تكنولوجيات حديثة تبث الروح مجدداً في العالم القديم

تكنولوجيات حديثة تبث الروح مجدداً في العالم القديم

من تقنية التأريخ باستخدام الكربون المشع في أربعينيات القرن الماضي إلى تقنيات الاستشعار عن بُعد في ستينياته، ظل علماء الآثار منذ زمن طويل في طليعة مستخدمي التكنولوجيات المستقبلية، ومازالت هذه حالهم اليوم.

 

اعتماداً على الخبرة المستمدة في تخصصات علمية كثيرة، يعكف علماء الآثار اليوم على تسخير طائفة من الأجهزة والتقنيات المتطورة للحصول على أفكار ثاقبة جديدة ومثيرة عن العالم القديم.
وتنقل شبكة NBC نيوز الإخبارية الأمريكية عن أستاذة علم الآثار بجامعة نبراسكا في لينكولن، هيذر ريتشاردز- ريسيتو، قولها: «لطالما كان علم الآثار موضوعاً متعدد التخصصات، بامتياز. لكن في اعتقادي أن هناك الآن قدراً أكبر كثيراً مما مضى من التعاون بين العلوم والهندسة، وعلماء الآثار جزء من هذه المنظومة، حيث يساعدون على تطوير تكنولوجيات تمكّنهم من دراسة الماضي».
تتضمن الاكتشافات التي شاركت فيها الوسائل التكنولوجية بعض الاكتشافات المذهلة تماماً، إذ يبدو الباحثون مثلاً على وشك العثور على غرف مخفية في أعماق الهرم الأكبر بمصر، الذي يصل عمره إلى 4500 سنة، وذلك بفضل تكنولوجيا مسح جديدة تقيس الجسيمات دون الذرية المارة خلال الهرم (لا تختلف هذه التقنية كثيراً عن الطريقة التي يستخدم بها الأطباء الأشعة السينية لتصوير العظام).
من الأمثلة الأخرى التي تقف شاهداً على استخدام التكنولوجيا الرفيعة في علم الآثار الروبوتات العابرة للمحيطات، التي تستطيع استكشاف المدن القديمة المغمورة في أعماق المياه؛ والتقنيات الميكانيكية المعقدة التي تُستخدم لإعادة إنشاء الأصوات المستخدمة في الحياة اليومية بالأزمنة القديمة؛ وتكنولوجيا الواقع الافتراضي المستخدمة لتحويل الأطلال التي علاها الغبار إلى مجتمعات افتراضية نابضة بالحياة؛ وتقنيات تحليل البروتين، التي تكشف عن ماهية الأمراض التي كانت مومياوات شعب الإنكا تشتمل عليها وهي حية؛ وتكنولوجيا التصوير التي تكشف عن الألوان الحقيقية للتماثيل القديمة.

رؤية الماضي
اعتمد علماء الآثار منذ عقود من الزمن على نظم المعلومات الجغرافية، وهو تخصص علمي يستخدم بيانات النظام العالمي لتحديد المواقع وغيرها من البيانات لإنشاء خرائط متطورة ثنائية الأبعاد للأبنية والمشغولات الموجودة في المواقع الأثرية. لكن ريسيتو وغيرها من العلماء بدأوا يربطون بين نظم المعلومات الجغرافية وتقنيات النمذجة ثلاثية الأبعاد للحصول على منظر أكثر تفصيلاً بكثير للعوالم المفقودة.
تتمثل إحدى نتائج هذا النهج الجديد في محاكاة حاسوبية مفصلة لموقع كوبان الأثري الذي يعود إلى حضارة المايا في هندوراس، وهذه المحاكاة نموذج يمكن التجول في أرجائه واستكشافه باستخدام أحد أنظمة الواقع الافتراضي من قبيل Oculus Rift أو Unity.
ما كان ليتسنى إنشاء هذا النوع من العالم الافتراضي من دون اثنتين من أحدث تكنولوجيات التصوير، وهما: ليدار (اختصار إنجليزي بمعنى الكشف وتحديد المسافة باستخدام الضوء)، والمسح التصويري.
تشبه تكنولوجيا الليدار السونار نوعاً ما، إذ إن كل ما تفعله هو إعطاء معلومات مكانية باستخدام الضوء بدلاً من الصوت. وعند تركيب أجهزة الليدار على متن مروحيات أو طائرات صغيرة، فإنها تحسب المسافة الفاصلة بينها وبين الأجسام الموجودة على الأرض بقياس الزمن الذي تستغرقه عودة نبضة الليزر المنعكسة إلى الجهاز.
وتتيح أجهزة الليدار لعلماء الآثار سرعة رسم خرائط لتضاريس موقع بعينه، بما في ذلك المناطق المدفونة بعمق تحت ظُلل الغابات الكثيفة. بل والأكثر من ذلك أن أجهزة الليدار مكّنت العلماء من العثور على المدن «المفقودة» مثل «المدينة البيضاء» بمنطقة موسكيتيا في هندوراس.
تقول ريسيتو: «بدأنا نكتشف أن هناك الكثير من الأشياء الموجودة بوجه عام، والتي لم نكن نعرف بأمرها».
أما أجهزة المسح التصويري الجوية والأرضية فتساعد على توفير التفاصيل، حيث تحوّل هذه التكنولوجيا سلسلة من الصور ثنائية الأبعاد إلى ثلاثة أبعاد، مما يسمح للباحثين بإنشاء نماذج عالية الوضوح للأبنية والمشغولات القديمة.
ويمكن دمج النماذج الناشئة عن ذلك في أحد أنظمة الواقع الافتراضي، حيث يمكن إضافة البنية والألوان والإضاءة والظلال والكساء النباتي لنحصل على واقع ودراما منقطعي النظير.
تستخدم ريسيتو الواقع الافتراضي لعرض الهيئة التي ترى أن كوبان كانت عليها في أوج حضارة المايا خلال الفترة بين القرنين الخامس والتاسع الميلاديين، ومن ذلك مثلاً ما كان الملك سيراه عندما يلقي نظرة على المدينة من عليائه في القلعة الملكية.
تقول ريسيتو: «يجد علماء الآثار لأنفسهم مكاناً ملائماً في هذا العالم السيبراني. فهو يسمح لنا بأن نطرح الأسئلة، وبأن نفعل باستخدام البيانات والتكنولوجيا أشياء غير عادية».

