نزْفُ الورْدة *

نزْفُ الورْدة *

وقعتْ‭ ‬ملابساتُ‭ ‬الواقعة‭ ‬الرّهيبة‭ ‬في‭ ‬مدينتنا‭ ‬منذ‭ ‬زمنٍ‭ ‬بعيد‭. ‬وسأرْويها‭ ‬كما‭ ‬تُمليها‭ ‬ذاكرتي،‭ ‬مستعيناً‭ ‬على‭ ‬ملْء‭ ‬ما‭ ‬يعْترضُني‭ ‬من‭ ‬فجوات‭ ‬بما‭ ‬خلصتْ‭ ‬إليْه‭ ‬التحقيقات‭ ‬ومحاضر‭  ‬استجوابات‭ ‬الشّهود‭.‬

وكانت‭ ‬البدايةُ‭ ‬بالنّسبة‭ ‬لي‭ ‬حينما‭ ‬تناهى‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬لغطُ‭ ‬ضابطيْ‭ ‬الخفارة‭ ‬في‭ ‬ردهة‭ ‬المركز،‭ ‬وصوتٌ‭ ‬نسائيّ‭ ‬يصيح‭ ‬‮«‬دعوني‮»‬‭. ‬خرجتُ‭ ‬من‭ ‬مكتبي‭ ‬لأجد‭ ‬الرّجُليْن‭ ‬يشدّان‭ ‬على‭ ‬ذراعيْ‭ ‬امرأةٍ‭ ‬مضطربة‭ ‬تريدُ‭ ‬الإفلات‭ ‬منهما‭ ‬كعصفورٍ‭ ‬هزيل‭ ‬يحاولُ‭ ‬التخلّص‭ ‬من‭ ‬الفخّ‭. ‬هتفتُ‭ ‬بهما‭: ‬‮«‬اتركوها‮»‬‭.‬

صمت‭ ‬ثلاثتُهم‭ ‬مُلتفتين‭ ‬إليّ‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬نحيبها،‭ ‬وما‭ ‬إنْ‭ ‬أفلتاها‭ ‬منصاعيْن‭ ‬لأمري‭ ‬حتّى‭ ‬ركضتْ‭ ‬نحوي،‭ ‬فتحرّكتْ‭ ‬يدي‭ ‬لا‭ ‬شعوريّاً‭ ‬لتستقرّ‭ ‬على‭ ‬مقبض‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬جراب‭ ‬الحزام‭. ‬

لكنّ‭ ‬المرأة‭ ‬تهاوتْ‭ ‬أرضاً‭ ‬بقُرْبي‭. ‬كانت‭ ‬عباءتُها‭ ‬مغبرّة،‭ ‬وكأنّها‭ ‬تعثّرتْ‭ ‬وتعفّرتْ‭ ‬بالتراب‭ ‬ألف‭ ‬مرّة‭ ‬قبل‭ ‬وصولها‭ ‬إلى‭ ‬المركز‭. ‬غطاءُ‭ ‬رأسها‭ ‬ينحسرُ‭ ‬حتّى‭ ‬يكاد‭ ‬يسقطُ‭ ‬على‭ ‬كتفيْها،‭ ‬زحفتْ،‭ ‬كمشتْ‭ ‬بأظفارها‭ ‬نسيج‭ ‬البنطلون‭ ‬عند‭ ‬ركبتي،‭ ‬رفعتْ‭ ‬رأسها‭ ‬وهي‭ ‬تنوح،‭ ‬تشرق‭ ‬بكلماتٍ‭ ‬تعيّي‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬شفتين‭ ‬ترتعشان،‭ ‬في‭ ‬عينيْها‭ ‬لهبٌ‭ ‬ودخان،‭ ‬ودموعُها‭ ‬مخالبُ‭ ‬ترسمُ‭ ‬على‭ ‬وجنتيْها‭ ‬خطوطاً‭ ‬سوداء‭. ‬

