الروائي المغربي عبدالكريم جويطي وعبدالرحيم العلام هناك نزوح جماعي نحو كتابة الرواية لكنه لم يترك الشعر

الروائي المغربي عبدالكريم جويطي وعبدالرحيم العلام هناك نزوح جماعي نحو كتابة الرواية لكنه لم يترك الشعر

بقدر‭ ‬ما‭ ‬تتعدد‭ ‬صور‭  ‬عبدالكريم‭ ‬جويطي،‭ ‬تتعدد‭ ‬مستويات‭ ‬حضوره‭ ‬المضيء‭ ‬والمؤثر‭ ‬في‭ ‬مشهدنا‭ ‬الإبداعي‭ ‬المغربي‭ ‬والعربي‭. ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فجويطي‭ ‬كاتب‭ ‬متعدد‭ ‬الاهتمامات،‭ ‬بالأدب‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتشكيل‭ ‬والثقافة‭ ‬الشعبية‭ ‬والسينما‭ ‬والمسرح‭ ‬والترجمة‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وقارئ‭ ‬ومتذوق‭ ‬كبير‭ ‬للنصوص‭ ‬والظواهر‭ ‬والمتون،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يُعرف‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الإبداعي‭ ‬المغربي،‭ ‬بكونه‭ ‬روائياً‭ ‬متميزاً،‭ ‬صدر‭  ‬له‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الروايات،‭ ‬بدءاً‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬ليل‭ ‬الشمس‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حاز‭  ‬بها‭ ‬‮«‬جائزة‭ ‬اتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬المغرب‭ ‬للأدباء‭ ‬الشباب‮»‬،‭ ‬في‭ ‬دورتها‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬1990،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتوالى‭ ‬رواياته،‭ ‬كان‭ ‬آخرها‭ ‬روايته‭ ‬المتميزة‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬‭ (‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬2016‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬اللائحة‭ ‬الطويلة‭ ‬لجائزة‭ ‬البوكر‭  ‬العالمية‭ ‬للرواية‭ ‬العربية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ترجماته‭ ‬الرصينة‭ ‬لأعمال‭ ‬كبار‭  ‬الكتاب،‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬وخارجه‭.‬

حول‭ ‬حضوره‭ ‬الروائي‭ ‬والثقافي‭ ‬والإبداعي،‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الممتع‭ ‬مع‭ ‬الكاتب‭ ‬والمترجم‭ ‬المغربي‭ ‬عبدالكريم‭ ‬جويطي،‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬وبداياتها‭ ‬ومرجعياتها‭ ‬وفضاءاتها‭ ‬وطقوسها،‭ ‬وتحديداً‭ ‬حول‭ ‬روايته‭ ‬المدهشة‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬‭.‬

‭<‬‭ ‬تشهد‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬طفرة‭ ‬ملحوظة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬ونشرها،‭ ‬وتزايد‭ ‬الجوائز‭ ‬المرتبطة‭ ‬بها،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬البعض‭ ‬بخفوت‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬وكأننا‭ ‬فعلاً‭ ‬نعيش‭ ‬زمناً‭ ‬جديداً‭ ‬هو‭ ‬زمن‭ ‬الرواية‭.‬

‭ ‬وبما‭ ‬أنك‭ ‬تساهم‭ ‬من‭ ‬جهتك،‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬مدونة‭ ‬الرواية‭ ‬المغربية‭ ‬والعربية،‭ ‬بنصوص‭ ‬روائية‭ ‬لافتة،‭ ‬كان‭ ‬آخرها‭ ‬روايتك‭ ‬المتميزة‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬،‭ ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقرّبنا‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الجديد‭ ‬نحو‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كتاب‭ ‬ونقاد‭ ‬انعطفوا‭ ‬فجأة‭ ‬نحو‭ ‬كتابتها،‭ ‬قادمين‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬اهتمامات‭ ‬أدبية‭ ‬مغايرة؟‭ ‬

