أسرار دير سيناء

أسرار دير سيناء

فلنسافر‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭...‬

هكذا‭ ‬قررت‭ ‬الأختان‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬واحد‭ ‬تقريبا،‭ ‬كانتا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬والدفء،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬‮«‬كليبرشان‮»‬،‭ ‬البلدة‭ ‬الأسكتلندية‭ ‬المعتمة‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬بيتهما‭ ‬وقبر‭ ‬أبيهما،‭ ‬كانت‭ ‬التوأمان‭ ‬أنجيس‭ ‬وشقيقتها‭ ‬مرجريت‭ ‬تعيشان‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أبيهما‭ ‬المحامي‭ ‬الثري‭ ‬جون‭ ‬سميث،‭ ‬وكان‭ ‬بينهم‭ ‬اتفاق،‭ ‬كل‭ ‬لغة‭ ‬يتعلمانها‭ ‬يسافران‭ ‬لبلدها،‭ ‬تعلمتا‭ ‬الفرنسية‭ ‬فأخذهما‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬لكنه‭ ‬مات‭ ‬فجأة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬زرع‭ ‬فيهما‭ ‬حب‭ ‬السفر‭ ‬واكتشاف‭ ‬الأماكن،‭ ‬الغريبة‭. ‬

‮«‬أنجيس‮»‬‭ ‬الكبرى‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬فكرة‭ ‬السفر‭ ‬لمصر،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬هبطت‭ ‬للعالم‭ ‬قبل‭ ‬أختها‭ ‬بعشر‭ ‬دقائق‭ ‬تقريباً،‭ ‬وكانت‭ ‬أكثر‭ ‬ارتباطاً‭ ‬بالكنيسة‭ ‬وقصص‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬وتريد‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬معلومات‭ ‬مؤكدة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬البلد،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬النيل‭ ‬يجري‭ ‬فيه،‭ ‬ويحكمه‭ ‬تركي‭ ‬اسمه‭ ‬الخديوي‭ ‬إسماعيل،‭ ‬وهو‭ ‬مليء‭ ‬بالأماكن‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬الزيارة،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬أخبار‭ ‬أخرى،‭ ‬مشروع‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬أوشك‭ ‬على‭ ‬الانتهاء،‭ ‬ستتصل‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬بالأحمر،‭ ‬وسيختصر‭ ‬طريق‭ ‬إنجلترا‭ ‬إلى‭ ‬الهند‭ ‬لنصف‭ ‬الوقت،‭ ‬وكانت‭ ‬إنجلترا‭ ‬قد‭ ‬تنبأت‭ ‬بفشل‭ ‬المشروع،‭ ‬معتقدة‭  ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬سوف‭ ‬تنشق‭ ‬وتغوص‭ ‬مياهها‭ ‬في‭ ‬الأخاديد‭ ‬العميقة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬جوانبها‭ ‬ستنهار‭ ‬وتغرق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬سفن،‭ ‬ولكن‭ ‬مرت‭ ‬عشرة‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬المشروع‭ ‬وتواصل‭ ‬الحفر‭ ‬ولم‭ ‬تحدث‭ ‬الكارثة‭ ‬المنتظرة‭.‬

 

بداية‭ ‬الرحلة

في‭ ‬ديسمبر‭ ‬عام‭ ‬1869‭ ‬وصلت‭ ‬الاثنتان‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وأمسكت‭ ‬مرجريت‭ ‬أنفها‭ ‬وهي‭ ‬تهتف‭: ‬يا‭ ‬إلهي،‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬لها‭ ‬رائحة‭ ‬غريبة‭ ‬جداً،‭ ‬ولكن‭ ‬انطباع‭ ‬أنجيس‭ ‬كان‭ ‬مختلفاً،‭ ‬فبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬عام،‭ ‬فإنها‭ ‬رأت‭ ‬فيها‭ ‬مدينة‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬تخيلت‭ ‬أنها‭ ‬ستصادف‭ ‬سيدنا‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬وهو‭ ‬يتجول‭ ‬وسط‭ ‬الأزقة‭ ‬الضيقة،‭ ‬أو‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬ومعه‭ ‬زوجته‭ ‬راشيل‭ ‬وهما‭ ‬متجهان‭ ‬للسوق،‭ ‬أو‭ ‬تسمع‭ ‬صوت‭ ‬النبي‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬وهو‭ ‬يتجادل‭ ‬مع‭ ‬البائعين،‭ ‬وحين‭ ‬رأت‭ ‬واحداً‭ ‬يقود‭ ‬حماره‭ ‬تخيلت‭ ‬أنه‭ ‬يحمل‭ ‬السيدة‭ ‬مريم‭ ‬وعلى‭ ‬ذراعها‭ ‬الطفل‭ ‬يسوع‭ ‬وهما‭ ‬يهربان،‭ ‬وعندما‭ ‬جلست‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬شبرد‭ ‬وامتدت‭ ‬أمامها‭ ‬مياه‭ ‬النيل‭ ‬وهو‭ ‬ينساب،‭ ‬تخيلت‭ ‬أنها‭ ‬سوف‭ ‬ترى‭ ‬السلة‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬فيها‭ ‬أم‭ ‬موسى‭ ‬طفلها‭ ‬وتركتها‭ ‬تسبح‭ ‬مع‭ ‬الموج‭.‬

كان‭ ‬النيل‭ ‬مزدحماً‭ ‬بالسفن‭ ‬التي‭ ‬ترحل‭ ‬جنوباً،‭ ‬للشلال‭ ‬الأول‭ ‬عند‭ ‬أسوان،‭ ‬وكانتا‭ ‬تشعران‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬رحلة‭ ‬العمر‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬تكتشفا‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬التوراة‭ ‬القديمة،‭ ‬واقترح‭ ‬عليهما‭ ‬بعض‭ ‬نزلاء‭ ‬الفندق‭ ‬فكرة‭ ‬استئجار‭ ‬‮«‬دهبية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬سفينة‭ ‬صغيرة‭ ‬تسبح‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬وتتوقف‭ ‬عندما‭ ‬تشاءان،‭ ‬وهكذا‭ ‬بدأتا‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ترجمان‮»‬‭ ‬محترف،‭ ‬وظهر‭ ‬لهما‭ ‬المستر‭ ‬‮«‬كيرتيزا‮»‬،‭ ‬أحد‭ ‬رعايا‭ ‬جزيرة‭ ‬مالطا‭ ‬الذي‭ ‬يجيد‭ ‬العربية‭ ‬والإنجليزية‭ ‬والفرنسية،‭ ‬استولى‭ ‬عليهما‭ ‬في‭ ‬لمحة‭ ‬واحدة،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يتناقش‭ ‬معهما‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬أو‭ ‬يكتب‭ ‬أي‭ ‬عقد،‭ ‬كان‭ ‬يقودهما‭ ‬عبر‭ ‬الأزقّة‭ ‬الضيقة‭ ‬والمساجد‭ ‬العتيقة‭ ‬والكنائس‭ ‬المليئة‭ ‬بالأيقونات،‭ ‬خلف‭ ‬ضجيج‭ ‬الشارع‭ ‬والقمامة‭ ‬المتناثرة،‭ ‬أخذهما‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬المختبئ‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬الزمن،‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يستأجر‭ ‬‮«‬الدهبية‮»‬‭ ‬وطاقم‭ ‬البحارة‭ ‬الذي‭ ‬سيعمل‭ ‬معها،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬الريس‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬سيقود‭ ‬الجميع،‭ ‬وقبل‭ ‬موعد‭ ‬الرحيل‭ ‬أطلق‭ ‬فيها‭ ‬ثلاثاً‭ ‬من‭ ‬القطط‭ ‬حتى‭ ‬تصطاد‭ ‬الفئران‭ ‬المختبئة‭ ‬بين‭ ‬الأخشاب‭.‬