سماع الماضي
إذا كان هناك بعض علماء الآثار ممن ينصبّ تركيزهم على ما كان يراه الأقدمون، فهناك آخرون يريدون معرفة ما كان أولئك الناس يسمعونه.
بجامعة ولاية نيويورك في بافلو، يعكف الباحثون على إعادة إنشاء المشهد الصوتي لأخدود تشاكو كانيون، الموجود في ولاية نيو مكسيكو، ويمثل مركزاً مهماً من مراكز ثقافة شعب البويبلو في الفترة بين عامي 850 و1250 ميلادية.
يحتوي الأخدود الضحل الذي يمتد 10 أميال طولاً على أبنية حجرية متعددة الطوابق بها مئات الغرف. وقد حار علماء الآثار طويلاً في الطريقة التي كان الناس الذين يعيشون بها في هذا الأخدود يتفاعلون بها مع هذه «المنازل الكبرى».
يقول ديفيد ويت، الباحث في علم الآثار بجامعة ولاية نيويورك: «هناك أعمال كثيرة مما عكف عليها الباحثون تُعنى بقابلية الرؤية وخط البصر. فما فتئوا يطرحون أسئلة عما إذا كان بالإمكان رؤية هذه المنازل الكبرى من المنازل الأخرى أو المجتمع المحلي أم لا. لكن هل من الجائز أن تكون هذه المنازل أقيمت، حيث أقيمت لأغراض سمعية؟».
استخدم ويت وزميلته كريستي بريمو، الباحثة في علم الآثار بجامعة ولاية نيويورك في ألباني، بيانات الليدار وأدوات نظم المعلومات الجغرافية لتحديد الكيفية التي كان سينتشر بها الصوت الصادر من المنازل الكبرى (مع أخذ متغيرات من قبيل الرطوبة ودرجة حرارة الهواء في الاعتبار).
وقد أثبت عملهما، من بين مَن أثبت، أن الشخص الواقف في أحد هذه المنازل الكبرى كان بإمكانه أن يسمع شخصاً يخاطب جماعة في منزل آخر من المنازل الكبرى على بعد نحو 500 قدم.
فماذا لو نُفخ في قوقعة بالقرب من كاسا رينكونادا (وهو بناء شعائري كبير موجود داخل الأخدود) عند الفجر وقت الانقلاب الصيفي؟ أثبت البحث أن الصوت كان سينتقل في عموم الأخدود، بل ويصل إلى الأضرحة المقامة فوق قمة بعض الهضاب.
لكن الصوت لم يكن لينتقل إلى هذه الأضرحة لو كانت مواقعها مختلفة مجرد اختلاف طفيف.
تقول بريمو: «بدأنا نكتشف أن هناك أماكن على المحيط الخارجي كان بإمكانها أن تسمع الأصوات. هذا لا يعني بالضرورة أنهم وضعوها هناك لأغراض صوتية، لكن من حُسن النظام أن هذه الأماكن كانت على الحافة الصوتية مباشرة».
تريد ريسيتو الإتيان بالتحليل الصوتي إلى عالمها الافتراضي، مما يسمح لها بأن تحدد مثلاً ما إذا كان بإمكان الأشخاص الذين يتجولون في جنبات المدينة سماع الطقوس المقامة داخل المباني. وهي تقول: «سيوحي هذا بمستوى من السرية والقوة. فأنت على دراية بشيء معيّن لكنك لا تراه».