‭- ‬هناك‭ ‬مفارقة‭ ‬تاريخية‭ ‬ينبغي‭ ‬الانتباه‭ ‬إليها،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يغرق‭ ‬فيه‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تقليدانية‭ ‬متخلفة،‭ ‬وتنهار‭ ‬فيه‭ ‬مدنه‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منارات‭ ‬للتنوير‭ ‬الثقافي‭ (‬بيروت،‭ ‬بغداد،‭ ‬دمشق،‭ ‬القاهرة‭...) ‬ويتم‭ ‬ترييفها‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬وعميق،‭ ‬وتزهر‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬الطائفة‭ ‬والعشيرة‭ ‬والهويات‭ ‬المنكفئة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬وتتراجع‭ ‬فيه‭ ‬قيم‭ ‬التمدن‭ ‬الحقيقية‭ ‬وفضاءات‭ ‬إنتاجها‭ ‬وتداولها‭ ‬لصوغ‭ ‬مكان‭ ‬رحب‭ ‬ومضياف،‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬سواسية‭ ‬ينتسبون‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬قوالب‭ ‬اجتماعية‭ ‬ودينية‭ ‬بالية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬اللئيم،‭ ‬وداخل‭ ‬زمن‭ ‬مدننا‭ ‬الجنائزية،‭ ‬يصير‭ ‬الزمن‭ ‬زمن‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬واكبت‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬صعود‭ ‬المدينة‭ ‬واحتكارها‭ ‬للقرار‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والثقافي،‭ ‬واتخذت‭ ‬من‭ ‬ساحاتها‭ ‬وشوارعها‭ ‬ومرافقها‭ ‬وتعقد‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬مبرر‭ ‬وجودها‭. ‬ولأن‭ ‬قدرنا‭ ‬دوماً‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ننجز‭ ‬الأشياء‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭ ‬وأن‭ ‬نغرق‭ ‬في‭ ‬النهايات‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬نحتفي‭ ‬بالبدايات،‭ ‬وأن‭ ‬نلاحق‭ ‬تاريخا‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬إلا‭ ‬التراجيديات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬معها‭ ‬قدرة‭ ‬الشعر‭ ‬وحيزه‭ ‬قاصرين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحيطا‭ ‬بتعقيداتها‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬وتمزقات‭ ‬ودمار‭ ‬وتهجير‭ ‬جماعي‭ ‬وتجريف‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬نفسه،‭ ‬فالأمر‭ ‬أشبه‭ ‬بوردة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬تعبره‭ ‬فيلة‭ ‬غاضبة‭. ‬ربما‭ ‬الصمت‭ ‬العميق‭ ‬والمستنكر‭ ‬هو‭ ‬الأقدر‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬هذا‭ ‬الخراب‭ ‬المعمم‭. ‬هناك‭ ‬نزوح‭ ‬جماعي‭ ‬نحو‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬الشعر‭ ‬وراءه،‭ ‬بل‭ ‬حمله‭ ‬معه‭.‬

