيا لمقابلة القيصر، الراعي الأكبر للدير، وتمكن من مقابلته وأراه الصفحات التي جمعها، وأرسل معه القيصر خطاباً إلى كبير الأساقفة يطلب تسهيل كل وسائل البحث له، عاد إلى الدير دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض على وجوده، أخذ يفتش في الأماكن التي يريدها حتى اكتشف بقية المخطوط، كتاب ضخم يضم الأناجيل الأربعة باليونانية، المشكلة أنه كان مملوكاً للدير، وأحد نفائسه التاريخية، ويجب أن يبقى فيه، لكن تشندروف كان يريد أن يأخذه ليدرسه ويعيد طباعته، أثر نفيس مثل هذا يجب ألا يبقى حبيس الصحراء، وبعد طول مفاوضات كتب تعهداً على نفسه أن يعيد المخطوط مرة أخرى للدير، ولم يكن كبير الرهبان قادراً على رفض طلب مندوب القيصر، فسمح له بالخروج ومعه المخطوط، وانتشر الخبر في كل أرجاء أوربا، وأصبح تشندروف بطلاً، انفتحت أمامه أبواب مراكز البحث التاريخية والدينية، ودعي لإلقاء المحاضرات في محافلها العلمية.
ولكن أهم الدعوات جاءت من القيصر الأعظم لروسيا، كان يريد أن يرى المخطوط الأثري، وعندما ذهب إليه كان القيصر مهتماً بفحصه، تناوله منه ووضعه على ركبتيه، قال له إنه يتمنى أن يكون هذا المخطوط مكتوباً بالروسية القديمة، ثم أشار لتشندروف بانتهاء المقابلة والمخطوط مازال على ركبتيه، انحنى الباحث أمامه أكثر من مرة، ولكن القيصر ظل يراقبه بعينين باردتين، وعندما خرج من القاعة انتظر طويلاً في الردهة متوقعاً أن يخرج أي خادم حاملاً المخطوط، وظل في الفندق ينتظر لأيام طويلة، لم يأت أي رسول من القصر، بعد طول إلحاح استطاع أن يقابل مسؤولاً روسيّاً رفيعاً، وأفهمه المسؤول ببساطة أن الدير كله تحت رعاية القيصر، وهذا المخطوط بطريقة أو بأخرى يعد من ممتلكاته، ولم يجد تشندروف سبيلاً غير مغادرة روسيا محسوراً.
اختفى المخطوط تماماً عن أعين العالم، لم يظهر بعد ذلك إلا بحوالي تسعين عاماً، في عام 1933 عندما اتصل جوزيف ستالين بالحكومة البريطانية يعرض أن يبيع لها إنجيل سيناء الذي اكتشفه تشندروف، كانت روسيا في أشد الحاجة إلى العملة الصعبة، وباعت الكثير من كنوزها الفنية من متحف «الأرميتاج» للثري الأمريكي أندرو مالون مؤسس متحف المتروبوليتان الشهير في نيويورك، وكان الثمن المطلوب في الإنجيل هو مائة ألف جنيه إسترليني، أعلى من سعر أي مخطوط في العالم، وفتحت بريطانيا باب الاكتتاب العام، واستطاعت أن تجمع نصف المبلغ من التبرعات ودفعت الخزانة البريطانية النصف الثاني، وانتقل الإنجيل إلى المتحف البريطاني ومازال لا يقدر بثمن.
خيل لأنجيس أنها يمكن أن تحقق حلماً مثل هذا، ترحل إلى الدير وتكتشف مخطوطاً مماثلاً، ولكنها اضطرت إلى أن تترك السويس سريعاً وتعود إلى لندن، كان مرض جيبسون قد تفاقم، لم يستطع أن يقاوم داء الصدر، غادرت الروح جسده العليل، وعادت الأختان وحيدتين مرة أخرى، وكانت مرجريت شديدة الحزن، ولكن أختها لم ترد منها أن تعيش حياة الأرملة، ولم يكن هناك من تعزية غير الرحيل بعيداً عن لندن الكئيبة، وهكذا بعد سبعة أشهر فقط من وفاة جيبسون قررت الأختان معاودة حلمهما في الذهاب إلى مصر، إلى دير سانت كاترين على وجه التحديد، رحلة صعبة وخطيرة، ولكنهما كانتا متحمستين، سوف تستكملان جغرافيا الكتاب المقدس، وتريان جبل موسى وشجرة العليق المحترقة، وتشربان من الآبار التي تفجرت حتى تسقي قومه، وتلمسان التربة التي صنعت منها ألواح الوصايا العشر، ولكن دخول الدير لم يكن سهلاً، كيف تقتحم امرأتان عالم الرهبان المتبتلين؟ عكفتا على تجهيز أكثر من خطاب للتوصية، خطاب من جامعة كامبريدج، وخطاب من أسقف الكنيسة الإنجليزية، وعندما وصلتا إلى القاهرة سارعتا بمقابلة أسقف سيناء والحصول على خطاب ثالث منه، وخطاب رابع من المعتمدية البريطانية بطبيعة الحال.