 

عبور‭ ‬الشلال

أصبحت‭ ‬‮«‬الدهبية‮»‬‭ ‬جاهزة‭ ‬للرحيل،‭ ‬ولأن‭ ‬أعياد‭ ‬الكريسماس‭ ‬كانت‭ ‬قريبة،‭ ‬فقد‭ ‬زين‭ ‬السفينة‭ ‬بالورد‭ ‬وسعف‭ ‬النخيل‭ ‬وجعلها‭ ‬تبدو‭ ‬كعروس،‭ ‬وبعد‭ ‬أيام‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬الرحيل‭ ‬بدأ‭ ‬مظهر‭ ‬الآنستين‭ ‬في‭ ‬التغير،‭ ‬لم‭ ‬تلفح‭ ‬الشمس‭ ‬وجهيهما‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬بدلت‭ ‬ألوان‭ ‬ثيابهما‭ ‬أيضاً،‭ ‬كانت‭ ‬النسوة‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬التي‭ ‬يمررن‭ ‬بها‭ ‬هن‭ ‬اللاتي‭ ‬يقمن‭ ‬بغسل‭ ‬ثيابهن،‭ ‬ومن‭ ‬النادر‭ ‬أن‭ ‬يستخدمن‭ ‬الصابون،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬كلها‭ ‬مائلة‭ ‬للون‭ ‬البني،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليمنعهن‭ ‬من‭ ‬التمتع‭ ‬بصفاء‭ ‬النيل،‭ ‬والشطآن‭ ‬الخضراء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يقطعها‭ ‬سوى‭ ‬كثبان‭ ‬الرمال،‭ ‬كأن‭ ‬مياهه‭ ‬تنساب،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أصابع‭ ‬الآلهة،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬هيرودوت،‭ ‬لذلك‭ ‬يستحم‭ ‬فيه‭ ‬المصريون‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬وفي‭ ‬المساء‭.‬

لكن‭ ‬ذروة‭ ‬الرحلة‭ ‬كانت‭ ‬عبور‭ ‬الشلال‭ ‬الأول‭ ‬عند‭ ‬أسوان،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كيرتيزا‭ ‬راغباً‭ ‬في‭ ‬المضي‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬أسوان،‭ ‬ولكن‭ ‬الأختين‭ ‬أصرّتا‭ ‬على‭ ‬اجتياز‭ ‬الشلال‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬النوبة،‭ ‬كانت‭ ‬السفن‭ ‬مكدسة‭ ‬بالفعل‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬العبور،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬سفينة‭ ‬أخرى‭ ‬ضخمة‭ ‬غائصة‭ ‬في‭ ‬الطين‭ ‬وسط‭ ‬جلاميد‭ ‬الصخور،‭ ‬وأخذ‭ ‬كيرتيزا‭ ‬يصيح‭ ‬بهما‭ ‬أن‭ ‬سفينتهما‭ ‬سوف‭ ‬تتحطم‭ ‬مثلها‭ ‬تماماً‭ ‬إذا‭ ‬أصرتا‭ ‬على‭ ‬المجازفة،‭ ‬واستمر‭ ‬زحام‭ ‬السفن‭ ‬العاطلة‭ ‬مدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام،‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬ضابطان‭ ‬من‭ ‬جيش‭ ‬الخديوي،‭ ‬وأحضرا‭ ‬خمسين‭ ‬رجلاً‭ ‬من‭ ‬النوبيين‭ ‬الأشداء،‭ ‬وقفت‭ ‬الأختان‭ ‬مبهورتين‭ ‬تتأملان‭ ‬أجسادهم‭ ‬السوداء‭ ‬اللامعة‭ ‬وهم‭ ‬يحيطون‭ ‬السفينة‭ ‬المغروسة‭ ‬بالحبال‭ ‬ثم‭ ‬يبدأون‭ ‬في‭ ‬جذبها‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يكفون‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬‮«‬يا‭ ‬مهوّن‭... ‬هوّنها‭ ‬علينا‮»‬‭. ‬

انزلقت‭ ‬‮«‬الدهبية‮»‬‭ ‬أخيراً‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬النوبة،‭ ‬أرض‭ ‬‮«‬كوش‮»‬‭ ‬القديمة‭ ‬كما‭ ‬ذكرتها‭ ‬التوراة،‭ ‬وسط‭ ‬جلاميد‭ ‬الصخر‭ ‬المحفور‭ ‬عليها‭ ‬أسرار‭ ‬الحياة،‭ ‬الصخور‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬رآها‭ ‬نبي‭ ‬الله‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬طفولته،‭ ‬وبعد‭ ‬أسبوع‭ ‬من‭ ‬الإبحار‭ ‬وصلتا‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬مصر‭ ‬الفرعونية‭ ‬عندما‭ ‬شاهدتا‭ ‬معبد‭ ‬أبوسمبل‭ ‬الغارق‭ ‬في‭ ‬الرمال‭ ‬ولا‭ ‬يبدو‭ ‬منه‭ ‬غير‭ ‬الجزء‭ ‬العلوي‭ ‬للملك‭ ‬رمسيس‭ ‬الثاني‭ ‬وزوجته‭ ‬نفرتاري‭ ‬جميلة‭ ‬الجميلات‭.‬

 

إنجيل‭ ‬سيناء

بعد‭ ‬عام‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬التجول‭ ‬عادت‭ ‬الأختان‭ ‬إلى‭ ‬لندن،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قريتهما‭ ‬الصغيرة‭ ‬كافية‭ ‬لهما،‭ ‬خرجتا‭ ‬لعالم‭ ‬واسع‭ ‬وحياة‭ ‬جديدة،‭ ‬وبدأت‭ ‬أنجيس‭ ‬في‭ ‬تأليف‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬رحلتها‭ ‬للشرق،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أعماقها‭ ‬مؤلفة‭ ‬روائية،‭ ‬كتبت‭ ‬روايتين‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬لهما‭ ‬النجاح،‭ ‬ولكن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الحج‭ ‬للشرق‮»‬‭ ‬لفت‭ ‬الأنظار‭ ‬إليها،‭ ‬وبدأت‭ ‬تجني‭ ‬بعض‭ ‬الشهرة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬وقعت‭ ‬مرجريت‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬تقابلت‭ ‬مع‭ ‬جيمس‭ ‬جيبسون‭ ‬الذي‭ ‬يكبرها‭ ‬بسبعة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً،‭ ‬كان‭ ‬أسكتلندياً‭ ‬مثلها‭ ‬ويتشارك‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬خاصة‭ ‬صحراء‭ ‬سيناء،‭ ‬تزوجته‭ ‬سريعاً،‭ ‬وجدت‭ ‬أنجيس‭ ‬نفسها‭ ‬وحيدة‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬وكعادتها‭ ‬عكفت‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬اللغات‭ ‬وخاصة‭ ‬العربية،‭ ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬صعبة،‭ ‬ولكن‭ ‬جرس‭ ‬الألفاظ‭ ‬أعاد‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرتها‭ ‬رحلتها‭ ‬مع‭ ‬أختها‭ ‬لمصر،‭ ‬وبدأت‭ ‬تفكر‭ ‬جدياً‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إليها،‭ ‬لكن‭ ‬الحرب‭ ‬كانت‭ ‬مشتعلة‭ ‬هناك،‭ ‬انتبهت‭ ‬بريطانيا‭ ‬فجأة‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬قناة‭ ‬السويس،‭ ‬وأحست‭ ‬أنها‭ ‬أخطأت‭ ‬حين‭ ‬تركت‭ ‬منفذاً‭ ‬بحرياً‭ ‬مهماً‭ ‬مثل‭ ‬هذا،‭ ‬وأخذت‭ ‬تتحين‭ ‬الفرص‭ ‬حتى‭ ‬تقفز‭ ‬عليه،‭ ‬وتمكن‭ ‬جيشها‭ ‬بالفعل‭ ‬من‭ ‬هزيمة‭ ‬جيش‭ ‬الفلاحين‭ ‬الذي‭ ‬يقوده‭ ‬عرابي‭.‬