‭ ‬أقرأ‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تكتب‭ ‬الآن‭ ‬غنائية‭ ‬وبناء‭ ‬شعريا‭ ‬للصورة،‭ ‬وانزياحات‭ ‬لا‭ ‬تتصالح‭ ‬معها‭ ‬إلا‭ ‬روح‭ ‬الشعر‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬أجزم‭ ‬بأن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬كتبت‭ ‬بنفس‭ ‬وصنعة‭ ‬شعريين‭ ‬أساساً‭. ‬مثلما‭ ‬حمل‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬معهم‭ ‬معرفتهم‭ ‬بصيغ‭ ‬وأشكال‭ ‬الخطاب‭ ‬وتقنيات‭ ‬السرد‭ ‬وتبدى‭ ‬في‭ ‬نصوصهم‭ ‬جهد‭ ‬تجريب‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬وحمل‭ ‬آخرون‭ ‬معرفتهم‭ ‬بعوالم‭ ‬أخرى‭ ‬كالمونتاج‭ ‬السينمائي‭ ‬والروبورتاج‭ ‬الصحفي‭ ‬والتشكيل‭ ‬الفني‭. ‬فالجنس‭ ‬الروائي‭ ‬مرن،‭ ‬وله‭ ‬قابلية‭ ‬لامتصاص‭ ‬وتحويل‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬الأخرى‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬حقيقية،‭ ‬وبخلاف‭ ‬الشعر،‭ ‬تتطلب‭ ‬معرفة‭ ‬واسعة‭ ‬ورؤية‭ ‬متميزة‭ ‬وتمكناً‭ ‬لغوياً،‭ ‬يتجاوز‭ ‬بناء‭ ‬صورة‭ ‬بلاغية‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬محفل‭ ‬تتجاور‭ ‬فيه‭ ‬تعددية‭ ‬أصوات،‭ ‬وتمكننا‭ ‬تقنياً‭ ‬من‭ ‬تشييد‭ ‬معمار‭ ‬نصي‭ ‬متماسك‭ ‬ومقنع‭. ‬أنتج‭ ‬هذا‭ ‬النزوح‭ ‬الجماعي‭ ‬كمّاً‭ ‬لافتاً،‭ ‬فيه‭ ‬زبد‭ ‬وغثاء‭ ‬كثير،‭ ‬لكن‭ ‬العلامات‭ ‬المضيئة‭ ‬نادرة،‭ ‬وبين‭ ‬مئات‭ ‬الروايات‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬أحياناً‭ ‬ما‭ ‬تملأ‭ ‬به‭ ‬أصابع‭ ‬اليد‭. ‬فحلكة‭ ‬الليل‭ ‬على‭ ‬سعتها‭ ‬لا‭ ‬تجود‭ ‬أحياناً‭ ‬إلا‭ ‬ببعض‭ ‬النجوم‭...‬

غير‭ ‬أننا‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬ننخدع‭ ‬بالظاهر،‭ ‬فإقبال‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬وإعراض‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الكبيرة‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬وتأسيس‭ ‬جوائز‭ ‬كبرى‭ ‬للاحتفاء‭ ‬بالرواية،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬دخل‭ ‬حقاً‭ ‬زمن‭ ‬الرواية،‭ ‬ففي‭ ‬نظري‭ ‬مازال‭ ‬للشعر‭ ‬مكانته‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬وللعربي‭ ‬علاقة‭ ‬أنطولوجية‭ ‬به،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬يفضل‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬روايات‭ ‬ترضي‭ ‬مكانة‭ ‬الشعر‭ ‬بداخله،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الخطابي‭ ‬والهجائي،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تقرأ‭ ‬روايات‭ ‬هي‭ ‬قصائد‭ ‬ضلت‭ ‬طريقها،‭ ‬ويكفي‭ ‬للاستدلال‭ ‬على‭ ‬هذا،‭ ‬أن‭ ‬تتصفح‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فهي‭ ‬مليئة‭ ‬بالاستشهادات‭ ‬الشعرية،‭ ‬ونادراً‭ ‬ما‭ ‬ترى‭ ‬استشهاداً‭ ‬مأخوذاً‭ ‬من‭ ‬رواية‭... ‬يحضر‭ ‬درويش‭ ‬بقوة‭ ‬ونكاد‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭.‬

‭<‬‭ ‬بدأت‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬بروايتك‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬ليل‭ ‬الشمس‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬حازت‭ ‬جائزة‭ ‬اتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬المغرب‭ ‬للأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬دورتها‭ ‬الأولى،‭ ‬عام‭ ‬1990‭ (‬صنف‭ ‬‮«‬الرواية‮»‬‭). ‬فكيف‭ ‬استهوتك‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية،‭ ‬خلافاً‭ ‬لأجناس‭ ‬أدبية‭ ‬أخرى؟‭ ‬هل‭ ‬جاء‭ ‬الأمر‭ ‬استجابة‭ ‬لسياق‭ ‬زمني‭ ‬ما،‭ ‬أم‭ ‬للإجابة‭ ‬عن‭ ‬حالات‭ ‬ذاتية‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬مرحلة‭ ‬ما،‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬طبيعة‭ ‬الإيقاع‭ ‬النثري‭ ‬للحياة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم؟‭ ‬