كانتا سعيدتي الحظ حين عثرتا على الترجمان المناسب، واشترتا خيمتين كبيرتين من جلد الماعز، واتفق الترجمان مع رجال البدو الذين سيقودونهما، وساعدهما في إحضار المعدات التي شحناها من لندن، فلتر متحرك لتنقية المياه، وكاميرا للتصوير وحوالي ألف فيلم فوتوغرافي، وقام بتجهيز بقية معدات المهمة التي من المقرر أن تستغرق حوالي خمسين يوماً، تسعة منها للرحلة والبقية داخل الدير، وهكذا سافرتا سريعاً إلى ضفة القناة ونقلتهما القوارب للضفة الأخرى، إلى سيناء، وكان في انتظارهما أحد عشر جملاً، أربعة للركوب والبقية لحمل الأمتعة والصناديق والخيام والطعام وأقفاص الدجاج الحية وصندوق للأدوية والمعدات الطبية، وموقد للطهي، إضافة إلى أحد عشر بدوياً يقودهم شيخهم، يرتدون جميعاً عباءات بيضاء، وكان ركوب الجمل لمدة طويلة شيئاً غاية في الإرهاق، لذلك فضلتا السير.
وبعد يوم من السير المتواصل وصلتا إلى أول نقطة في الرحلة، عيون موسى، وهي واحة صحراوية صغيرة تروى من البئر التي تتدفق منذ آلاف السنين، وحيث شربت العذراء مريم في رحلة هروبها من فلسطين، وبعد سبعة أيام من السير الحثيث أطلّتا من فوق التلال العالية على الوادي السحيق الذي يوجد فيه الدير، سارتا في الممر المؤدي للدير، تحيط بهما أشجار السدر والزيتون، كان ديراً صحراوياً بسيطاً، لا يقاس بالكنائس الضخمة التي تركتاها خلفهما في أوربا، يحيط به سور عال متين ليحميه من غزوات البدو، رغم أنها قليلة ونادرة، كانت هناك بوابة في السور ولم تعد هناك حاجة إلى رفعهما معاً في السلة، واستقبلهما الرهبان بالترحاب، خاصة بعد أن اكتشفوا أن أنجيس تجيد التحدث باليونانية، وتعرف الكثير عن أخبار العالم الخارجي، ولكن لم يكن من الممكن السماح لهما بالإقامة داخل الدير، بين رهبان عاشوا معظم أعمارهم دون أن يقتربوا من امرأة حقيقية، سمحوا لهما فقط بنصب الخيام في الحديقة بجانب سور الدير والتردد على المكتبة خلال النهار.
كان الأب جلاكتون أمين المكتبة قد التحق بسلك الرهبنة وهو في التاسعة من العمر، دخل إلى عالم مغلق من الرجال لا همّ لهم إلا الصلاة والتعبد، لذا وجد نفسه منجذباً بشدة للبقاء بجانب التوأمين لأطول فترة من الوقت، لا يستطيع أن يقاوم أي طلب لهما، كانت أنجيس تحدثه باليونانية عن عالم غريب لا يعرفه، ولا يتصور وجوده، أخذهما في جولة داخل الدير وأراهما معالمه، البئر التي تعرف فيها سيدنا موسى عليه السلام إلى زوجته حين رفع الحجر الذي كان يسد فوهتها، وشجرة العليق التي أمر الله موسى أن ينظر إليها، فإذا النار مشتعلة فيها دون أن تحرقها، وفي اليوم التالي أخذهما للمكتبة، أخذتا تفحصان المجلدات المختلفة، كان هناك عديد من المخطوطات ولكنها ليست نادرة، لا توازي المخطوط الذي عثر عليه تشندروف، شعرتا بخيبة أمل حقيقية، لم تثمر هذه الرحلة الطويلة الشاقة شيئاً، ولكن الإقامة في الخيمة كانت غاية في الصعوبة، خاصة في الليل عندما تهبط درجة حرارة الوادي إلى ما دون الصفر، ولكنهما لم تفكرا في الرحيل، ظلتا تعاودان البحث وسط الأرفف المعبأة بالغبار، والأب جلاكتون ينظر إليهما في إشفاق.