رحلت‭ ‬أنجيس‭ ‬وحدها‭ ‬لليونان‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬ترتح‭ ‬لها‭ ‬كثيراً،‭ ‬كانت‭ ‬أثينا‭ ‬مليئة‭ ‬بالحانات‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬ينبغي،‭ ‬وغادرتها‭ ‬إلى‭ ‬قبرص،‭ ‬وعندما‭ ‬كانت‭ ‬تجلس‭ ‬أمام‭ ‬الميناء‭ ‬كانت‭ ‬تجد‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬السفن‭ ‬تتجه‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬كانت‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ ‬قد‭ ‬غيرت‭ ‬كل‭ ‬خطوط‭ ‬الملاحة،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬تقفز‭ ‬في‭ ‬إحداها‭ ‬وتهبط‭ ‬في‭ ‬السويس،‭ ‬أقرب‭ ‬نقطة‭ ‬تستطيع‭ ‬العبور‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬سيناء،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬سمعت‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬دير‭ ‬سانت‭ ‬كاترين،‭ ‬وعن‭ ‬الرهبان‭ ‬اليونانيين‭ ‬الذين‭ ‬يقيمون‭ ‬فيه،‭ ‬والمخطوطات‭ ‬النادرة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬خزائنه،‭ ‬وكان‭ ‬زوج‭ ‬أختها‭ ‬جيبسون‭ ‬قد‭ ‬حكى‭ ‬لها‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬مشاهداته‭ ‬أثناء‭ ‬رحلته‭ ‬لمصر،‭ ‬ولأنه‭ ‬يهتم‭ ‬كثيراً‭ ‬بالمخطوطات‭ ‬القديمة،‭ ‬فقد‭ ‬حكى‭ ‬لها‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الألماني‭ ‬فون‭ ‬تشندروف‭ ‬وقصته‭ ‬مع‭ ‬رهبان‭ ‬الدير،‭ ‬فقد‭ ‬اكتشف‭ ‬في‭ ‬مكتبتهم‭ ‬أقدم‭ ‬إنجيل‭ ‬معروف‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض،‭ ‬كان‭ ‬باحثاً‭ ‬ورساماً‭ ‬ألمانياً،‭ ‬تخصص‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأناجيل‭ ‬القديمة‭ ‬النادرة،‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬وفينيسيا‭ ‬ولندن‭ ‬يفتش‭ ‬في‭ ‬مكتباتها‭ ‬القديمة،‭ ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬إنجيل‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬يعود‭ ‬فقط‭ ‬للقرن‭ ‬العاشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬لذلك‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬للشرق‭ ‬،‭ ‬مهد‭ ‬المسيحية‭.‬

‭ ‬زار‭ ‬الأديرة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬ثم‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬أقدمها،‭ ‬دير‭ ‬سانت‭ ‬كاترين‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬سيناء،‭ ‬كان‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الروماني‭ ‬جستنيان‭ ‬قد‭ ‬بناه‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‭ ‬تخليداً‭ ‬لروح‭ ‬القديسة‭ ‬كاترين‭ ‬التي‭ ‬استشهدت‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬جاء‭ ‬تشندروف‭ ‬يحمل‭ ‬خطاباً‭ ‬من‭ ‬أسقف‭ ‬الدير‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وسمح‭ ‬له‭ ‬الرهبان‭ ‬بالدخول،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬بوابة‭ ‬للدير،‭ ‬لذلك‭ ‬أدلوا‭ ‬له‭ ‬سلة‭ ‬ليضع‭ ‬نفسه‭ ‬فيها‭ ‬ويرفعوه‭ ‬لأعلى،‭ ‬وسمحوا‭ ‬له‭ ‬بالإقامة‭ ‬داخل‭ ‬الدير‭ ‬مدة‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد،‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الدير‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مليئة‭ ‬بالمخطوطات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ترتب‭ ‬أو‭ ‬تفحص‭.‬

‭ ‬ولم‭ ‬يلفت‭ ‬نظره‭ ‬المجلدات‭ ‬المتراصة‭ ‬فوق‭ ‬الأرفف،‭ ‬ولكن‭ ‬كومة‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬كانت‭ ‬ملقاة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأركان‭ ‬ومجهزة‭ ‬للحرق‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬استأثرت‭ ‬باهتمامه،‭ ‬طلب‭ ‬أن‭ ‬يفحصها‭ ‬ووافق‭ ‬أمين‭ ‬المكتبة‭ ‬بلا‭ ‬مبالاة،‭ ‬بدأ‭ ‬يقلب‭ ‬في‭ ‬الصفحات‭ ‬المتناثرة،‭ ‬كتابات‭ ‬باللغة‭ ‬السريانية‭ ‬والآرامية‭ ‬واليونانية،‭ ‬مختلطة‭ ‬بصفحات‭ ‬أخرى‭ ‬مكتوبة‭ ‬بالعربية،‭ ‬أعاد‭ ‬ترتيبها‭ ‬لعلها‭ ‬تؤدي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬شيء،‭ ‬جمع‭ ‬خمسين‭ ‬صفحة‭ ‬متشابهة‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬ولون‭ ‬الورق،‭ ‬مكتوبة‭ ‬باليونانية،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متأكداً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شيئاً‭ ‬ذا‭ ‬أهمية،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬البحث،‭ ‬ومزيد‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يملكها‭ ‬في‭ ‬الدير،‭ ‬ولكن‭ ‬أيام‭ ‬ضيافته‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭. ‬وغادر‭ ‬الدير‭ ‬ومعه‭ ‬الصفحات‭ ‬الخمسون‭ ‬التي‭ ‬جمعها،‭ ‬وفي‭ ‬بلدته‭ ‬‮«‬ليبزج‮»‬‭ ‬اكتشف‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الدير‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬كانت‭ ‬الصفحات‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬إنجيل‭ ‬قديم‭ ‬يعود‭ ‬تاريخه‭ ‬للقرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي،‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬إنجيل‭ ‬آخر‭ ‬رآه،‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقلب‭ ‬مكتبة‭ ‬الدير‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬حتى‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬المخطوط،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬أقوى‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬الرهبان‭ ‬في‭ ‬طريقه‭. ‬

سافر‭ ‬تشندروف‭ ‬إلى‭ ‬روسيا‭ ‬لمقابلة‭ ‬القيصر،‭ ‬الراعي‭ ‬الأكبر‭ ‬للدير،‭ ‬وتمكن‭ ‬من‭ ‬مقابلته‭ ‬وأراه‭ ‬الصفحات‭ ‬التي‭ ‬جمعها،‭ ‬وأرسل‭ ‬معه‭ ‬القيصر‭ ‬خطاباً‭ ‬إلى‭ ‬كبير‭ ‬الأساقفة‭ ‬يطلب‭ ‬تسهيل‭ ‬كل‭ ‬وسائل‭ ‬البحث‭ ‬له،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الدير‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يجرؤ‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬الاعتراض‭ ‬على‭ ‬وجوده،‭ ‬أخذ‭ ‬يفتش‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬يريدها‭ ‬حتى‭ ‬اكتشف‭ ‬بقية‭ ‬المخطوط،‭ ‬كتاب‭ ‬ضخم‭ ‬يضم‭ ‬الأناجيل‭ ‬الأربعة‭ ‬باليونانية،‭ ‬المشكلة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مملوكاً‭ ‬للدير،‭ ‬وأحد‭ ‬نفائسه‭ ‬التاريخية،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬فيه،‭ ‬لكن‭ ‬تشندروف‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يأخذه‭ ‬ليدرسه‭ ‬ويعيد‭ ‬طباعته،‭ ‬أثر‭ ‬نفيس‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يبقى‭ ‬حبيس‭ ‬الصحراء،‭ ‬وبعد‭ ‬طول‭ ‬مفاوضات‭ ‬كتب‭ ‬تعهداً‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬المخطوط‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬للدير،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬كبير‭ ‬الرهبان‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬رفض‭ ‬طلب‭ ‬مندوب‭ ‬القيصر،‭ ‬فسمح‭ ‬له‭ ‬بالخروج‭ ‬ومعه‭ ‬المخطوط،‭ ‬وانتشر‭ ‬الخبر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬أوربا،‭ ‬وأصبح‭ ‬تشندروف‭ ‬بطلاً،‭ ‬انفتحت‭ ‬أمامه‭ ‬أبواب‭ ‬مراكز‭ ‬البحث‭ ‬التاريخية‭ ‬والدينية،‭ ‬ودعي‭ ‬لإلقاء‭ ‬المحاضرات‭ ‬في‭ ‬محافلها‭ ‬العلمية‭.‬