كان‭ ‬الضّابطان‭ ‬منتصبيْن،‭ ‬متوثّبيْن‭ ‬خلفها،‭ ‬وهي‭ ‬بيننا‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬إلى‭ ‬أنْ‭ ‬فجّرتْها‭ ‬بصعوبة،‭ ‬وتردّد‭ ‬دويُّها‭ ‬في‭ ‬أركان‭ ‬المركز‭:‬

‮«‬فعلتُها‭. ‬انْجدوهم‭ ‬جميعاً‭. ‬انْجدوهم‮»‬‭ ‬

‭***‬

‮«‬اقتربي‭ ‬يا‭ ‬امرأة‭. ‬استريحي‮»‬‭.‬

لم‭ ‬تكدْ‭ ‬تميّزه‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬حجب‭ ‬السّديم‭. ‬تقدّمتْ‭ ‬مخترقةً‭ ‬تهويم‭ ‬الضبّاب،‭ ‬كان‭ ‬متربّعاً‭ ‬على‭ ‬سجّادته،‭ ‬لحيته‭ ‬فاحمة‭ ‬وغترته‭ ‬منسدلة‭ ‬على‭ ‬صفحتيْ‭ ‬وجهه‭. ‬

جلستْ‭ ‬أمامه‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬الدوّه‭ ‬بقربه‭ ‬خاليةٌ‭ ‬من‭ ‬الفحم،‭ ‬وعلى‭ ‬سطْحها‭ ‬المعدنيّ‭ ‬مبخرةٌ‭ ‬يتأجّجُ‭ ‬فيها‭ ‬الجمر‭. ‬نظر‭ ‬إليها‭ ‬صامتاً‭. ‬الجوُّ‭ ‬عابقٌ‭ ‬برائحة‭ ‬الّلبان‭ ‬والجاوي‭ ‬الخانقة،‭ ‬ومن‭ ‬يده‭ ‬تتدلّى‭ ‬مسبحةُ‭ ‬خرزاتٍ‭ ‬كبيرة‭ ‬بحجم‭ ‬ثمر‭ ‬الكنار‭. ‬بادرتْه‭ ‬تقاومُ‭ ‬رغبةً‭ ‬بالبكاء‭: ‬

‮«‬خلّاني‭ ‬يا‭ ‬شيخ‭. ‬تركني‭ ‬وعيالي‭ ‬وراح‭ ‬لْمره‭ ‬ثانية‮»‬‭.‬

غصّت‭. ‬تمالكتْ‭ ‬نفسها‭:‬

‮«‬الله‭ ‬يسامحه‮»‬‭.‬

من‭ ‬بين‭ ‬وشْوشة‭ ‬المسبحة‭ ‬ذات‭ ‬الحبّات‭ ‬الكبيرة،‭ ‬أتاها‭ ‬السّؤال‭:‬

‮«‬وطلبك؟‮»‬‭.‬

تنشقّتْ،‭ ‬أخرجتْ‭ ‬منديلاً‭ ‬تنشّفُ‭ ‬به‭ ‬سيل‭ ‬أنفها‭. ‬أجابتْ‭ ‬بعزم‭:‬

‮«‬تخريب‭ ‬حفلهم‭. ‬التفريق‭ ‬بينه‭ ‬وبينها‭ ‬مثلما‭ ‬فرّقوا‭ ‬بينه‭ ‬وبيني‮»‬‭.‬

‮«‬ما‭ ‬طلبت‭ ‬شيء‮»‬‭.‬

التفت‭ ‬خلفه،‭ ‬ورفع‭ ‬يده‭ ‬حتّى‭ ‬تدحْرجتْ‭ ‬خرزاتُ‭ ‬المسبحة‭ ‬إلى‭ ‬ثنية‭ ‬ذراعه‭. ‬تناول‭ ‬صرّة‭ ‬صغيرةً‭ ‬مع‭ ‬قنينة‭ ‬ماءٍ‭ ‬على‭ ‬رفٍّ‭ ‬في‭ ‬الجدار‭: ‬