الغوص في أعماق الماضي
تعتبر البحوث الصوتية عنصراً أساسياً في دراسة الآثار الموجودة تحت الماء وتحت الأرض، لكن لسبب مختلف، حيث تساعد الباحثين على العثور على حطام السفن القديمة والمدن الغارقة في الماء.
تبوّأ السونار مكانة كأداة حيوية منذ عقود من الزمن، لكن التحسينات التي أُدخلت عليه أخيراً تجعله أقوى وأكثر فعالية بكثير، حيث يمكن الآن استخدامه في الحصول على صور عالية الوضوح للأجسام البعيدة (فيما مضى كان بإمكان السونار أن يظهر موقع الأجسام البعيدة، لكن كان يجب على الباحثين الاقتراب من أجل الحصول على نظرة واضحة). يقول أستاذ علم الآثار المغمورة في المياه بجامعة لوند في السويد، بريندان فولي: «تحصل الآن على مزيج من المدى الرائع والوضوح الشديد في حزمة واحدة».
والأكثر من ذلك، كما يضيف فولي، أن السونار الموضوع على متن مركبة غواصة مستقلة قادر على تحديد مواقع الأجسام تحت المائية على نحو أكثر كفاءة من السونار المستخدم على متن القوارب السطحية.
وبالجمع بين السونار وأجهزة الليدار والمسح التصويري المخصصة للعمل تحت الماء، تستطيع المركبات الغواصة المستقلة تزويد الباحثين بخرائط مفصلة ثلاثية الأبعاد لقاع البحر وأي شيء مستقر فيه، كالسفن الغارقة مثلاً، وعندها يمكن دمج هذه الأجسام في نموذج يعرض الطريقة المحتملة التي تحطمت بها سفينة بعينها.
كما سهّل التقدم الذي شهدته معدات الغوص أيضاً أعمال التنقيب تحت الماء كثيراً. فباستخدام معدات الغوص التقليدية، يستطيع علماء الآثار مسح المواقع الموجودة على أعماق عشرات الأمتار لبضع دقائق فحسب. لكن في السنوات الأخيرة، مكّنت أنظمة إعادة تدوير هواء الزفير (التي تزيل ثاني أكسيد الكربون وتضيف الأكسجين) فولي وغيره من علماء الآثار المغمورة في المياه من البقاء في أعماق المياه يعملون ساعات عدة في المرة الواحدة.
وقد اختبر فولي أخيراً شيئاً قد يمثّــل المرحلة التالية على طريقة الإنجازات الكبرى في علم الآثار المغمـــــورة في المياه، وهـــــو بدلة «إكسو سوت»، التي يصفها فولــــي بأنها «غواصة قابلة للارتــــداء، بدلة غطس الرجل الحديدي».
يسمح هذا الجهاز الذي يغطي كامل الجسم للغواصين بالنزول إلى عمق 1000 قدم لمدة تصل إلى 50 ساعة. وهو يمد الغواصين بهواء صالح للتنفس عند مستوى الضغط الجوي، مما يغني عن الحاجة إلى تخفيض الضغط فيما بعد الغوص، ويحتوي على أضواء ودفّاعات لتسهيل التحرك هنا وهناك، إضافة إلى تجهيزات اتصال تسمح للغواص بالتواصل في الزمن الحقيقي مع زملائه على السطح.
لا ريب في أن تحليل المشغولات الغارقة تحت الماء محدود مهما كانت معدات الغوص المستخدمة، لكن علماء الآثار البحرية على سطح الأرض يملكون الآن أدوات جديدة تساعدهم على تمحيص العينات التي تُجمع من الأعماق وقد أصابها تدهور شديد بفعل البحر.
يشعر فولي بحماس خاص تجاه تقنيات استخلاص الحمض النووي والتكبير، التي تتيح التعرف على هوية المادة البيولوجية من خلال عينات صغيرة جداً من الحمض النووي. ويعكف فولي، باستخدام هذه التقنيات، على دراسة الجرار الخزفية المعروفة باسم الأمفورات التي استُخرجت من حطام سفينة غارقة عمرها 2400 سنة قبالة جزيرة خيوس اليونانية.
هذه الجرار فارغة نمطياً، لكن شذرات الحمض النووي التي تُكشط من جدرانها الداخلية تُظهر أن بعضها كان ذات يوم يحتوي على زيت الزيتون والمردقوش، أما بعضها الآخر فكان يحتوي على راتنج نباتي كان من الشائع إضافته إلى الخمر في الأزمنة القديمة. 
يقول فولي: «قد يبدو هذا شيئاً عديم الإثارة، لكننا بدأنا نحصل في الحقيقة على أول بيانات مؤكدة عن ركائز أقدم الاقتصادات وأنواع السلع التي كان الناس يتاجرون فيها».
تساعد هذه التكنولوجيات وغيرها عموماً على تقريب علماء الآثار أكثر وأكثر من فهم حياة أسلافنا. فكما تقول ريسيتو: «نحن في طليعة محاولة فهم ماهيتنا كبشر» ■