‭ ‬ولكن‭ ‬أهم‭ ‬الدعوات‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬القيصر‭ ‬الأعظم‭ ‬لروسيا،‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬المخطوط‭ ‬الأثري،‭ ‬وعندما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬كان‭ ‬القيصر‭ ‬مهتماً‭ ‬بفحصه،‭ ‬تناوله‭ ‬منه‭ ‬ووضعه‭ ‬على‭ ‬ركبتيه،‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬المخطوط‭ ‬مكتوباً‭ ‬بالروسية‭ ‬القديمة،‭ ‬ثم‭ ‬أشار‭ ‬لتشندروف‭ ‬بانتهاء‭ ‬المقابلة‭ ‬والمخطوط‭ ‬مازال‭ ‬على‭ ‬ركبتيه،‭ ‬انحنى‭ ‬الباحث‭ ‬أمامه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬ولكن‭ ‬القيصر‭ ‬ظل‭ ‬يراقبه‭ ‬بعينين‭ ‬باردتين،‭ ‬وعندما‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬القاعة‭ ‬انتظر‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬الردهة‭ ‬متوقعاً‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬أي‭ ‬خادم‭ ‬حاملاً‭ ‬المخطوط،‭ ‬وظل‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬ينتظر‭ ‬لأيام‭ ‬طويلة،‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬أي‭ ‬رسول‭ ‬من‭ ‬القصر،‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬إلحاح‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يقابل‭ ‬مسؤولاً‭ ‬روسيّاً‭ ‬رفيعاً،‭ ‬وأفهمه‭ ‬المسؤول‭ ‬ببساطة‭ ‬أن‭ ‬الدير‭ ‬كله‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬القيصر،‭ ‬وهذا‭ ‬المخطوط‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬ممتلكاته،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬تشندروف‭ ‬سبيلاً‭ ‬غير‭ ‬مغادرة‭ ‬روسيا‭ ‬محسوراً‭.‬

‭ ‬اختفى‭ ‬المخطوط‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬أعين‭ ‬العالم،‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بحوالي‭ ‬تسعين‭ ‬عاماً،‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1933‭ ‬عندما‭ ‬اتصل‭ ‬جوزيف‭ ‬ستالين‭ ‬بالحكومة‭ ‬البريطانية‭ ‬يعرض‭ ‬أن‭ ‬يبيع‭ ‬لها‭ ‬إنجيل‭ ‬سيناء‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفه‭ ‬تشندروف،‭ ‬كانت‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬العملة‭ ‬الصعبة،‭ ‬وباعت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬كنوزها‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬متحف‭ ‬‮«‬الأرميتاج‮»‬‭ ‬للثري‭ ‬الأمريكي‭ ‬أندرو‭ ‬مالون‭ ‬مؤسس‭ ‬متحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬نيويورك،‭ ‬وكان‭ ‬الثمن‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬الإنجيل‭ ‬هو‭ ‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬إسترليني،‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬سعر‭ ‬أي‭ ‬مخطوط‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وفتحت‭ ‬بريطانيا‭ ‬باب‭ ‬الاكتتاب‭ ‬العام،‭ ‬واستطاعت‭ ‬أن‭ ‬تجمع‭ ‬نصف‭ ‬المبلغ‭ ‬من‭ ‬التبرعات‭ ‬ودفعت‭ ‬الخزانة‭ ‬البريطانية‭ ‬النصف‭ ‬الثاني،‭ ‬وانتقل‭ ‬الإنجيل‭ ‬إلى‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني‭ ‬ومازال‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬بثمن‭.‬

خيل‭ ‬لأنجيس‭ ‬أنها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬حلماً‭ ‬مثل‭ ‬هذا،‭ ‬ترحل‭ ‬إلى‭ ‬الدير‭ ‬وتكتشف‭ ‬مخطوطاً‭ ‬مماثلاً،‭ ‬ولكنها‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬السويس‭ ‬سريعاً‭ ‬وتعود‭ ‬إلى‭ ‬لندن،‭ ‬كان‭ ‬مرض‭ ‬جيبسون‭ ‬قد‭ ‬تفاقم،‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يقاوم‭ ‬داء‭ ‬الصدر،‭ ‬غادرت‭ ‬الروح‭ ‬جسده‭ ‬العليل،‭ ‬وعادت‭ ‬الأختان‭ ‬وحيدتين‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وكانت‭ ‬مرجريت‭ ‬شديدة‭ ‬الحزن،‭ ‬ولكن‭ ‬أختها‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬حياة‭ ‬الأرملة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬تعزية‭ ‬غير‭ ‬الرحيل‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬لندن‭ ‬الكئيبة،‭ ‬وهكذا‭ ‬بعد‭ ‬سبعة‭ ‬أشهر‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬جيبسون‭ ‬قررت‭ ‬الأختان‭ ‬معاودة‭ ‬حلمهما‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬إلى‭ ‬دير‭ ‬سانت‭ ‬كاترين‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬رحلة‭ ‬صعبة‭ ‬وخطيرة،‭ ‬ولكنهما‭ ‬كانتا‭ ‬متحمستين،‭ ‬سوف‭ ‬تستكملان‭ ‬جغرافيا‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬وتريان‭ ‬جبل‭ ‬موسى‭ ‬وشجرة‭ ‬العليق‭ ‬المحترقة،‭ ‬وتشربان‭ ‬من‭ ‬الآبار‭ ‬التي‭ ‬تفجرت‭ ‬حتى‭ ‬تسقي‭ ‬قومه،‭ ‬وتلمسان‭ ‬التربة‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬منها‭ ‬ألواح‭ ‬الوصايا‭ ‬العشر،‭ ‬ولكن‭ ‬دخول‭ ‬الدير‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سهلاً،‭ ‬كيف‭ ‬تقتحم‭ ‬امرأتان‭ ‬عالم‭ ‬الرهبان‭ ‬المتبتلين؟‭ ‬عكفتا‭ ‬على‭ ‬تجهيز‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خطاب‭ ‬للتوصية،‭ ‬خطاب‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬كامبريدج،‭ ‬وخطاب‭ ‬من‭ ‬أسقف‭ ‬الكنيسة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وعندما‭ ‬وصلتا‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬سارعتا‭ ‬بمقابلة‭ ‬أسقف‭ ‬سيناء‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬خطاب‭ ‬ثالث‭ ‬منه،‭ ‬وخطاب‭ ‬رابع‭ ‬من‭ ‬المعتمدية‭ ‬البريطانية‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭.‬