‮«‬هذا‭ ‬مرادك‮»‬‭.‬

‭ ‬استلمتْهما‭. ‬هبّتْ‭ ‬واقفةً‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬دفعتْ‭ ‬لهُ‭ ‬المقسوم‭ ‬واستدارت‭. ‬المشعوذُ‭ ‬تابع‭ ‬غيابها‭ ‬في‭ ‬سراب‭ ‬البخور‭ ‬العائم‭ ‬في‭ ‬جوّ‭ ‬الوكر،‭ ‬بينما‭ ‬امرأةٌ‭ ‬أخرى‭ ‬عند‭ ‬بابه،‭ ‬تهمُّ‭ ‬بالدّخول‭.   

‭***‬

يقولُ‭ ‬سائقُ‭ ‬الأجرة‭ ‬الجوّالة‭: ‬أنا‭ ‬بريء‭. ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬أعلمُ‭ ‬بنواياها‭ ‬لجلبتها‭ ‬إليكم‭ ‬مباشرةً،‭ ‬أو‭ ‬لتركتها‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬دون‭ ‬حتّى‭ ‬الالتفات‭ ‬إليها‭. ‬لا‭ ‬شأن‭ ‬لي‭ ‬بمصيبتها‭. ‬أصغوا‭ ‬إليّ‭! ‬

جئتُ‭ ‬إلى‭ ‬بلدكم‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬أعوامٍ‭ ‬لكسب‭ ‬العيش،‭ ‬ولأرقٍ‭ ‬مزمن،‭ ‬صرتُ‭ ‬أعملُ‭ ‬بعد‭ ‬المغيب‭. ‬جبتُ‭ ‬الشوارع‭ ‬ليالي‭ ‬كثيرةٍ‭ ‬صادفتُ‭ ‬فيها‭ ‬أصنافاً‭ ‬من‭ ‬هوامّ‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يكمُنون‭ ‬في‭ ‬النّهار‭ ‬ويخرُجون‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يخطرْ‭ ‬لي‭ ‬قطّ‭ ‬أن‭ ‬ألتقي‭ ‬براكبٍ‭ ‬يقترفُ‭ ‬فعل‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬ليلتها‭ ‬المشؤومة‭. ‬لم‭ ‬أكنْ‭ ‬أعلم‭ ‬بخطّتها،‭ ‬صدّقوني‭. ‬

مسح‭ ‬دموعه‭ ‬بطرف‭ ‬جلبابه‭ ‬وهُو‭ ‬يقول‭: ‬ارْحموا‭ ‬شيبتي‭ ‬وغُربتي‭. ‬أبغي‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬زوْجتي‭ ‬وعيالي،‭ ‬أرجوكُم‭. ‬كُلّ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنّي‭ ‬لمحتها‭ ‬على‭ ‬الرّصيف،‭ ‬لوّحتْ‭ ‬لي،‭ ‬ولسوء‭ ‬حظّي،‭ ‬توقفتُ‭ ‬لها‭. ‬