‭- ‬وُلدت‭ ‬روائياً‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لي‭ ‬محاولات‭ ‬شعرية‭ ‬ولا‭ ‬قصصية‭. ‬حاولت‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الإعدادي‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬وفشلت‭ ‬وعاودت‭ ‬الكرَّة‭ ‬حين‭ ‬امتلكت‭ ‬أدوات‭ ‬كتابتها‭... ‬لا‭ ‬أقدر‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬حتى‭ ‬النصوص‭ ‬الحكائية‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬كتبتها‭ ‬إما‭ ‬استجابة‭ ‬لطلب‭ ‬ما‭ ‬وإما‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬ملف‭. ‬ربما‭ ‬صرختي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستوعبها‭ ‬قصيدة‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭. ‬كتبت‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬دوماً‭ ‬بحرقة‭ ‬وبإخلاص،‭ ‬كأنني‭ ‬أكتب‭ ‬وصيتي‭ ‬الأخيرة‭. ‬وبما‭ ‬أنني‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬رحمة‭ ‬وقساوة‭ ‬السماء،‭ ‬وكنت‭ ‬أعيش‭ ‬كغيري‭ ‬عذاب‭ ‬انحباس‭ ‬المطر‭ ‬ورؤية‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يدوي‭ ‬ومناظر‭ ‬الحيوانات‭ ‬البئيسة‭ ‬وهي‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الفتات‭ ‬في‭ ‬مزابل‭ ‬المدينة،‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬أول‭ ‬رواية‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬الجفاف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطول‭ ‬الأرض‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬النفوس‭ ‬أيضاً‭. ‬فبالرواية،‭ ‬تمكنت‭ ‬دوماً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أروض‭ ‬وأسيطر‭ ‬على‭ ‬مخاوفي،‭ ‬وكتبت‭ ‬دوماً‭ ‬عما‭ ‬يشكل‭ ‬لي‭ ‬سؤالاً‭ ‬كبيراً‭. ‬وأعتقد‭ ‬أنني‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أواصل‭ ‬بناء‭ ‬مسار‭ ‬روائي‭ ‬لا‭ ‬أشبه‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬نفسي‭.‬

‭<‬‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬روايتك‭ ‬الجديدة‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬،‭ ‬تحقق‭ ‬اليوم‭ ‬تلقيات‭ ‬وإشادات‭ ‬واسعة‭ ‬بها،‭ ‬اعتباراً‭ ‬لطرافة‭ ‬موضوعها‭ ‬ولجرأته‭ ‬المدهشة،‭ ‬فهي‭ ‬رواية،‭ ‬كما‭ ‬وصفتها‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬لي،‭ ‬عن‭ ‬العمى‭ ‬الرمزي‭ ‬الذي‭ ‬عاشه‭ ‬المغاربة‭ ‬طوال‭ ‬تاريخهم؛‭ ‬عمى‭ ‬ترك‭ ‬التقليد‭ ‬يشل‭ ‬طاقتهم‭ ‬ويحجب‭ ‬عنهم‭ ‬المستقبل‭ ‬ويسجنهم‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬عمى‭ ‬تمكنت‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬بسط‭ ‬دلالاته‭ ‬بشكل‭ ‬مثير‭... ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فهي‭ ‬رواية‭ ‬تُضاف‭ ‬إلى‭ ‬رواياتك‭ ‬السابقة،‭ ‬في‭ ‬انتصارها‭ ‬جميعها‭ ‬للشخصية‭ ‬المغربية‭ ‬وللمجتمع‭ ‬المغربي،‭ ‬في‭ ‬تحولاته‭ ‬الرهيبة،‭ ‬وأيضاً‭ ‬في‭ ‬توسلها‭ ‬بالنظرة‭ ‬النقدية‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬انتكاساته‭ ‬وانشداده‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭... ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬،‭ ‬بمنزلة‭ ‬تصفية‭ ‬حساب‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬بلد‭ ‬لا‭ ‬يلد‭ ‬إلا‭ ‬التكرار‭ ‬والأشباه‭ ‬والنظائر،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يزهر‭ ‬فيه‭ ‬غير‭ ‬الماضي؟