كانتا‭ ‬سعيدتي‭ ‬الحظ‭ ‬حين‭ ‬عثرتا‭ ‬على‭ ‬الترجمان‭ ‬المناسب،‭ ‬واشترتا‭ ‬خيمتين‭ ‬كبيرتين‭ ‬من‭ ‬جلد‭ ‬الماعز،‭ ‬واتفق‭ ‬الترجمان‭ ‬مع‭ ‬رجال‭ ‬البدو‭ ‬الذين‭ ‬سيقودونهما،‭ ‬وساعدهما‭ ‬في‭ ‬إحضار‭ ‬المعدات‭ ‬التي‭ ‬شحناها‭ ‬من‭ ‬لندن،‭ ‬فلتر‭ ‬متحرك‭ ‬لتنقية‭ ‬المياه،‭ ‬وكاميرا‭ ‬للتصوير‭ ‬وحوالي‭ ‬ألف‭ ‬فيلم‭ ‬فوتوغرافي،‭ ‬وقام‭ ‬بتجهيز‭ ‬بقية‭ ‬معدات‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المقرر‭ ‬أن‭ ‬تستغرق‭ ‬حوالي‭ ‬خمسين‭ ‬يوماً،‭ ‬تسعة‭ ‬منها‭ ‬للرحلة‭ ‬والبقية‭ ‬داخل‭ ‬الدير،‭ ‬وهكذا‭ ‬سافرتا‭ ‬سريعاً‭ ‬إلى‭ ‬ضفة‭ ‬القناة‭ ‬ونقلتهما‭ ‬القوارب‭ ‬للضفة‭ ‬الأخرى،‭ ‬إلى‭ ‬سيناء،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬انتظارهما‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬جملاً،‭ ‬أربعة‭ ‬للركوب‭ ‬والبقية‭ ‬لحمل‭ ‬الأمتعة‭ ‬والصناديق‭ ‬والخيام‭ ‬والطعام‭ ‬وأقفاص‭ ‬الدجاج‭ ‬الحية‭ ‬وصندوق‭ ‬للأدوية‭ ‬والمعدات‭ ‬الطبية،‭ ‬وموقد‭ ‬للطهي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬بدوياً‭ ‬يقودهم‭ ‬شيخهم،‭ ‬يرتدون‭ ‬جميعاً‭ ‬عباءات‭ ‬بيضاء،‭ ‬وكان‭ ‬ركوب‭ ‬الجمل‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة‭ ‬شيئاً‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الإرهاق،‭ ‬لذلك‭ ‬فضلتا‭ ‬السير‭.‬

‭ ‬وبعد‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬المتواصل‭ ‬وصلتا‭ ‬إلى‭ ‬أول‭ ‬نقطة‭ ‬في‭ ‬الرحلة،‭ ‬عيون‭ ‬موسى،‭ ‬وهي‭ ‬واحة‭ ‬صحراوية‭ ‬صغيرة‭ ‬تروى‭ ‬من‭ ‬البئر‭ ‬التي‭ ‬تتدفق‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬وحيث‭ ‬شربت‭ ‬العذراء‭ ‬مريم‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬هروبها‭ ‬من‭ ‬فلسطين،‭ ‬وبعد‭ ‬سبعة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬الحثيث‭ ‬أطلّتا‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬التلال‭ ‬العالية‭ ‬على‭ ‬الوادي‭ ‬السحيق‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬الدير،‭ ‬سارتا‭ ‬في‭ ‬الممر‭ ‬المؤدي‭ ‬للدير،‭ ‬تحيط‭ ‬بهما‭ ‬أشجار‭ ‬السدر‭ ‬والزيتون،‭ ‬كان‭ ‬ديراً‭ ‬صحراوياً‭ ‬بسيطاً،‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬بالكنائس‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬تركتاها‭ ‬خلفهما‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬سور‭ ‬عال‭ ‬متين‭ ‬ليحميه‭ ‬من‭ ‬غزوات‭ ‬البدو،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬قليلة‭ ‬ونادرة،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬بوابة‭ ‬في‭ ‬السور‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬رفعهما‭ ‬معاً‭ ‬في‭ ‬السلة،‭ ‬واستقبلهما‭ ‬الرهبان‭ ‬بالترحاب،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفوا‭ ‬أن‭ ‬أنجيس‭ ‬تجيد‭ ‬التحدث‭ ‬باليونانية،‭ ‬وتعرف‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬أخبار‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬السماح‭ ‬لهما‭ ‬بالإقامة‭ ‬داخل‭ ‬الدير،‭ ‬بين‭ ‬رهبان‭ ‬عاشوا‭ ‬معظم‭ ‬أعمارهم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقتربوا‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬حقيقية،‭ ‬سمحوا‭ ‬لهما‭ ‬فقط‭ ‬بنصب‭ ‬الخيام‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬بجانب‭ ‬سور‭ ‬الدير‭ ‬والتردد‭ ‬على‭ ‬المكتبة‭ ‬خلال‭ ‬النهار‭.‬

كان‭ ‬الأب‭ ‬جلاكتون‭ ‬أمين‭ ‬المكتبة‭ ‬قد‭ ‬التحق‭ ‬بسلك‭ ‬الرهبنة‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬مغلق‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬لا‭ ‬همّ‭ ‬لهم‭ ‬إلا‭ ‬الصلاة‭ ‬والتعبد،‭ ‬لذا‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬منجذباً‭ ‬بشدة‭ ‬للبقاء‭ ‬بجانب‭ ‬التوأمين‭ ‬لأطول‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الوقت،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقاوم‭ ‬أي‭ ‬طلب‭ ‬لهما،‭ ‬كانت‭ ‬أنجيس‭ ‬تحدثه‭ ‬باليونانية‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬غريب‭ ‬لا‭ ‬يعرفه،‭ ‬ولا‭ ‬يتصور‭ ‬وجوده،‭ ‬أخذهما‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬داخل‭ ‬الدير‭ ‬وأراهما‭ ‬معالمه،‭ ‬البئر‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬فيها‭ ‬سيدنا‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬حين‭ ‬رفع‭ ‬الحجر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسد‭ ‬فوهتها،‭ ‬وشجرة‭ ‬العليق‭ ‬التي‭ ‬أمر‭ ‬الله‭ ‬موسى‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬إليها،‭ ‬فإذا‭ ‬النار‭ ‬مشتعلة‭ ‬فيها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحرقها،‭ ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬أخذهما‭ ‬للمكتبة،‭ ‬أخذتا‭ ‬تفحصان‭ ‬المجلدات‭ ‬المختلفة،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المخطوطات‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬نادرة،‭ ‬لا‭ ‬توازي‭ ‬المخطوط‭ ‬الذي‭ ‬عثر‭ ‬عليه‭ ‬تشندروف،‭ ‬شعرتا‭ ‬بخيبة‭ ‬أمل‭ ‬حقيقية،‭ ‬لم‭ ‬تثمر‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الطويلة‭ ‬الشاقة‭ ‬شيئاً،‭ ‬ولكن‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬الخيمة‭ ‬كانت‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الصعوبة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬عندما‭ ‬تهبط‭ ‬درجة‭ ‬حرارة‭ ‬الوادي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬الصفر،‭ ‬ولكنهما‭ ‬لم‭ ‬تفكرا‭ ‬في‭ ‬الرحيل،‭ ‬ظلتا‭ ‬تعاودان‭ ‬البحث‭ ‬وسط‭ ‬الأرفف‭ ‬المعبأة‭ ‬بالغبار،‭ ‬والأب‭ ‬جلاكتون‭ ‬ينظر‭ ‬إليهما‭ ‬في‭ ‬إشفاق‭.‬

 