‭***‬

يقولُ‭ ‬عاملُ‭ ‬المحطّة‭: ‬كنتُ‭ ‬مسؤول‭ ‬المضخّة‭ ‬رقم‭ ‬5،‭ ‬حيث‭ ‬همد‭ ‬محركُ‭ ‬التاكسي‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭. ‬السائقُ‭ ‬لم‭ ‬يلتفتْ‭ ‬إليّ‭. ‬لمحتُ‭ ‬امرأةً‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬الخلفيّ‭. ‬أنزلتْ‭ ‬زجاج‭ ‬نافذتها،‭ ‬وأطلّتْ‭ ‬‮«‬تعال‮»‬‭. ‬اقتربْتُ‭. ‬في‭ ‬عينيْها‭ ‬ذهولٌ‭ ‬غريب‭. ‬أخرجتْ‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬عباءتها‭ ‬قنينة‭ ‬مياهٍ‭ ‬معدنيّةٍ‭ ‬فارغة‭. ‬سلّمتْها‭ ‬لي‭ ‬عبر‭ ‬النّافذة‭: ‬‮«‬املأها‮»‬‭. ‬الرجلُ‭ ‬خلف‭ ‬المقود‭ ‬لمْ‭ ‬يكترثْ‭ ‬أو‭ ‬يفهْ‭ ‬بكلمة‭. ‬ارتبتُ‭ ‬بأمرهما‭. ‬أردتُ‭ ‬التملّص‭. ‬‮«‬فتحة‭ ‬القنّينة‭ ‬ضيّقة‭ ‬يا‭ ‬سيّدتي‮»‬‭. ‬أخرجتْ‭ ‬لي‭ ‬ورقةً‭ ‬نقديّة‭: ‬‮«‬تصرّف‮»‬،‭ ‬وضعتُ‭ ‬نصف‭ ‬الدينار‭ ‬في‭ ‬جيْبي‭. ‬غبتُ‭ ‬عنها‭ ‬دقيقةً‭ ‬وعدتُ‭ ‬من‭ ‬مخزن‭ ‬المحطّة‭ ‬بمحقنٍ‭ ‬أسطوانيّ‭. ‬أخذتُ‭ ‬منها‭ ‬القنّينة،‭ ‬حشرتُ‭ ‬فيها‭ ‬عنق‭ ‬المحقن،‭ ‬ثم‭ ‬تناولتُ‭ ‬مقبض‭ ‬التعبّئة‭ ‬وبدأتُ‭ ‬بضخّ‭ ‬الوقود‭ ‬في‭ ‬القمع‭. ‬التفتُّ‭ ‬إلى‭ ‬المرأة،‭ ‬كانت‭ ‬شاردةً‭ ‬بالسائل‭ ‬الأصفر‭ ‬يتدفّقُ‭ ‬إلى‭ ‬القنّينة‭ ‬البلاستيكيّة‭ ‬الشفّافة،‭ ‬وبخار‭ ‬البنزين‭ ‬يتماوجُ‭ ‬فوق‭ ‬المحقن‭. 

ملأتُها‭ ‬إلى‭ ‬آخرها‭ ‬وأحكمتُ‭ ‬إغلاق‭ ‬فمها،‭ ‬‮«‬تفضلّي‮»‬‭. ‬لاهفةً‭ ‬تناولتْها‭ ‬بيديْها‭. ‬غاب‭ ‬رأسُها‭ ‬في‭ ‬المرْكبة،‭ ‬ثم‭ ‬أطلّتْ‭ ‬تسلّمني‭ ‬الحساب‭. ‬عددتُ‭ ‬النقود‭. ‬وأغلقتْ‭ ‬نافذتها‭. ‬نظْرتُها‭ ‬الذّاهلة‭ ‬لم‭ ‬تغادرْ‭ ‬عينيْها‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬الزّجاج‭. ‬

أدار‭ ‬الرجلُ‭ ‬الأخرسُ‭ ‬المحرّك،‭ ‬تحرّكتْ‭ ‬من‭ ‬أمامي‭. ‬وراقبتُ‭ ‬ابتعادهما‭ ‬خارجيْن‭ ‬من‭ ‬المحطّة‭.‬