في السرداب المظلم
وأخيراً، اعترف لهما الأب جلاكتون - في خجل - أن هناك خزانة في سرداب أسفل المكتبة، لم يهبط إليها أحد منذ سنوات، منذ أن مات الراهب الأخير الذي كان يعرف اللغة السريانية، تلك اللغة الشرقية القديمة التي لم يعد أحد يستخدمها، وعلى ضوء الشموع هبط ثلاثتهم على الدرج الصخري، كان القبو حاراً خانقاً دون نسمة هواء، والخزانة الخشبية منزوية في أحد الأركان وسط بقايا أثاث محطم وصخور ناتئة، كان داخلها صندوقان من الخشب محفور عليهما خطوط غائرة مليئة بالسواد، الصندوق الأول كان مليئاً بصور وأيقونات قديمة، أما الثاني فيحتوي على مجلدين ضخمين، الأصغر منهما كان مكتوباً باليونانية القديمة، وبدا من قراءة العنوان أنه منقول عن أحد كتب الفيلسوف أرسطو، أما الثاني فقد كان ملتصق الصفحات، مكسواً برماد أسود، ومن الصعب فتحه بالقوة وإلا تفتتت الصفحات، حملوه في حذر إلى الخارج ليفحصوه تحت الضوء، في الخيمة المنصوبة بالحديقة، جلس الثلاثة متقاربي الرؤوس وهم يفتحونه، كان مكتوباً بالسريانية، صفحاته ملتصقة ببعضها البعض، كتلة مغطاة بتراب الزمن، ولكن كانت لهما خبرتهما الخاصة من مشاهدة وسائل حفظ الكتب في كامبردج، أشعلا النار تحت وعاء صنع الشاي، والراهب يراقبهما مندهشاً وهما يعرضان الصفحات الملتصقة للبخار، والغبار يذوب بنعومة دون أن يمس تماسك الصفحات، وبعد فترة بدأ المخطوط الغامض يكشف عن أسراره، كان مخطوطاً عن حياة القديسات، شعرت مرجريت بخيبة أمل شديدة، كانت قد أحضرت معها كل هذه الأفلام الفوتوغرافية عبثاً، ولكن تعرض صفحات المخطوط للضوء والهواء النقي فعل شيئاً غريباً، أصبحت السطور الظاهرة باهتة وكشفت عن سطور أخرى خلفها، كان هناك نص حديث نسبياً مكتوباً فوق نص آخر أكثر قدماً، في بعض الصفحات عثرتا على عنوان الصفحة، وفي صفحات أخرى عثرتا على سطور عدة في أسفلها، ومن محتوى هذه السطور اكتشفتا أن النص القديم هو الإنجيل، الأناجيل الأربعة المعروفة، مكتوبة باللغة السريانية، اللغة نفسها التي كان يتكلم بها السيد المسيح، هذا يعني أنه ربما كان المخطوط يعود إلى القرن الأول الميلادي، قبل أن تتغير اللغة ويتغير العالم. توقف الثلاثة مبهورين وهم يلتقطون أنفاسهم في صعوبة، لقد عثرتا على أقدم مخطوط مسيحي في التاريخ، ولكن كيف يمكن إثبات ذلك؟ كيف يمكن إخراج الإنجيل الحقيقي المخفي في طيات هذه الصفحات؟ كانتا تعرفان أنه من المستحيل أن يخرجا بهذا الكتاب من الدير، تجربة الرهبان مع تشندروف لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى، ومهما قيل لهم من وعد فلن يثق الرهبان بالعالم الخارجي، كان التصرف الوحيد أن يتم تصوير كل صفحة من المخطوط تحت ضوء الصحراء الساطع لعله حين يتم تظهير الصور تظهر سطور الإنجيل، كانتا في حاجة إلى معجزة حتى يتم هذا الاكتشاف، كان لابد من تخليص الصفحات من بعضها ثم تصويرها، عمل شاق تواصل على مدى أربعين يوماً في تلك الخيمة الصغيرة في حديقة الدير.
