نزْفُ الورْدة *
وقعتْ ملابساتُ الواقعة الرّهيبة في مدينتنا منذ زمنٍ بعيد. وسأرْويها كما تُمليها ذاكرتي، مستعيناً على ملْء ما يعْترضُني من فجوات بما خلصتْ إليْه التحقيقات ومحاضر استجوابات الشّهود.
وكانت البدايةُ بالنّسبة لي حينما تناهى إليّ في تلك الليلة لغطُ ضابطيْ الخفارة في ردهة المركز، وصوتٌ نسائيّ يصيح «دعوني». خرجتُ من مكتبي لأجد الرّجُليْن يشدّان على ذراعيْ امرأةٍ مضطربة تريدُ الإفلات منهما كعصفورٍ هزيل يحاولُ التخلّص من الفخّ. هتفتُ بهما: «اتركوها».
صمت ثلاثتُهم مُلتفتين إليّ إلّا من نحيبها، وما إنْ أفلتاها منصاعيْن لأمري حتّى ركضتْ نحوي، فتحرّكتْ يدي لا شعوريّاً لتستقرّ على مقبض السلاح في جراب الحزام.
لكنّ المرأة تهاوتْ أرضاً بقُرْبي. كانت عباءتُها مغبرّة، وكأنّها تعثّرتْ وتعفّرتْ بالتراب ألف مرّة قبل وصولها إلى المركز. غطاءُ رأسها ينحسرُ حتّى يكاد يسقطُ على كتفيْها، زحفتْ، كمشتْ بأظفارها نسيج البنطلون عند ركبتي، رفعتْ رأسها وهي تنوح، تشرق بكلماتٍ تعيّي الخروج من شفتين ترتعشان، في عينيْها لهبٌ ودخان، ودموعُها مخالبُ ترسمُ على وجنتيْها خطوطاً سوداء.
كان الضّابطان منتصبيْن، متوثّبيْن خلفها، وهي بيننا على الأرض، إلى أنْ فجّرتْها بصعوبة، وتردّد دويُّها في أركان المركز:
«فعلتُها. انْجدوهم جميعاً. انْجدوهم»
***
«اقتربي يا امرأة. استريحي».
لم تكدْ تميّزه من وراء حجب السّديم. تقدّمتْ مخترقةً تهويم الضبّاب، كان متربّعاً على سجّادته، لحيته فاحمة وغترته منسدلة على صفحتيْ وجهه.
جلستْ أمامه على الأرض، الدوّه بقربه خاليةٌ من الفحم، وعلى سطْحها المعدنيّ مبخرةٌ يتأجّجُ فيها الجمر. نظر إليها صامتاً. الجوُّ عابقٌ برائحة الّلبان والجاوي الخانقة، ومن يده تتدلّى مسبحةُ خرزاتٍ كبيرة بحجم ثمر الكنار. بادرتْه تقاومُ رغبةً بالبكاء:
«خلّاني يا شيخ. تركني وعيالي وراح لْمره ثانية».
غصّت. تمالكتْ نفسها:
«الله يسامحه».
من بين وشْوشة المسبحة ذات الحبّات الكبيرة، أتاها السّؤال:
«وطلبك؟».
تنشقّتْ، أخرجتْ منديلاً تنشّفُ به سيل أنفها. أجابتْ بعزم:
«تخريب حفلهم. التفريق بينه وبينها مثلما فرّقوا بينه وبيني».
«ما طلبت شيء».
التفت خلفه، ورفع يده حتّى تدحْرجتْ خرزاتُ المسبحة إلى ثنية ذراعه. تناول صرّة صغيرةً مع قنينة ماءٍ على رفٍّ في الجدار:
«هذا مرادك».
استلمتْهما. هبّتْ واقفةً بعد أنْ دفعتْ لهُ المقسوم واستدارت. المشعوذُ تابع غيابها في سراب البخور العائم في جوّ الوكر، بينما امرأةٌ أخرى عند بابه، تهمُّ بالدّخول.
***
يقولُ سائقُ الأجرة الجوّالة: أنا بريء. لو كنتُ أعلمُ بنواياها لجلبتها إليكم مباشرةً، أو لتركتها على الرصيف دون حتّى الالتفات إليها. لا شأن لي بمصيبتها. أصغوا إليّ!
جئتُ إلى بلدكم منذ ثلاثة أعوامٍ لكسب العيش، ولأرقٍ مزمن، صرتُ أعملُ بعد المغيب. جبتُ الشوارع ليالي كثيرةٍ صادفتُ فيها أصنافاً من هوامّ البشر الذين يكمُنون في النّهار ويخرُجون في الليل، لكن لم يخطرْ لي قطّ أن ألتقي براكبٍ يقترفُ فعل المرأة في ليلتها المشؤومة. لم أكنْ أعلم بخطّتها، صدّقوني.
