كلود فيالا إمضاء بدائيّ

كلود فيالا إمضاء بدائيّ

وُلد كلود فيالا في الثامن عشر من أبريل عام 1936 في مدينة نيم جنوب فرنسا. وينتمي إلى مجموعة «محامل/ ساحات». درس الفن في مدرسة الفنون الجميلة في مونبلييه الفرنسيّة خلال الأعوام 1955 - 1959، ثمّ في مدرسة الفنون الجميلة في باريس عامي 1962 و 1963.
بدأ منذ عام 1966 مساراً تصويريّاً يقوم على البصمات المطبوعة على قماشات من دون إطار خشبيّ، تندرج ضمن نقد راديكاليّ للتجريديّة الغنائيّة والهندسيّة (تقنيّة ما يُسمّى الـ All- Over). 

 

هناك تناقض جوهريّ في تناول فيالا كتجربة استعادية. يؤكد هذا الشيء الفنان بقوله: «لا يسير عملي بناءً على تطوّر في الزمن، مسارياً. هو ينمو بشكل لولبيّ حلزونيّ، وهناك مشكلات عدّة تبرز في لحظات مختلفة من الزمن والفضاء».
عرض في البندقيّة عام 1988 سلسلة من اللوحات الملوّنة على قماش أكياس، كما فعل في عام 1966، وضع ختم طبعاته مطليّاً بالقطران على قماشة من القنّب. قام بالرسم على جهتي القماشة المعلقة في الفضاء، ممّا يسمح للمشاهد بالتنقل من جهة لأخرى ويتحسّس التصوير (اللوحات) كأحجام، هذه الفكرة التي عرضها في البندقية ليست جديدة. إن أعماله الأولى، هي أيضاً، لوّنت من الجهتين (الوجه والقفا)، وهذا الشيء عملت به مجموعة الفنانين الشباب نهاية ستينيّات القرن الماضي.
إنّ مسار فيالا، هو إذاً، عودة إلى الوراء. أعماله تقوم على أشكال مكرّرة على مدى خمسة وعشرين عاماً لن تخدمه بشيء آخر سوى امتلاك فضاء اللوحة وما وراء الفضاء بكامله. الزمن لا يلعب دوراً هنا في العمل، بل الفضاء كمكان تسجيل الشكل مجتمعاً. 
الشكل المتطابق هو أيضاً عند فيالا شكّل الهويّة. أشكاله تشبه حبّات «الفاصوليا» تحاكي بصمات الأيدي، إمضاء بدائيّ، يمكن تبريره بوصفه بديلا رمزيّا (شعاريّا) للفنان.

التشرّب باللون
إنّ لجوء الفنان للحوامل المختلفة يأخذ معنى الحرب الشخصيّة المكثفة ضدّ الزمن. 
بدأ الفنان فيالا منذ عام 1966 العمل بطريقة منظمّة على شكل واحد. «رسمتُ (...) شكلاً يشبه إلى حدّ ما باليتة الرسم، بللتها باللون السائل (جلاتين ملوّن)، وضغطت الكلّ على القماشة (...) كان العمل على الوجه والقفا». 
في البداية طُبع الشكل بطريق المصادفة، وعلى حوامل مختلفة: قماش من الكتان والقطن، وأيضاً أغطية مختلفة، أقمشة مرقطة، شراشف، ملاءات، شوادر... هناك نقطة جديرة بالملاحظة هي أنّ تقنيّة فيالا مستوحاة من عمل لاحظه في منطقة بوسط فرنسا حيث كان يسكن، يقوم هذا الشيء على دهان المطابخ بطريقة الأختام على الجدران بواسطة إسفنجة مبللة باللون. لكنّ هذه التقنيّة بتوزيع اللون تحصر عمل الفنان تحت علامة الفن التي هي إرث من التصوير الأمريكي الحديث، وبالتحديد أعمال لويس موريس ونولاند التي شاهدها فيالا في غاليري «لورنس» في باريس خلال عامي 1962 - 1963.
إن التفسير الذي أعطاه الناقد الفني كرينبرغ لأعمال نولاند وموريس في هذا المجال ينطبق على عمل فيالا: «التشرّب باللون بدلاً من أن يكون مغطى به، يتحوّل عندها القماش إلى تصوير في حدّ ذاته، إلى لون، كإسفنجة ملوّنة. البنية والقماش هما في اللون». قال فيالا إنه بدأ محاولاته بطبع الأشكال عبر استعمال يديه في الطبع، وتخلّى عنها فيما بعد لمصلحة وسائل أخرى.
يظهر في هذا العمل نسق الفنان فيالا الشكلي الذي يؤسّس على تكرار الشكل. تطلّب الأمر منذ ذلك الحين استعمال قالب، حيث يقوم الفنان بنشر وتوزيع اللون واختصار الوسائل لتنفيذ عمله، معبّراً عن همّ فتح حقل القماشة، فإنه يُظهر أيضاً همّ هروب الجماليّة، ويشهد على المعرفة التي يمتلكها الفنان عن التنظيم المكانيّ للوحة الذي افتتحه الفنان الأمريكي جاكسون بولوك. الخيار المحصور بالألوان (لون واحد أو لونان في أقصى حدّ)، هو ما يُميّز سمة اللوحة النسقية القائمة على تحريك الطبعة من اليسار إلى اليمين ومن أعلى إلى أسفل، تشبه الكتابة على ورقة.
عُرضت أعمال فيالا على قماش خال من الإطار الخشبيّ التقليديّ. «عاهدتُ نفسي منذ البداية بألا تكون لوحتي شيئاً منتهياً، موضوعاً على حائط. أنا أفضّل أن يكون بإمكانها النهوض، الانثناء، التنقل والاحتفاظ بشكل مُطلق بكلّ ليونتها»، كما صرّح الفنان.  
إنّ «تجارب» فيالا قادته إلى كل أنواع سمات القماش: تطبيق أزرق الميثيلين، والإيوزين (مادّة لونيّة حمراء)، قطران، قماشات مُجعّدة، معروضة تحت الأمطار، على شاطئ البحر، تحت الشمس، إلخ. لكنّ فضوله لا يعرف حدوداً، يُضاف إليها رغبته في إخراج التصوير من المتاحف والغاليريهات، حرّضته على «رغبة الفعل» تجاوزت بشكل كبير حدود القماشة. من وجهة النظر هذه زخرت سنوات 1969 - 1974 بالعطاء. عرض خلالها أعمالاً غلبت عليها صفة النحت، خيوط من الحبال، بعقد متروكة كما هي أو مبللة باللون، أو قد نجد آثاراً لهذه الحبال مطبوعة على القماشة، أو كرات من الطحالب، أو قطعاً من الخشب، أو حصاة، إلخ.