في‭ ‬السرداب‭ ‬المظلم

وأخيراً،‭ ‬اعترف‭ ‬لهما‭  ‬الأب‭ ‬جلاكتون‭ - ‬في‭ ‬خجل‭ - ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خزانة‭ ‬في‭ ‬سرداب‭ ‬أسفل‭ ‬المكتبة،‭ ‬لم‭ ‬يهبط‭ ‬إليها‭ ‬أحد‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬مات‭ ‬الراهب‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬اللغة‭ ‬السريانية،‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬الشرقية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬يستخدمها،‭ ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬الشموع‭ ‬هبط‭ ‬ثلاثتهم‭ ‬على‭ ‬الدرج‭ ‬الصخري،‭ ‬كان‭ ‬القبو‭ ‬حاراً‭ ‬خانقاً‭ ‬دون‭ ‬نسمة‭ ‬هواء،‭ ‬والخزانة‭ ‬الخشبية‭ ‬منزوية‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأركان‭ ‬وسط‭ ‬بقايا‭ ‬أثاث‭ ‬محطم‭ ‬وصخور‭ ‬ناتئة،‭ ‬كان‭ ‬داخلها‭ ‬صندوقان‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬محفور‭ ‬عليهما‭ ‬خطوط‭ ‬غائرة‭ ‬مليئة‭ ‬بالسواد،‭ ‬الصندوق‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬مليئاً‭ ‬بصور‭ ‬وأيقونات‭ ‬قديمة،‭ ‬أما‭ ‬الثاني‭ ‬فيحتوي‭ ‬على‭ ‬مجلدين‭ ‬ضخمين،‭ ‬الأصغر‭ ‬منهما‭ ‬كان‭ ‬مكتوباً‭ ‬باليونانية‭ ‬القديمة،‭ ‬وبدا‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬العنوان‭ ‬أنه‭ ‬منقول‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬كتب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬أرسطو،‭ ‬أما‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ملتصق‭ ‬الصفحات،‭ ‬مكسواً‭ ‬برماد‭ ‬أسود،‭ ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬فتحه‭ ‬بالقوة‭ ‬وإلا‭ ‬تفتتت‭ ‬الصفحات،‭ ‬حملوه‭ ‬في‭ ‬حذر‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬ليفحصوه‭ ‬تحت‭ ‬الضوء،‭ ‬في‭ ‬الخيمة‭ ‬المنصوبة‭ ‬بالحديقة،‭ ‬جلس‭ ‬الثلاثة‭ ‬متقاربي‭ ‬الرؤوس‭ ‬وهم‭ ‬يفتحونه،‭ ‬كان‭ ‬مكتوباً‭ ‬بالسريانية،‭ ‬صفحاته‭ ‬ملتصقة‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض،‭ ‬كتلة‭ ‬مغطاة‭ ‬بتراب‭ ‬الزمن،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬لهما‭ ‬خبرتهما‭ ‬الخاصة‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬وسائل‭ ‬حفظ‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬كامبردج،‭ ‬أشعلا‭ ‬النار‭ ‬تحت‭ ‬وعاء‭ ‬صنع‭ ‬الشاي،‭ ‬والراهب‭ ‬يراقبهما‭ ‬مندهشاً‭ ‬وهما‭ ‬يعرضان‭ ‬الصفحات‭ ‬الملتصقة‭ ‬للبخار،‭ ‬والغبار‭ ‬يذوب‭ ‬بنعومة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمس‭ ‬تماسك‭ ‬الصفحات،‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬بدأ‭ ‬المخطوط‭ ‬الغامض‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬أسراره،‭ ‬كان‭ ‬مخطوطاً‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬القديسات،‭ ‬شعرت‭ ‬مرجريت‭ ‬بخيبة‭ ‬أمل‭ ‬شديدة،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬أحضرت‭ ‬معها‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأفلام‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬عبثاً،‭ ‬ولكن‭ ‬تعرض‭ ‬صفحات‭ ‬المخطوط‭ ‬للضوء‭ ‬والهواء‭ ‬النقي‭ ‬فعل‭ ‬شيئاً‭ ‬غريباً،‭ ‬أصبحت‭ ‬السطور‭ ‬الظاهرة‭ ‬باهتة‭ ‬وكشفت‭ ‬عن‭ ‬سطور‭ ‬أخرى‭ ‬خلفها،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬نص‭ ‬حديث‭ ‬نسبياً‭ ‬مكتوباً‭ ‬فوق‭ ‬نص‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬قدماً،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الصفحات‭ ‬عثرتا‭ ‬على‭ ‬عنوان‭ ‬الصفحة،‭ ‬وفي‭ ‬صفحات‭ ‬أخرى‭ ‬عثرتا‭ ‬على‭ ‬سطور‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬أسفلها،‭ ‬ومن‭ ‬محتوى‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬اكتشفتا‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬القديم‭ ‬هو‭ ‬الإنجيل،‭ ‬الأناجيل‭ ‬الأربعة‭ ‬المعروفة،‭ ‬مكتوبة‭ ‬باللغة‭ ‬السريانية،‭ ‬اللغة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتكلم‭ ‬بها‭ ‬السيد‭ ‬المسيح،‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬المخطوط‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬الميلادي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬اللغة‭ ‬ويتغير‭ ‬العالم‭. ‬توقف‭ ‬الثلاثة‭ ‬مبهورين‭ ‬وهم‭ ‬يلتقطون‭ ‬أنفاسهم‭ ‬في‭ ‬صعوبة،‭ ‬لقد‭ ‬عثرتا‭ ‬على‭ ‬أقدم‭ ‬مخطوط‭ ‬مسيحي‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬إثبات‭ ‬ذلك؟‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬إخراج‭ ‬الإنجيل‭ ‬الحقيقي‭ ‬المخفي‭ ‬في‭ ‬طيات‭ ‬هذه‭ ‬الصفحات؟‭ ‬كانتا‭ ‬تعرفان‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬يخرجا‭ ‬بهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬الدير،‭ ‬تجربة‭ ‬الرهبان‭ ‬مع‭ ‬تشندروف‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتكرر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ومهما‭ ‬قيل‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬وعد‭ ‬فلن‭ ‬يثق‭ ‬الرهبان‭ ‬بالعالم‭ ‬الخارجي،‭ ‬كان‭ ‬التصرف‭ ‬الوحيد‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تصوير‭ ‬كل‭ ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬المخطوط‭ ‬تحت‭ ‬ضوء‭ ‬الصحراء‭ ‬الساطع‭ ‬لعله‭ ‬حين‭ ‬يتم‭ ‬تظهير‭ ‬الصور‭ ‬تظهر‭ ‬سطور‭ ‬الإنجيل،‭ ‬كانتا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬معجزة‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬هذا‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تخليص‭ ‬الصفحات‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬ثم‭ ‬تصويرها،‭ ‬عمل‭ ‬شاق‭ ‬تواصل‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أربعين‭ ‬يوماً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الخيمة‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬الدير‭.‬

‭ ‬

الإنجيل‭ ‬المخفي

ألف‭ ‬صورة‭ ‬فوتوغرافية،‭ ‬غير‭ ‬واضحة،‭ ‬مكتوبة‭ ‬بلغة‭ ‬مندثرة،‭ ‬سطور‭ ‬واضحة‭ ‬تخفي‭ ‬سطوراً‭ ‬مطموسة،‭ ‬اكتشاف‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬قيمة‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬تملكه‭ ‬أختان‭ ‬ليس‭ ‬لهما‭ ‬أي‭ ‬درجة‭ ‬علمية‭ ‬ولا‭ ‬يعترف‭ ‬بهما‭ ‬أحد،‭ ‬هذه‭ ‬كانت‭ ‬حصيلة‭ ‬الأربعين‭ ‬يوماً‭ ‬وليلة،‭ ‬وهكذا‭ ‬عادتا‭ ‬إلى‭ ‬لندن،‭ ‬لا‭ ‬تدريان‭ ‬كيف‭ ‬تتصرفان‭ ‬بالصور،‭ ‬كانتا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يفحصها‭ ‬ويفتح‭ ‬لهما‭ ‬الطريق‭ ‬للأوساط‭ ‬العلمية،‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬كامبردج‭.‬