الإنجيل المخفي
ألف صورة فوتوغرافية، غير واضحة، مكتوبة بلغة مندثرة، سطور واضحة تخفي سطوراً مطموسة، اكتشاف لا أحد يعرف إن كانت له قيمة أم لا، تملكه أختان ليس لهما أي درجة علمية ولا يعترف بهما أحد، هذه كانت حصيلة الأربعين يوماً وليلة، وهكذا عادتا إلى لندن، لا تدريان كيف تتصرفان بالصور، كانتا في حاجة إلى من يفحصها ويفتح لهما الطريق للأوساط العلمية، الطريق إلى جامعة كامبردج.
كانتا قد تعرفتا إلى البروفيسور راندل هاريس المتخصص في دراسات الإنجيل عن طريق زوج الأخت الراحل، وهو الذي نصحهما بزيارة الدير، لكنه كان في رحلة لأمريكا، أرسلت أنجيس إليه خطاباً مطولاً، ولأنه لم يكن متخصصاً في اللغة السريانية، فقد نصحهما بالاتصال بروبرت بنتلي، أكبر متخصص في الدراسات الشرقية بجامعة كامبردج، ولكنه كان دائم الانشغال، مؤتمرات ومحاضرات وسفريات، وفي الواقع لم يكن يرى أي جدوى في مقابلة أختين على أعتاب الخمسينيات من العمر، تبدو عليهما ملامح الهوس بالشرق، وشعرت الأختان باليأس، ولكن تجربتهما في الحياة والسفر علمتهما معنى الإصرار، لابد من البحث عن صلة وصل.
في صباح يوم أحد ذهبتا إلى الكنيسة التي تصلي فيها الزوجة «مسز بنتلي»، ومعهما بعض الصفحات المصورة، توسلتا لها حتى تدع زوجها يلقي فقط نظرة على هذه الصور، أخذت الزوجة الأوراق ولم تعدهما بشيء، لم تكن قادرة على التنبؤ بمزاج زوجها، فقط وعدتهما بالرد عليهما في يوم الأحد التالي، وانصرفت الأختان محبطتين، أمامهما أسبوع كامل من الانتظار، ولكن لم يمر عليهما إلا سواد الليل حتى تلقتا في الصباح المبكر رسالة عاجلة من البروفيسور بنتلي، كان يستأذنهما في القدوم لمقابلتهما هو ومساعده البرفيسور فرانسيس بيركيت، أدركتا أنهما قد أصابتا الوتر، وأنهما تملكان، رغم غموض الأمر، أثراً حقيقياً، وفي الميعاد المحدد بالضبط جاء الأستاذ ومساعده الشاب، لم يلتفتا للشاي والكعك، كان همهما الوحيد هو مراجعة الصور بأكملها، ومعرفة من أين حصلتا عليها، التأكد من أن كل شيء حقيقي، أخذا يسألان عن أدق التفاصيل، كانا على أعتاب اكتشاف جديد، ربما يكون أهم وأقدم من إنجيل تشندروف، المهم ألا يتحدثا لأحد حول هذا الأمر، لأنه لو شاع فسيتدفق العشرات من كل أنحاء العالم على دير سانت كاترين، لم يكن يعرف السر خارج دائرتهم إلا البروفيسور راندل هاريس، تعددت الاجتماعات، فحصا كل صورة، كانت هناك صفحات شديدة الوضوح بحيث استطاعا قراءة أجزاء من إنجيل متى، وبعد مناقشات لم تدم طويلاً قرر الأستاذان أنه لابد من رؤية النسخة الأصلية والعمل عليها.
لم يكن في استطاعة الأستاذين أن يصحبا معهما سيدتين وحيدتين في رحلة للصحراء، لذلك قرر كل واحد منهما أن يحضر زوجته، وعندما عاد البرفيسور هاريس من أمريكا أصرّت الأختان على أن يأتي هو أيضاً معهم، وهكذا تكونت بعثة من سبعة أشخاص تعتزم التوجه لمصر لاستكمال المهمة، وحافظوا جميعاً على السر، لم يفشوا أمر رحلتهم لأي شخص حتى لا يسبقهم أحد للدير، ولم تنس أنجيس أن تذهب إلى المتحف البريطاني، كانت قد سمعت عن مادة كيميائية جديدة تحت التجريب يستخدمها المتحف لإزالة الأوساخ عن اللوحات القديمة، دون أن تؤثر في ألوانها الأصلية، أخذت زجاجة منها وحملتها في حنان كأنها تحمل طفلاً، وتجمع أفراد الرحلة في القاهرة من طرق مختلفة، كانت السكة الحديد قد امتدت نحو السويس، ومنها أخذوا قارباً إلى «عيون موسى»، وبعد أيام من السير الصعب وصلوا إلى الدير الرابض في الوادي السحيق، وخرج الرهبان يرحبون بهم، خاصة الأب جلاكتون الذي سعى إلى الترحيب بأنجيس، قال لها حين عرف بالمهمة إنه لا يعرف الآخرين ولن يتعامل مع أحد منهم غيرها، نصبوا خيامهم في حديقة الدير، وسمح له الأسقف بالتعامل مع المخطوط، شريطة ألا يحاولوا أخذه خارج أسوار الدير.