‭***‬

تقول‭ ‬سارلينا‭: ‬عملتُ‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬مخدومي‭ ‬سبعة‭ ‬أعوامٍ‭ ‬لا‭ ‬يعكّر‭ ‬صفوها‭ ‬شيء‭. ‬لكنّ‭ ‬النوم‭ ‬جافاني‭ ‬بعد‭ ‬الواقعة‭. ‬كيف‭ ‬أنعمُ‭ ‬بغفوةٍ‭ ‬وفظاعة‭ ‬المشهد‭ ‬تمْثُلُ‭ ‬حية‭ ‬أمامي‭ ‬كلّما‭ ‬أغمضتُ‭ ‬جفنيّ؟‭ ‬تُفزعُني‭ ‬مذعورةً،‭ ‬يغالبُني‭ ‬البكاء،‭ ‬أمسحُ‭ ‬العرق‭ ‬على‭ ‬عُنُقي،‭ ‬وأضعُ‭ ‬كفيّ‭ ‬على‭ ‬أذنيّ‭ ‬فلا‭ ‬تمنعان‭ ‬عنهما‭ ‬نحيب‭ ‬الأطفال‭ ‬واستغاثات‭ ‬النساء‭. ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬أريدُهُ‭ ‬الآن‭ ‬هو‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بلدتي،‭ ‬لعلّها‭ ‬تجْتثُّ‭ ‬تلك‭ ‬الأصوات‭ ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬وتبهتُ‭ ‬مشاهدها‭ ‬المروّعة‭ ‬مع‭ ‬الزمن،‭ ‬أو‭ ‬لن‭ ‬أشفى‭ ‬منها‭ ‬أبداً‭.‬

آهٍ‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬أعلم‭ ‬بما‭ ‬دار‭ ‬في‭ ‬خلدها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬لمنعتها،‭ ‬لانقضضتُ‭ ‬عليها،‭ ‬وكتّفتها‭ ‬بذراعي‭ ‬طالبةً‭ ‬النّجدة‭ ‬بأعلى‭ ‬صوتي‭. ‬لكنّي‭ ‬لمّا‭ ‬رأيتها‭ ‬حسبتها‭ ‬من‭ ‬المدعوّات‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬حين‭ ‬خرجتُ‭ ‬من‭ ‬المنزل‭ ‬أحملُ‭ ‬القمامة،‭ ‬وأبصرتُ‭ ‬ظلّها‭ ‬هناك،‭ ‬رغم‭ ‬العتمة،‭ ‬تحومُ‭ ‬حائرةً‭ ‬خلف‭ ‬خيمة‭ ‬عرسٍ‭ ‬كبير‭ ‬يقيمه‭ ‬الجيران‭. ‬كان‭ ‬الفرحُ‭ ‬داخل‭ ‬الخيمة‭ ‬صاخباً‭. ‬رفعتْ‭ ‬يدها‭ ‬وأشارتْ‭ ‬لي‭ ‬بالاقتراب‭. ‬تخلّصْتُ‭ ‬من‭ ‬حملي‭ ‬برميه‭ ‬في‭ ‬الحاوية،‭ ‬واقتربتُ‭ ‬منها،‭ ‬بيدها‭ ‬كيسٌ‭ ‬لم‭ ‬أتبيّن‭ ‬محتواه،‭ ‬دنتْ‭ ‬من‭ ‬أُذُني‭ ‬وبالكاد‭ ‬سمعتُ‭ ‬حسّها‭ ‬تحت‭ ‬إيقاع‭ ‬الاحتفال‭ ‬وجلبة‭ ‬أصوات‭ ‬النّساء‭ ‬‮«‬احضري‭ ‬لي‭ ‬جريدة‭ ‬بسرعة‮»‬‭. ‬وكالمسحورة‭ ‬لبّيتُ‭ ‬طلبها‭ ‬راكضةً‭ ‬نحو‭ ‬السّور‭ ‬المنخفض،‭ ‬حيث‭ ‬الجرائد‭ ‬المصفرّة‭ ‬تعشْعشُ‭ ‬تحت‭ ‬أوراق‭ ‬الشّجر‭ ‬اليابسة‭. ‬عدتُ‭ ‬لها‭. ‬التمعتْ‭ ‬عيناها‭ ‬حين‭ ‬استلمتْ‭ ‬منّي‭ ‬الجريدة‭. ‬العتمةُ‭ ‬لم‭ ‬تمكنّي‭ ‬من‭ ‬التدقيق‭ ‬بملامحها‭. ‬تراجعتْ‭ ‬تتخطّى‭ ‬الأوتاد‭ ‬والحبال‭ ‬المشدودة،‭ ‬تتأبّط‭ ‬الجريدة‭ ‬وبيدها‭ ‬الكيس‭. ‬التفت‭ ‬شبحُها‭ ‬إليّ،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تختفي‭ ‬وراء‭ ‬الخيمة‭.‬