مسح دموعه بطرف جلبابه وهُو يقول: ارْحموا شيبتي وغُربتي. أبغي الرجوع إلى زوْجتي وعيالي، أرجوكُم. كُلّ ما في الأمر أنّي لمحتها على الرّصيف، لوّحتْ لي، ولسوء حظّي، توقفتُ لها.
***
يقولُ عاملُ المحطّة: كنتُ مسؤول المضخّة رقم 5، حيث همد محركُ التاكسي أمامي في تلك الأمسية. السائقُ لم يلتفتْ إليّ. لمحتُ امرأةً في المقعد الخلفيّ. أنزلتْ زجاج نافذتها، وأطلّتْ «تعال». اقتربْتُ. في عينيْها ذهولٌ غريب. أخرجتْ من تحت عباءتها قنينة مياهٍ معدنيّةٍ فارغة. سلّمتْها لي عبر النّافذة: «املأها». الرجلُ خلف المقود لمْ يكترثْ أو يفهْ بكلمة. ارتبتُ بأمرهما. أردتُ التملّص. «فتحة القنّينة ضيّقة يا سيّدتي». أخرجتْ لي ورقةً نقديّة: «تصرّف»، وضعتُ نصف الدينار في جيْبي. غبتُ عنها دقيقةً وعدتُ من مخزن المحطّة بمحقنٍ أسطوانيّ. أخذتُ منها القنّينة، حشرتُ فيها عنق المحقن، ثم تناولتُ مقبض التعبّئة وبدأتُ بضخّ الوقود في القمع. التفتُّ إلى المرأة، كانت شاردةً بالسائل الأصفر يتدفّقُ إلى القنّينة البلاستيكيّة الشفّافة، وبخار البنزين يتماوجُ فوق المحقن.
ملأتُها إلى آخرها وأحكمتُ إغلاق فمها، «تفضلّي». لاهفةً تناولتْها بيديْها. غاب رأسُها في المرْكبة، ثم أطلّتْ تسلّمني الحساب. عددتُ النقود. وأغلقتْ نافذتها. نظْرتُها الذّاهلة لم تغادرْ عينيْها من خلف الزّجاج.
أدار الرجلُ الأخرسُ المحرّك، تحرّكتْ من أمامي. وراقبتُ ابتعادهما خارجيْن من المحطّة.
***
تقول سارلينا: عملتُ في بيت مخدومي سبعة أعوامٍ لا يعكّر صفوها شيء. لكنّ النوم جافاني بعد الواقعة. كيف أنعمُ بغفوةٍ وفظاعة المشهد تمْثُلُ حية أمامي كلّما أغمضتُ جفنيّ؟ تُفزعُني مذعورةً، يغالبُني البكاء، أمسحُ العرق على عُنُقي، وأضعُ كفيّ على أذنيّ فلا تمنعان عنهما نحيب الأطفال واستغاثات النساء. كلُّ ما أريدُهُ الآن هو العودة إلى بلدتي، لعلّها تجْتثُّ تلك الأصوات من رأسي وتبهتُ مشاهدها المروّعة مع الزمن، أو لن أشفى منها أبداً.
آهٍ لو كنتُ أعلم بما دار في خلدها في تلك الليلة، لمنعتها، لانقضضتُ عليها، وكتّفتها بذراعي طالبةً النّجدة بأعلى صوتي. لكنّي لمّا رأيتها حسبتها من المدعوّات. كان ذلك حين خرجتُ من المنزل أحملُ القمامة، وأبصرتُ ظلّها هناك، رغم العتمة، تحومُ حائرةً خلف خيمة عرسٍ كبير يقيمه الجيران. كان الفرحُ داخل الخيمة صاخباً. رفعتْ يدها وأشارتْ لي بالاقتراب. تخلّصْتُ من حملي برميه في الحاوية، واقتربتُ منها، بيدها كيسٌ لم أتبيّن محتواه، دنتْ من أُذُني وبالكاد سمعتُ حسّها تحت إيقاع الاحتفال وجلبة أصوات النّساء «احضري لي جريدة بسرعة». وكالمسحورة لبّيتُ طلبها راكضةً نحو السّور المنخفض، حيث الجرائد المصفرّة تعشْعشُ تحت أوراق الشّجر اليابسة. عدتُ لها. التمعتْ عيناها حين استلمتْ منّي الجريدة. العتمةُ لم تمكنّي من التدقيق بملامحها. تراجعتْ تتخطّى الأوتاد والحبال المشدودة، تتأبّط الجريدة وبيدها الكيس. التفت شبحُها إليّ، قبل أن تختفي وراء الخيمة.
وضعتْ سارلينا يديْها على أذنيْها، وأجهشتْ.
***
تقولُ المرأة: تأبّطتُ الجريدة التي أتتْ بها الخادمة، ثم ابتعدتُ عنها متواريةً وراء زاوية الخيمة. قرفصتُ فوق التراب. كانت الجلبةُ عاليةً في الداخل. أصواتٌ مختلطة لأطفالٍ ونساء. غناءٌ ويباب. سحبْتُ من الكيس قنينة الماء والبخور الذي جلبتُه من الشّيخ. نثرتُ كسرات البخور أسفل الخيمة ورششتُ على جدارها الماء المسحور.