بدأوا في العمل، كان المخطوط أصغر مما بدا في الصور، وصفحاته أكثر هشاشة، ظلوا يتأملونه محاولين أن يحددوا زمنه، ولكن الإضاءة داخل مكتبة الدير كانت ضعيفة، وسمح لهم جلاكتون بأن يأخذوه للخارج، ثم كمبادرة طيبة منه سمح لهم بأن يحتفظوا به داخل معسكرهم على أن تتولى أنجيس حراسته، وهكذا كان عملهم يبدأ مع شروق الشمس، ولأن المخطوط كان صغيراً فلم يكن يسمح إلا لشخص واحد بالاطلاع عليه في الوقت نفسه، قسموا الوقت بينهم، وقد أدركوا أنهم أمام أهم اكتشاف في تاريخ الديانة المسيحية، وكانوا في انتظار المعجزة التي تظهر النص المخفي، أظهرت له أنجيس المادة الكيميائية التي أخذتها من المتحف البريطاني، ولكن بنتلي حذرها من استخدامها، لأنها أتلفت مخطوطاً نادراً في باريس، كانوا يحاولون إظهار النص بواسطة خليط من المواد الطبيعية، وسوائل التنظيف، ولكن لم يتم شيء، وتشاغلت أنجيس ومرجريت داخل مكتبة الدير بإعداد فهارس بالكتب الموجودة بها وإعادة ترتيبها، وعندما حان دورها في العمل في المخطوط، وبيد مرتعدة أمسكت الفرشاة وغمستها في زجاجة المحلول ثم مرت بها بنعومة على أحد سطور المخطوط، وفوجئت بالطبقة الأولى من الكتابة وهي تنمحي، وتظهر من خلفها سطور أخرى، خط مختلف لونه زيتوني وكلمات مختلفة أيضاً، صاحت أنجيس في دهشة وانبهار، وسمع الجميع صيحتها، خرج الطباخ من خيمته، وأطل الكهنة من نوافذهم الصغيرة، وجاء الترجمان جرياً، وأسرعت مرجريت إليها واحتضنتها، أشارت أنجيس إلى السطر النحيل الذي بدا واضحاً، بدأ الإنجيل القديم يعلن عن نفسه ببطء، أمسكوا بالمحلول مثل كنز ثمين، والسطور تذهب تباعا، يظهر إنجيل وراء إنجيل، متى ولوقا ومرقص ويوحنا، على مدى الأيام ولدت سطور الإنجيل من جديد، واضحة وزاهية كأنها كتبت للتو، تخرج من عمق الزمن، أربعون يوماً من العمل بدأب حذر وهم يستخدمون المادة الجديدة على الصفحات القديمة، والرهبان يراقبونهم من بعيد، ما عدا الأب جلاكتون الذي اقترح عليهم كأمين مكتبة محترف أن يبقوا في كل صفحة على السطرين الآخيرين من الكاتب السابق، وكشف الإنجيل عن سره في الصفحة الأخيرة، ظهر التاريخ الذي كتب فيه واسم الشخص الذي كتبه، كان قد كتب في القرن الثاني من مولد المسيح، وبذلك يعد أقدم وثيقة تم العثور عليها في أي دين من الأديان، تم تصوير المخطوط تمهيداً لنشره، وتعهد الرهبان بالمحافظة عليه كما حفظوه طوال السنوات الماضية، وشعرت الأختان بحزن بالغ وهما تغادران سيناء، تفارقان حلم عمرهما.
ما مصير هذا الإنجيل الآن؟
هذا الأثر الذي لا يقدر بثمن... ماذا حدث له؟ هل مازال موجوداً، هل تحلل وتلفت أوراقه، هل تمكن الرهبان من المحافظة عليه؟! أم أنه سرق بطريقة غامضة؟ الأسرار كلها موجودة خلف أسوار دير سانت كاترين ■