السخرية والفن
 إنّ دلالة هذه «الحرتقات» غير واضحة. إنّ العمل على الحبال والعقد يبدو كانعكاس في الفراغ، أو كامتداد لفكرة الإسفنجة التي بدأ بها. أمّا بصمات الأيدي والأصابع على الحصى وعلى الخشب العائم على الماء فيبدو كتقليد أو محاكاة لما كان يحصل في كهوف ما قبل التاريخ، علماً بأنه كان قد زار أحد هذه الكهوف عام 1972 في غارغاس. هذا العمل يقود إلى سؤال كان الفنان قد طرحه: «في أيّ لحظة من حياتنا نستطيع الحديث عن التصوير؟».
التقى فيالا الفنان راوول هوسمان في الأعوام 1967 - 1973 وتأثّر به، وقال حينها: «هو حمل إليّ الكثير (...) أفهمني أنّ العمل الفنيّ ليــــس جديّاً، ويجـــــب أن نسخر كثيراً أثناء تنفيذه». هذه السخرية هي سمة من سمات فنون ما بعد الحداثة.
إنّ البصمات الأولى المتعدّدة الألوان ظهرت عامي 1973 و 1974، وهي تمثل مرحلة مُهمّة في مسار فيالا. هذه الأعمال القائمة على إمكانات اللون تعكس نضجاً حصل في حضن حركة «حامل/ مسطّح».
مغامرة فيالا التصويريّة لم يكن لها أن تأخذ مداها الذي نعرفه إذا لم يتغذّ من هذا العشق للحامل «المستعاد» أو «المحوّل» الذي يعمل عليه. نشير إلى أنه، منذ السنوات الأولى لعطائه، قد استعمل شراشف تحتوي على علامة مختصرة مزخرفة، وأقمشة عليها أشكال مختلفة، لكنّ المنفعة لهذا الانفتاح على المتغيّرات الكبيرة الممكنة للحامل لم تظهر إلا أخيراً عندما سجّل أشكاله المختلفة, وهي قمصان، أرجل بناطيل، قماشات خيم (شوادر)، شماس، أغلفة كنبات، ستائر ملوّنة، حيث استعمل نقوشها مع الشرّابات أو التخريجات لتجزئة التأليف وإخضاعه للإيقاع وتعقيده.
إنّ اللجوء إلى هذا الحامل الغريب والشاذ، غير المتشابه، يترافق مع انفجار التعبير التصويريّ. البصمة مرسومة بالفرشاة، وبعض الأحيان محاطة بالأبيض أو بالأسود تشهد على حركة وعلى مزاج، خاصة أنها ليست العلامة الوحيدة، أو «الإمضاء» الوحيد للفنان طالما أن الخلفيّة كما هي ملوّنة تحدّد فضاءً مليئاً وملوّناً، مؤلفاً من تصوير سائل يبدو كأنه يمتصّ البصمة، التي تبدو بدورها أنها تتراجع لتتركّز وتنغرز في وسط مرن يكسر الآثار الميكانيكية الناتجة عن التكرار. 
وصف الناقد والمفكّر مارسيلان بليني في مقال له أنّ فيالا «فنان يؤسّس لاختفاء اللوحة كمادّة أو كموضوع».  
وكان الفنان فيالا قد نفّذ عملاً بقياس كبير أسماه «تحــــيّة إلى بيـــكاسو» الذي ألـــهــــمه كثيــــراً أثناء شبابه، وشارك أيضاً بعمل كبير بعنوان «قماشة غطــاء» أكريليك/ 415x 610 سم، مثل به فرنسا في بينالي البندقيّة عام 1988. 
عرض فيالا أعماله في أمكنة واسعة جداً بالهواء الطلق تسمح له بالحرية كضفاف الأنهار وشواطئ البحار، يذكّرنا هذا الشيء بفن الأرض في أعمال كريستو وجماعته، وإن اختلفت المقاربة والطرح التشكيلي بين هذين النمطين اللذين ينتميان إلى صيغ الفن المفهومي ■