أخرجتُ قنّينتي الأخرى وإذ فتحتُها فاحتْ منها رائحةُ البنزين. قمتُ وسكبْتُهُ على جدار الخيمة. استللتُ من جيبي علبة الكبريت. لففْتُ الصّحيفة، وفي عتْمتي أشعلتُ عود ثقابٍ من نارٍ تستعرُ في صدري. أضرمْتُها بالجريدة فتوهّجت الشّعلة. وجيبُ قلبي اشتدّ كالجنين يرفسُ ضائقاً ببطن أمّه، طقْطقةُ الطّيران تعلو ويدي ترتعدُ باللفّافة الملتهبة. تأمّلتُ نارها الحمراء حتّى لسعتْني الحرارة، رميتُ بها أسفل جدار الخيمة إلى الرّمل المتشرّب بالسّحر الأسود والوقود. ثارت النّارُ جائعةً. انتشرتْ سريعاً تلتهمُ نسيج الخيمة، ألْسنتُها أفاعٍ تنتفضُ إلى كُلّ اتّجاه. الغناءُ سرعان ما تحوّل إلى صيحات استغاثة. تراجعْتُ خطوتيْن. وقعْتُ لمّا تعثّرتُ بحبلٍ مشدود. قمتُ. ولم أشعرْ بي إلا وأنا أطلقُ لساقي الريح. أركضُ بعيداً، تاركةً كلّ شيءٍ ورائي، تلاحقُني صرخاتٌ أليمة تتعالى. مرعوبةً أسقُط. أنْهض. أواصلُ الجري لاهثةً في الظّلام، وكلّما التفتُّ خلفي رأيتُ الوهج، ودخاناً يجتاحُ الليل، يحيطُ بي، يلتفُّ كحبل مشنقةٍ حول عُنُقي ويخْنقُني.
***
تقولُ النّاجية: كنّا مائتين أو أكثر. أنفاسُنا تتردّدُ حارّةً جذلى والأكتاف متلاصقة تنزُّ عرقاً. كنّا في بهجةٍ حتّى انطلقتْ صرخةٌ من أقْصى الخيمة المكتظّة، لم نكدْ نسمعها تحت صخب الغناء. تجاهلْناها فتعالتْ صيحاتٌ متفرّقة. التفتتْ رؤوسُنا حيرى. الخوفُ تحجّر في العيون. تلاقتْ وتناقلتْ فزعاً عمّ الجميع. تجمّدنا وهلة، حتّى إذا لاحت النيرانُ من جهة أفران العشاء، تحوّل الفزعُ إلى تدافع محمومٍ نحو مخرجٍ ضيّقٍ ويتيم. ارتفع بكاءُ الأطفال واستصراخُ النّساء، اللهبُ أحاط بنا وبالسرادق المنسوج من قطنٍ سريع الاشتعال. في أقلّ من دقيقتيْن، صارت الخيمةُ تنّوراً كبيراً.
سكتت النّاجية برهة. وترقْرقتْ دموعُها: ما ذنبُ الذين ماتوا؟
***
لمّا بلغتْنا المرأةُ منهارةً، خرجتُ مستطلعاً يلحقُ بي الضّابطان. رفعْنا أبصارنا إلى سحابةٍ دُخانية تغشى المركز، وسياراتُ الإسعاف تولولُ بجنونٍ نحو هالةٍ حمراء تنعكسُ على سماء الليل.
***
وخمدت النيران. صفاراتُ النّجدة والإطفاء سكتتْ حول أطلال الخيمة المُتفحّمة، لكنّ الدّخان ظلّ يتصاعدُ من السّخام الأسود حتّى السّاعات الأولى من الفجر.
أربعون طفلاً وامرأةً ماتوا فوراً في الحريق. غصّت المستشفيات. ولشهورٍ كانت الجريحاتُ على الأسرّة البيضاء، حولهنّ أحبّاؤهنّ، يفلتْن تشبثّهنّ بالحياة واحدةً تلو أخرى.
ليالٍ طويلة بكتْها «العيون». وحين صعدتْ روحُ أُخراهم، هطلت السّماءُ ليلةً كاملة، غسلت السّطوح وأسوار البيوت وشطفتْ موقع الحادثة. الشمسُ التي أطلّت بعد ذلك فتيّةً من خلف السّحاب جفّفتْ ماء المطر، كأنّها تطوي صفحة الواقعةِ الرّهيبة، لكنّ المدينة لن تنسى. وستظلُّ ندوبُ جراحِها والشّواهدُ تذكّرُ أهلها بملابساتِها الغريبة مثل أسطورةٍ حزينة من زمنٍ غابر ■