وضعتْ‭ ‬سارلينا‭ ‬يديْها‭ ‬على‭ ‬أذنيْها،‭ ‬وأجهشتْ‭.‬

‭***‬

تقولُ‭ ‬المرأة‭: ‬تأبّطتُ‭ ‬الجريدة‭ ‬التي‭ ‬أتتْ‭ ‬بها‭ ‬الخادمة،‭ ‬ثم‭ ‬ابتعدتُ‭ ‬عنها‭ ‬متواريةً‭ ‬وراء‭ ‬زاوية‭ ‬الخيمة‭. ‬قرفصتُ‭ ‬فوق‭ ‬التراب‭. ‬كانت‭ ‬الجلبةُ‭ ‬عاليةً‭ ‬في‭ ‬الداخل‭. ‬أصواتٌ‭ ‬مختلطة‭ ‬لأطفالٍ‭ ‬ونساء‭. ‬غناءٌ‭ ‬ويباب‭. ‬سحبْتُ‭ ‬من‭ ‬الكيس‭ ‬قنينة‭ ‬الماء‭ ‬والبخور‭ ‬الذي‭ ‬جلبتُه‭ ‬من‭ ‬الشّيخ‭. ‬نثرتُ‭ ‬كسرات‭ ‬البخور‭ ‬أسفل‭ ‬الخيمة‭ ‬ورششتُ‭ ‬على‭ ‬جدارها‭ ‬الماء‭ ‬المسحور‭. ‬