‭ ‬كانتا‭ ‬قد‭ ‬تعرفتا‭ ‬إلى‭ ‬البروفيسور‭ ‬راندل‭ ‬هاريس‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬دراسات‭ ‬الإنجيل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬زوج‭ ‬الأخت‭ ‬الراحل،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬نصحهما‭ ‬بزيارة‭ ‬الدير،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬لأمريكا،‭ ‬أرسلت‭ ‬أنجيس‭ ‬إليه‭ ‬خطاباً‭ ‬مطولاً،‭ ‬ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متخصصاً‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬السريانية،‭ ‬فقد‭ ‬نصحهما‭ ‬بالاتصال‭ ‬بروبرت‭ ‬بنتلي،‭ ‬أكبر‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الشرقية‭ ‬بجامعة‭ ‬كامبردج،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬الانشغال،‭ ‬مؤتمرات‭ ‬ومحاضرات‭ ‬وسفريات،‭ ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرى‭ ‬أي‭ ‬جدوى‭ ‬في‭ ‬مقابلة‭ ‬أختين‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬تبدو‭ ‬عليهما‭ ‬ملامح‭ ‬الهوس‭ ‬بالشرق،‭ ‬وشعرت‭ ‬الأختان‭ ‬باليأس،‭ ‬ولكن‭ ‬تجربتهما‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والسفر‭ ‬علمتهما‭ ‬معنى‭ ‬الإصرار،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬صلة‭ ‬وصل‭.‬

‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬أحد‭ ‬ذهبتا‭ ‬إلى‭ ‬الكنيسة‭ ‬التي‭ ‬تصلي‭ ‬فيها‭ ‬الزوجة‭ ‬‮«‬مسز‭ ‬بنتلي‮»‬،‭ ‬ومعهما‭ ‬بعض‭ ‬الصفحات‭ ‬المصورة،‭ ‬توسلتا‭ ‬لها‭ ‬حتى‭ ‬تدع‭ ‬زوجها‭ ‬يلقي‭ ‬فقط‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصور،‭ ‬أخذت‭ ‬الزوجة‭ ‬الأوراق‭ ‬ولم‭ ‬تعدهما‭ ‬بشيء،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التنبؤ‭ ‬بمزاج‭ ‬زوجها،‭ ‬فقط‭ ‬وعدتهما‭ ‬بالرد‭ ‬عليهما‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الأحد‭ ‬التالي،‭ ‬وانصرفت‭ ‬الأختان‭ ‬محبطتين،‭ ‬أمامهما‭ ‬أسبوع‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬الانتظار،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يمر‭ ‬عليهما‭ ‬إلا‭ ‬سواد‭ ‬الليل‭ ‬حتى‭ ‬تلقتا‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬المبكر‭ ‬رسالة‭ ‬عاجلة‭ ‬من‭ ‬البروفيسور‭ ‬بنتلي،‭ ‬كان‭ ‬يستأذنهما‭ ‬في‭ ‬القدوم‭ ‬لمقابلتهما‭ ‬هو‭ ‬ومساعده‭ ‬البرفيسور‭ ‬فرانسيس‭ ‬بيركيت،‭ ‬أدركتا‭ ‬أنهما‭ ‬قد‭ ‬أصابتا‭ ‬الوتر،‭ ‬وأنهما‭ ‬تملكان،‭ ‬رغم‭ ‬غموض‭ ‬الأمر،‭ ‬أثراً‭ ‬حقيقياً،‭ ‬وفي‭ ‬الميعاد‭ ‬المحدد‭ ‬بالضبط‭ ‬جاء‭ ‬الأستاذ‭ ‬ومساعده‭ ‬الشاب،‭ ‬لم‭ ‬يلتفتا‭ ‬للشاي‭ ‬والكعك،‭ ‬كان‭ ‬همهما‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬مراجعة‭ ‬الصور‭ ‬بأكملها،‭ ‬ومعرفة‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬حصلتا‭ ‬عليها،‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حقيقي،‭ ‬أخذا‭ ‬يسألان‭ ‬عن‭ ‬أدق‭ ‬التفاصيل،‭ ‬كانا‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬اكتشاف‭ ‬جديد،‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬أهم‭ ‬وأقدم‭ ‬من‭ ‬إنجيل‭ ‬تشندروف،‭ ‬المهم‭ ‬ألا‭ ‬يتحدثا‭ ‬لأحد‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬لأنه‭ ‬لو‭ ‬شاع‭ ‬فسيتدفق‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬دير‭ ‬سانت‭ ‬كاترين،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬السر‭ ‬خارج‭ ‬دائرتهم‭ ‬إلا‭ ‬البروفيسور‭ ‬راندل‭ ‬هاريس،‭ ‬تعددت‭ ‬الاجتماعات،‭ ‬فحصا‭ ‬كل‭ ‬صورة،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬صفحات‭ ‬شديدة‭ ‬الوضوح‭ ‬بحيث‭ ‬استطاعا‭ ‬قراءة‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬إنجيل‭ ‬متى،‭ ‬وبعد‭ ‬مناقشات‭ ‬لم‭ ‬تدم‭ ‬طويلاً‭ ‬قرر‭ ‬الأستاذان‭ ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬النسخة‭ ‬الأصلية‭ ‬والعمل‭ ‬عليها‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬استطاعة‭ ‬الأستاذين‭ ‬أن‭ ‬يصحبا‭ ‬معهما‭ ‬سيدتين‭ ‬وحيدتين‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬للصحراء،‭ ‬لذلك‭ ‬قرر‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬أن‭ ‬يحضر‭ ‬زوجته،‭ ‬وعندما‭ ‬عاد‭ ‬البرفيسور‭ ‬هاريس‭ ‬من‭ ‬أمريكا‭ ‬أصرّت‭ ‬الأختان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬معهم،‭ ‬وهكذا‭ ‬تكونت‭ ‬بعثة‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬أشخاص‭ ‬تعتزم‭ ‬التوجه‭ ‬لمصر‭ ‬لاستكمال‭ ‬المهمة،‭ ‬وحافظوا‭ ‬جميعاً‭ ‬على‭ ‬السر،‭ ‬لم‭ ‬يفشوا‭ ‬أمر‭ ‬رحلتهم‭ ‬لأي‭ ‬شخص‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسبقهم‭ ‬أحد‭ ‬للدير،‭ ‬ولم‭ ‬تنس‭ ‬أنجيس‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬سمعت‭ ‬عن‭ ‬مادة‭ ‬كيميائية‭ ‬جديدة‭ ‬تحت‭ ‬التجريب‭ ‬يستخدمها‭ ‬المتحف‭ ‬لإزالة‭ ‬الأوساخ‭ ‬عن‭ ‬اللوحات‭ ‬القديمة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬ألوانها‭ ‬الأصلية،‭ ‬أخذت‭ ‬زجاجة‭ ‬منها‭ ‬وحملتها‭ ‬في‭ ‬حنان‭ ‬كأنها‭ ‬تحمل‭ ‬طفلاً،‭ ‬وتجمع‭ ‬أفراد‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬مختلفة،‭ ‬كانت‭ ‬السكة‭ ‬الحديد‭ ‬قد‭ ‬امتدت‭ ‬نحو‭ ‬السويس،‭ ‬ومنها‭ ‬أخذوا‭ ‬قارباً‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عيون‭ ‬موسى‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬الصعب‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬الدير‭ ‬الرابض‭ ‬في‭ ‬الوادي‭ ‬السحيق،‭ ‬وخرج‭ ‬الرهبان‭ ‬يرحبون‭ ‬بهم،‭ ‬خاصة‭ ‬الأب‭ ‬جلاكتون‭ ‬الذي‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬الترحيب‭ ‬بأنجيس،‭ ‬قال‭ ‬لها‭ ‬حين‭ ‬عرف‭ ‬بالمهمة‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الآخرين‭ ‬ولن‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬غيرها،‭ ‬نصبوا‭ ‬خيامهم‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬الدير،‭ ‬وسمح‭ ‬له‭ ‬الأسقف‭ ‬بالتعامل‭ ‬مع‭ ‬المخطوط،‭ ‬شريطة‭ ‬ألا‭ ‬يحاولوا‭ ‬أخذه‭ ‬خارج‭ ‬أسوار‭ ‬الدير‭.‬