‭- ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أنهيت‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬كتيبة‭ ‬الخراب‮»‬،‭ ‬وأنا‭ ‬أحضر‭ ‬نفسي‭ ‬لكتابة‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬‭. ‬قرأت‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬والفقه‭ ‬والرحلات‭ ‬والأدب‭ ‬والتراجم‭ ‬والفهرسات‭ ‬والمناقب‭ ‬والكرامات،‭ ‬وكنت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬مكامن‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬تقهر‭ ‬الزمن‭ ‬وتسخر‭ ‬منه،‭ ‬وتبقى‭ ‬عالقة‭ ‬بسلوك‭ ‬ومواقف‭ ‬ورؤية‭ ‬المغاربة‭ ‬لأنفسهم‭ ‬وللعالم‭ ‬المحيط‭ ‬بهم؛‭ ‬هي‭ ‬سمات‭ ‬وخصائص‭ ‬وثوابت‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬كما‭ ‬أشرتم‭ ‬في‭ ‬دراستكم‭ ‬الرصينة‭ ‬للرواية،‭ ‬يعيش‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الثبات‭ ‬والتكرار‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬الطويل‭. ‬كنت‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تتصدى‭ ‬الرواية‭ ‬لمشكل‭ ‬الهوية‭ ‬الشائك‭ ‬هذا،‭ ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مادة‭ ‬متنافرة‭ ‬ومتناقضة‭ ‬أحيانا؟‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬قول‭ ‬قرون‭ ‬في‭ ‬كلمات؟‭ ‬وأنا‭ ‬أجمع‭ ‬المادة‭ ‬وأعمق‭ ‬رؤيتي‭ ‬لتاريخ‭ ‬البلد،‭ ‬تذكرت‭ ‬حكاية‭ ‬مثيرة‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬حكاها‭ ‬لي‭ ‬صديق‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬مجاورة‭ ‬لمدينتي‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬الفقيه‭ ‬بن‭ ‬صالح‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أعميين‭ ‬ذهبا‭ ‬لخطبة‭ ‬بنت‭ ‬في‭ ‬الجبل،‭ ‬ولظروف‭ ‬عائلتها‭ ‬عادا‭ ‬بها‭ ‬معهما،‭ ‬أعجب‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬فقط‭ ‬للمساعدة‭ ‬وتحايل‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬وسرقها‭ ‬منه،‭ ‬تذكرت‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬وأنا‭ ‬ألاحظ‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬العمى‭ ‬يغلف‭ ‬البلد،‭ ‬ويشكل‭ ‬رؤية‭ ‬المغاربة‭ ‬لأنفسهم‭ ‬ولبلدهم،‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أبني‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العاهة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬عرج‭ ‬أو‭ ‬عمى‭. ‬كنت‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬لشخصين‭ ‬ناقمين‭ ‬على‭ ‬البلد،‭ ‬تكون‭ ‬لهما‭ ‬قدرة‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬يقوض‭ ‬ويسفه‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يرضيه‭.‬