أخرجتُ‭ ‬قنّينتي‭ ‬الأخرى‭ ‬وإذ‭ ‬فتحتُها‭ ‬فاحتْ‭ ‬منها‭ ‬رائحةُ‭ ‬البنزين‭. ‬قمتُ‭ ‬وسكبْتُهُ‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬الخيمة‭. ‬استللتُ‭ ‬من‭ ‬جيبي‭ ‬علبة‭ ‬الكبريت‭. ‬لففْتُ‭ ‬الصّحيفة،‭ ‬وفي‭ ‬عتْمتي‭ ‬أشعلتُ‭ ‬عود‭ ‬ثقابٍ‭ ‬من‭ ‬نارٍ‭ ‬تستعرُ‭ ‬في‭ ‬صدري‭. ‬أضرمْتُها‭ ‬بالجريدة‭ ‬فتوهّجت‭ ‬الشّعلة‭. ‬وجيبُ‭ ‬قلبي‭ ‬اشتدّ‭ ‬كالجنين‭ ‬يرفسُ‭ ‬ضائقاً‭ ‬ببطن‭ ‬أمّه،‭ ‬طقْطقةُ‭ ‬الطّيران‭ ‬تعلو‭ ‬ويدي‭ ‬ترتعدُ‭ ‬باللفّافة‭ ‬الملتهبة‭. ‬تأمّلتُ‭ ‬نارها‭ ‬الحمراء‭ ‬حتّى‭ ‬لسعتْني‭ ‬الحرارة،‭ ‬رميتُ‭ ‬بها‭ ‬أسفل‭ ‬جدار‭ ‬الخيمة‭ ‬إلى‭ ‬الرّمل‭ ‬المتشرّب‭ ‬بالسّحر‭ ‬الأسود‭ ‬والوقود‭. ‬ثارت‭ ‬النّارُ‭ ‬جائعةً‭. ‬انتشرتْ‭ ‬سريعاً‭ ‬تلتهمُ‭ ‬نسيج‭ ‬الخيمة،‭ ‬ألْسنتُها‭ ‬أفاعٍ‭ ‬تنتفضُ‭ ‬إلى‭ ‬كُلّ‭ ‬اتّجاه‭. ‬الغناءُ‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬صيحات‭ ‬استغاثة‭. ‬تراجعْتُ‭ ‬خطوتيْن‭. ‬وقعْتُ‭ ‬لمّا‭ ‬تعثّرتُ‭ ‬بحبلٍ‭ ‬مشدود‭. ‬قمتُ‭.‬‭ ‬ولم‭ ‬أشعرْ‭ ‬بي‭ ‬إلا‭ ‬وأنا‭ ‬أطلقُ‭ ‬لساقي‭ ‬الريح‭. ‬أركضُ‭ ‬بعيداً،‭ ‬تاركةً‭ ‬كلّ‭ ‬شيءٍ‭ ‬ورائي،‭ ‬تلاحقُني‭ ‬صرخاتٌ‭ ‬أليمة‭ ‬تتعالى‭. ‬مرعوبةً‭ ‬أسقُط‭. ‬أنْهض‭. ‬أواصلُ‭ ‬الجري‭ ‬لاهثةً‭ ‬في‭ ‬الظّلام،‭ ‬وكلّما‭ ‬التفتُّ‭ ‬خلفي‭ ‬رأيتُ‭ ‬الوهج،‭ ‬ودخاناً‭ ‬يجتاحُ‭ ‬الليل،‭ ‬يحيطُ‭ ‬بي،‭ ‬يلتفُّ‭ ‬كحبل‭ ‬مشنقةٍ‭ ‬حول‭ ‬عُنُقي‭ ‬ويخْنقُني‭. ‬

‭***‬

تقولُ‭ ‬النّاجية‭: ‬كنّا‭ ‬مائتين‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭. ‬أنفاسُنا‭ ‬تتردّدُ‭ ‬حارّةً‭ ‬جذلى‭ ‬والأكتاف‭ ‬متلاصقة‭ ‬تنزُّ‭ ‬عرقاً‭. ‬كنّا‭ ‬في‭ ‬بهجةٍ‭ ‬حتّى‭ ‬انطلقتْ‭ ‬صرخةٌ‭ ‬من‭ ‬أقْصى‭ ‬الخيمة‭ ‬المكتظّة،‭ ‬لم‭ ‬نكدْ‭ ‬نسمعها‭ ‬تحت‭ ‬صخب‭ ‬الغناء‭. ‬تجاهلْناها‭ ‬فتعالتْ‭ ‬صيحاتٌ‭ ‬متفرّقة‭. ‬التفتتْ‭ ‬رؤوسُنا‭ ‬حيرى‭. ‬الخوفُ‭ ‬تحجّر‭ ‬في‭ ‬العيون‭. ‬تلاقتْ‭ ‬وتناقلتْ‭ ‬فزعاً‭ ‬عمّ‭ ‬الجميع‭. ‬تجمّدنا‭ ‬وهلة،‭ ‬حتّى‭ ‬إذا‭ ‬لاحت‭ ‬النيرانُ‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أفران‭ ‬العشاء،‭ ‬تحوّل‭ ‬الفزعُ‭ ‬إلى‭ ‬تدافع‭ ‬محمومٍ‭ ‬نحو‭ ‬مخرجٍ‭ ‬ضيّقٍ‭ ‬ويتيم‭. ‬ارتفع‭ ‬بكاءُ‭ ‬الأطفال‭ ‬واستصراخُ‭ ‬النّساء،‭ ‬اللهبُ‭ ‬أحاط‭ ‬بنا‭ ‬وبالسرادق‭ ‬المنسوج‭ ‬من‭ ‬قطنٍ‭ ‬سريع‭ ‬الاشتعال‭. ‬في‭ ‬أقلّ‭ ‬من‭ ‬دقيقتيْن،‭ ‬صارت‭ ‬الخيمةُ‭ ‬تنّوراً‭ ‬كبيراً‭. ‬