بدأوا‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬كان‭ ‬المخطوط‭ ‬أصغر‭ ‬مما‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬الصور،‭ ‬وصفحاته‭ ‬أكثر‭ ‬هشاشة،‭ ‬ظلوا‭ ‬يتأملونه‭ ‬محاولين‭ ‬أن‭ ‬يحددوا‭ ‬زمنه،‭ ‬ولكن‭ ‬الإضاءة‭ ‬داخل‭ ‬مكتبة‭ ‬الدير‭ ‬كانت‭ ‬ضعيفة،‭ ‬وسمح‭ ‬لهم‭ ‬جلاكتون‭ ‬بأن‭ ‬يأخذوه‭ ‬للخارج،‭ ‬ثم‭ ‬كمبادرة‭ ‬طيبة‭ ‬منه‭ ‬سمح‭ ‬لهم‭ ‬بأن‭ ‬يحتفظوا‭ ‬به‭ ‬داخل‭ ‬معسكرهم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتولى‭ ‬أنجيس‭ ‬حراسته،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬عملهم‭ ‬يبدأ‭ ‬مع‭ ‬شروق‭ ‬الشمس،‭ ‬ولأن‭ ‬المخطوط‭ ‬كان‭ ‬صغيراً‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يسمح‭ ‬إلا‭ ‬لشخص‭ ‬واحد‭ ‬بالاطلاع‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬قسموا‭ ‬الوقت‭ ‬بينهم،‭ ‬وقد‭ ‬أدركوا‭ ‬أنهم‭ ‬أمام‭ ‬أهم‭ ‬اكتشاف‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الديانة‭ ‬المسيحية،‭ ‬وكانوا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬المعجزة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬النص‭ ‬المخفي،‭ ‬أظهرت‭ ‬له‭ ‬أنجيس‭ ‬المادة‭ ‬الكيميائية‭ ‬التي‭ ‬أخذتها‭ ‬من‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني،‭ ‬ولكن‭ ‬بنتلي‭ ‬حذرها‭ ‬من‭ ‬استخدامها،‭ ‬لأنها‭ ‬أتلفت‭ ‬مخطوطاً‭ ‬نادراً‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬كانوا‭ ‬يحاولون‭ ‬إظهار‭ ‬النص‭ ‬بواسطة‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وسوائل‭ ‬التنظيف،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬شيء،‭ ‬وتشاغلت‭ ‬أنجيس‭ ‬ومرجريت‭ ‬داخل‭ ‬مكتبة‭ ‬الدير‭ ‬بإعداد‭ ‬فهارس‭ ‬بالكتب‭ ‬الموجودة‭ ‬بها‭ ‬وإعادة‭ ‬ترتيبها،‭ ‬وعندما‭ ‬حان‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المخطوط،‭ ‬وبيد‭ ‬مرتعدة‭ ‬أمسكت‭ ‬الفرشاة‭ ‬وغمستها‭ ‬في‭ ‬زجاجة‭ ‬المحلول‭ ‬ثم‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬بنعومة‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬سطور‭ ‬المخطوط،‭ ‬وفوجئت‭ ‬بالطبقة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬وهي‭ ‬تنمحي،‭ ‬وتظهر‭ ‬من‭ ‬خلفها‭ ‬سطور‭ ‬أخرى،‭ ‬خط‭ ‬مختلف‭ ‬لونه‭ ‬زيتوني‭ ‬وكلمات‭ ‬مختلفة‭ ‬أيضاً،‭ ‬صاحت‭ ‬أنجيس‭ ‬في‭ ‬دهشة‭ ‬وانبهار،‭ ‬وسمع‭ ‬الجميع‭ ‬صيحتها،‭ ‬خرج‭ ‬الطباخ‭ ‬من‭ ‬خيمته،‭ ‬وأطل‭ ‬الكهنة‭ ‬من‭ ‬نوافذهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وجاء‭ ‬الترجمان‭ ‬جرياً،‭ ‬وأسرعت‭ ‬مرجريت‭ ‬إليها‭ ‬واحتضنتها،‭ ‬أشارت‭ ‬أنجيس‭ ‬إلى‭ ‬السطر‭ ‬النحيل‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬واضحاً،‭ ‬بدأ‭ ‬الإنجيل‭ ‬القديم‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬ببطء،‭ ‬أمسكوا‭ ‬بالمحلول‭ ‬مثل‭ ‬كنز‭ ‬ثمين،‭ ‬والسطور‭ ‬تذهب‭ ‬تباعا،‭ ‬يظهر‭ ‬إنجيل‭ ‬وراء‭ ‬إنجيل،‭ ‬متى‭ ‬ولوقا‭ ‬ومرقص‭ ‬ويوحنا،‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأيام‭ ‬ولدت‭ ‬سطور‭ ‬الإنجيل‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬واضحة‭ ‬وزاهية‭ ‬كأنها‭ ‬كتبت‭ ‬للتو،‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬الزمن،‭ ‬أربعون‭ ‬يوماً‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬بدأب‭ ‬حذر‭ ‬وهم‭ ‬يستخدمون‭ ‬المادة‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬الصفحات‭ ‬القديمة،‭ ‬والرهبان‭ ‬يراقبونهم‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬الأب‭ ‬جلاكتون‭ ‬الذي‭ ‬اقترح‭ ‬عليهم‭ ‬كأمين‭ ‬مكتبة‭ ‬محترف‭ ‬أن‭ ‬يبقوا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صفحة‭ ‬على‭ ‬السطرين‭ ‬الآخيرين‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬السابق،‭ ‬وكشف‭ ‬الإنجيل‭ ‬عن‭ ‬سره‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ظهر‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬فيه‭ ‬واسم‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬كتبه،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬مولد‭ ‬المسيح،‭ ‬وبذلك‭ ‬يعد‭ ‬أقدم‭ ‬وثيقة‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬دين‭ ‬من‭ ‬الأديان،‭ ‬تم‭ ‬تصوير‭ ‬المخطوط‭ ‬تمهيداً‭ ‬لنشره،‭ ‬وتعهد‭ ‬الرهبان‭ ‬بالمحافظة‭ ‬عليه‭ ‬كما‭ ‬حفظوه‭ ‬طوال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية،‭ ‬وشعرت‭ ‬الأختان‭ ‬بحزن‭ ‬بالغ‭ ‬وهما‭ ‬تغادران‭ ‬سيناء،‭ ‬تفارقان‭ ‬حلم‭ ‬عمرهما‭.‬

 

ما‭ ‬مصير‭ ‬هذا‭ ‬الإنجيل‭ ‬الآن؟

هذا‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬بثمن‭... ‬ماذا‭ ‬حدث‭ ‬له؟‭ ‬هل‭ ‬مازال‭ ‬موجوداً،‭ ‬هل‭ ‬تحلل‭ ‬وتلفت‭ ‬أوراقه،‭ ‬هل‭ ‬تمكن‭ ‬الرهبان‭ ‬من‭ ‬المحافظة‭ ‬عليه؟‭! ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬سرق‭ ‬بطريقة‭ ‬غامضة؟‭ ‬الأسرار‭ ‬كلها‭ ‬موجودة‭ ‬خلف‭ ‬أسوار‭ ‬دير‭ ‬سانت‭ ‬كاترين‭ ‬