‭ ‬وهكذا‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬نصاً‭ ‬زاوجت‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬المتعة‭ ‬والتشويق‭ ‬والتناول‭ ‬الجينيالوجي‭ ‬لفكرة‭ ‬تشكل‭ ‬المغرب‭ ‬والمغاربة‭ ‬بغير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الحديد‭ ‬والنار‭ ‬والعذاب‭ ‬والدماء‭. ‬حين‭ ‬أكملت‭ ‬الرواية‭ ‬واضطررت‭ ‬لكبح‭ ‬جماحي‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬أكتب‭ ‬ضعف‭ ‬ما‭ ‬كتبت،‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬لا‭ ‬يرضى‭ ‬بأنصاف‭ ‬الأشياء،‭ ‬فإما‭ ‬هو‭ ‬نص‭ ‬رديء‭ ‬وفاشل،‭ ‬وإما‭ ‬هو‭ ‬نص‭ ‬جيد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬رهانه‭ ‬الصعب‭. ‬قدمتها‭ ‬لناقد‭ ‬صديق،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أنتظر‭ ‬انطباعه‭ ‬الأولي‭ ‬بعد‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬يوما،‭ ‬لأن‭ ‬له‭ ‬مشاغل،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬هاتفني‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬قائلاً‭ ‬إنه‭ ‬بدأ‭ ‬قراءة‭ ‬الرواية‭ ‬وترك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ولم‭ ‬تفارقه‭ ‬يده‭ ‬حتى‭ ‬أنهاها‭ ‬وأشاد‭ ‬بها‭ ‬كثيراً‭. ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قرأها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬فبعضهم‭ ‬اعتبرها‭ ‬كبيرة‭ ‬وعظيمة‭ ‬وعالمية،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬كرمهم‭ ‬طبعاً‭. ‬كنت‭ ‬قاسياً‭ ‬على‭ ‬المغاربة،‭ ‬نعم‭. ‬كنت‭ ‬عنيفاً،‭ ‬نعم‭. ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الخدمة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬بإمكان‭ ‬الأدب‭ ‬أن‭ ‬يقدمها‭ ‬لمجتمعه‭: ‬لغة‭ ‬جديدة‭ ‬وخيال‭ ‬جديد‭ ‬وفضح‭ ‬لا‭ ‬هوادة‭ ‬فيه‭ ‬لنتانة‭ ‬العش‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬كارل‭ ‬كراوس‭. ‬

أجمع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬جريئة،‭ ‬كما‭ ‬قلت‭ ‬أنت‭ ‬أيضاً‭ ‬أستاذ‭ ‬عبدالرحيم،‭ ‬لم‭ ‬أتعمد‭ ‬ذلك‭ ‬طبعا‭. ‬لقد‭ ‬ركبت‭ ‬مغامرة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬أحطم‭ ‬صورة‭ ‬بنيناها‭ ‬عن‭ ‬تاريخنا‭ ‬وهي‭ ‬غير‭ ‬حقيقية،‭ ‬وسلطت‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الركن‭ ‬والعتمات‭ ‬النتنة‭ ‬وفضحت‭ ‬المغاربة‭ ‬بسلاطينهم‭ ‬وأوليائهم‭ ‬وشننت‭ ‬الغارة‭ ‬تلو‭ ‬الغارة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العمى‭ ‬الذي‭ ‬يبقي‭ ‬البلد‭ ‬تحت‭ ‬قبضة‭ ‬التقليد،‭ ‬وكنت‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يعضد‭ ‬بجرأة‭ ‬شكلية‭ ‬وبقوة‭ ‬كتابة‭ ‬مفككة‭... ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬نصاً‭ ‬سيذكرني‭ ‬به‭ ‬المغاربة‭ ‬دوما‭.‬

‭<‬‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬مرجعيات‭ ‬روائية‭ ‬عالمية،‭ ‬تفاعلت‭ ‬معها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬القراءة‭ ‬والتأثر،‭ ‬وأنت‭ ‬تكتب‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬،‭ ‬بشكل‭ ‬جعل‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬يضعون‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الروايات‭ ‬العالمية‭ ‬السحرية،‭ ‬كما‭ ‬تخلقت‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭... ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقربنا‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬الكيمياء‭ ‬التي‭ ‬فجرت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الطاقة،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬الإبداع،‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬الدلالات،‭ ‬وأنت‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬شعب‭ ‬بكامله‭ ‬وترصد‭ ‬تاريخه،‭ ‬بمتعة‭ ‬ودهشة،‭ ‬بأشكال‭ ‬يتداخل‭ ‬فيها‭ ‬الواقعي‭ ‬بالكفكاوي‭ ‬بالسحري‭ ‬بالغرائبي؟