سكتت‭ ‬النّاجية‭ ‬برهة‭. ‬وترقْرقتْ‭ ‬دموعُها‭: ‬ما‭ ‬ذنبُ‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا؟

‭***‬

لمّا‭ ‬بلغتْنا‭ ‬المرأةُ‭ ‬منهارةً،‭ ‬خرجتُ‭ ‬مستطلعاً‭ ‬يلحقُ‭ ‬بي‭ ‬الضّابطان‭. ‬رفعْنا‭ ‬أبصارنا‭ ‬إلى‭ ‬سحابةٍ‭ ‬دُخانية‭ ‬تغشى‭ ‬المركز،‭ ‬وسياراتُ‭ ‬الإسعاف‭ ‬تولولُ‭ ‬بجنونٍ‭ ‬نحو‭ ‬هالةٍ‭ ‬حمراء‭ ‬تنعكسُ‭ ‬على‭ ‬سماء‭ ‬الليل‭.‬

‭***‬

وخمدت‭ ‬النيران‭. ‬صفاراتُ‭ ‬النّجدة‭ ‬والإطفاء‭ ‬سكتتْ‭ ‬حول‭ ‬أطلال‭ ‬الخيمة‭ ‬المُتفحّمة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الدّخان‭ ‬ظلّ‭ ‬يتصاعدُ‭ ‬من‭ ‬السّخام‭ ‬الأسود‭ ‬حتّى‭ ‬السّاعات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفجر‭. ‬

أربعون‭ ‬طفلاً‭ ‬وامرأةً‭ ‬ماتوا‭ ‬فوراً‭ ‬في‭ ‬الحريق‭. ‬غصّت‭ ‬المستشفيات‭. ‬ولشهورٍ‭ ‬كانت‭ ‬الجريحاتُ‭ ‬على‭ ‬الأسرّة‭ ‬البيضاء،‭ ‬حولهنّ‭ ‬أحبّاؤهنّ،‭ ‬يفلتْن‭ ‬تشبثّهنّ‭ ‬بالحياة‭ ‬واحدةً‭ ‬تلو‭ ‬أخرى‭.‬

‭ ‬ليالٍ‭ ‬طويلة‭ ‬بكتْها‭ ‬‮«‬العيون‮»‬‭. ‬وحين‭ ‬صعدتْ‭ ‬روحُ‭ ‬أُخراهم،‭ ‬هطلت‭ ‬السّماءُ‭ ‬ليلةً‭ ‬كاملة،‭ ‬غسلت‭ ‬السّطوح‭ ‬وأسوار‭ ‬البيوت‭ ‬وشطفتْ‭ ‬موقع‭ ‬الحادثة‭. ‬الشمسُ‭ ‬التي‭ ‬أطلّت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬فتيّةً‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬السّحاب‭ ‬جفّفتْ‭ ‬ماء‭ ‬المطر،‭ ‬كأنّها‭ ‬تطوي‭ ‬صفحة‭ ‬الواقعةِ‭ ‬الرّهيبة،‭ ‬لكنّ‭ ‬المدينة‭ ‬لن‭ ‬تنسى‭. ‬وستظلُّ‭ ‬ندوبُ‭ ‬جراحِها‭ ‬والشّواهدُ‭ ‬تذكّرُ‭ ‬أهلها‭ ‬بملابساتِها‭ ‬الغريبة‭ ‬مثل‭ ‬أسطورةٍ‭ ‬حزينة‭ ‬من‭ ‬زمنٍ‭ ‬غابر‭ ‬