‭- ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬شجرة‭ ‬أنسابه،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬وإنما‭ ‬يستأنفها،‭ ‬والتحدي‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬كل‭ ‬كاتب‭ ‬جدير‭ ‬بهذه‭ ‬الصفة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يضيف‭ ‬غصناً‭ ‬صغيراً‭ ‬بل‭ ‬ورقة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬اليانعة‭. ‬نادرون‭ ‬هم‭ ‬الكتاب‭ ‬الذين‭ ‬يضيفون‭ ‬تفريعاً‭ ‬جديداً‭ ‬ويفتحون‭ ‬أفقاً‭ ‬جديداً‭ ‬للشجرة،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬نسميهم‭ ‬عباقرة‭ ‬مثل‭ ‬سيرفانتيس‭ ‬وخوان‭ ‬وكافكا‭ ‬وبروست‭ ‬وجويس‭ ‬وخوان‭ ‬رولفو‭ ‬وفولكنر،‭ ‬وغيرهم‭. ‬لا‭ ‬كتابة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طموح‭ ‬أدبي‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬جهد‭ ‬كبير‭ ‬لبناء‭ ‬صوت‭ ‬وتجربة‭ ‬لها‭ ‬جدارة‭ ‬الانتساب‭ ‬لشجرة‭ ‬الأدب‭. ‬قد‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬بالحدس‭ ‬وفي‭ ‬لقاء‭ ‬خارق‭ ‬مع‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬تسعف‭ ‬فيها‭ ‬العبارة،‭ ‬لكن‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬تكتب‭ ‬دوماً‭ ‬إلا‭ ‬بمجهود‭ ‬عقلي‭ ‬وبقدرة‭ ‬على‭ ‬التخطيط‭ ‬والبناء‭ ‬المركب،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬تكتب‭ ‬بثقافة‭ ‬كبيرة،‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬الثقافة‭ ‬الضحلة‭ ‬إلا‭ ‬روايات‭ ‬تافهة‭ ‬لهذا‭ ‬تحتاج‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬الوقت‭. ‬روائع‭ ‬عالمية‭ ‬تطلبت‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬كتابها،‭ ‬يكفي‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أعطي‭ ‬مثالاً‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المعلم‭ ‬ومارجريت‮»‬‭ ‬لبولكاكوف‭ ‬العظيم،‭ ‬التي‭ ‬تطلبت‭ ‬منه‭ ‬ثماني‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭. ‬منذ‭ ‬بداياتي‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬فطنت‭ ‬لأهمية‭ ‬قراءة‭ ‬التجارب‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬فالكتاب‭ ‬كالنحلة‭ ‬إن‭ ‬قنعت‭ ‬بقطعة‭ ‬السكر‭ ‬القريبة‭ ‬فستعطي‭ ‬عسلاً‭ ‬ولكنه‭ ‬بقيمة‭ ‬هزيلة،‭ ‬وإن‭ ‬تحاملت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وصعدت‭ ‬الجبل‭ ‬وطافت‭ ‬على‭ ‬الأزهار‭ ‬البرية‭ ‬واحدة‭ ‬واحدة،‭ ‬فستعطي‭ ‬عسلاً‭ ‬جيداً،‭ ‬فيه‭ ‬نسغ‭ ‬وروائح‭ ‬وروح‭ ‬الجبل‭ ‬المهيب‭. ‬

إن‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬كتبت‭ ‬‮«‬نصوصاً‭ ‬محترمة‮»‬،‭ ‬فلأنني‭ ‬ألزم‭ ‬نفسي‭ ‬دوماً‭ ‬بجهد‭ ‬أكبر،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬رواية‭ ‬أتحرر‭ ‬بين‭ ‬صخرتين‭ ‬من‭ ‬جلدي‭ ‬القديم‭ ‬لينبت‭ ‬لي‭ ‬جلد‭ ‬جديد‭. ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬فيها‭ ‬نفس‭ ‬كتّاب‭ ‬أمريكا‭ ‬الكبار،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬كتاب‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنني‭ ‬تأثرت‭ ‬بكتاب‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬وخصوصاً‭ ‬ماركيز‭ ‬وساباتو‭ ‬وكبريرا‭ ‬أنفونتي‭ ‬وسيفيرو‭ ‬ساردوي،‭ ‬وكنت‭ ‬أعي‭ ‬هذا‭ ‬وأنا‭ ‬أكتب،‭ ‬لذا،‭ ‬مثلاً،‭ ‬أوردت‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مشهد‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‮»‬،‭ ‬حكاية‭ ‬والي‭ ‬تمصلوحت‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬فتبعته‭ ‬كل‭ ‬طيور‭ ‬البلدة‭ ‬مشكلة‭ ‬غمامة‭ ‬تظله،‭ ‬والنص‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭.‬

ما‭ ‬نعيشه‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عجائبية‭ ‬وغرابة‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وبإمكان‭ ‬الكتَّاب‭ ‬المغاربة‭ ‬استثمار‭ ‬تراث‭ ‬كامل‭ ‬مليء‭ ‬بالخوارق‭ ‬والمغربات‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا،‭ ‬فالواقع‭ ‬له‭ ‬دوماً‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬والإدهاش‭ ‬تفوق‭ ‬دوماً‭ ‬خيال‭ ‬أعظم‭ ‬الكتاب‭.‬

‭ ‬‭<‬‭ ‬تناولت‭ ‬في‭ ‬نصوصك‭ ‬الروائية‭ ‬الصادرة‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الثيمات‭ ‬والأسئلة،‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالقرية‭ ‬والمدينة‭ ‬والأرض‭ ‬والإنسان‭ ‬والهجرة‭ ‬والسلطة‭ ‬والفساد‭ ‬والقهر‭ ‬والجنون‭ ‬والموت‭ ‬والحب،‭ ‬وغيرها،‭ ‬ما‭ ‬يثري‭ ‬رواياتك‭ ‬بعديد‭ ‬من‭ ‬الدلالات،‭ ‬ويفتح‭ ‬قراءتها‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التآويل‭ ‬المخصبة‭. ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬مدينة‭ ‬صغيرة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬بني‭ ‬ملال‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تسكنك‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬تسكنها‭ ‬أنت،‭ ‬قد‭ ‬حظيت‭ ‬بنصيب‭ ‬وافر‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬استيحائها‭ ‬المكرور‭ ‬في‭ ‬نصوصك،‭ ‬ويعود‭ ‬لك‭ ‬الفضل‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬إدخال‭ ‬المدينة‭ ‬إلى‭ ‬جو‭ ‬السرد،‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬وفاء‭ ‬مشتهى‭ ‬لها،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬أنها‭ ‬مدينة‭ ‬سردية‭ ‬بامتياز‭. ‬فهل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تقربنا،‭ ‬باختصار،‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬دوافع‭ ‬وأشكال‭ ‬تفاعلك‭ ‬مع‭ ‬المكون‭ ‬التخييلي‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬في‭ ‬تحولها‭ ‬وتحول‭ ‬مصائر‭ ‬شخوصها؟‭ ‬

‭- ‬مدينة‭ ‬بني‭ ‬ملال‭ ‬هي‭ ‬نصيبي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬لا‭ ‬أسافر‭ ‬إلا‭ ‬نادرا،‭ ‬ولم‭ ‬أر‭ ‬البحر‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الإجازة‭. ‬رأيت‭ ‬العالم‭ ‬وحلمت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬خيالي‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الكتب‭ ‬فقط‭. ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬أصدقائي،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬بعض‭ ‬ساكني‭ ‬المدينة،‭ ‬كيف‭ ‬حولت‭ ‬قرية‭ ‬كبيرة‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يحدث‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬ليل‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬حياة‭ ‬صاخبة‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬لروايات؟‭ ‬وكنت‭ ‬أجيب‭ ‬دوماً‭ ‬بأن‭ ‬لغز‭ ‬الحياة‭ ‬العظيم‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الكبيرة‭ ‬والصغيرة‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الدواوير،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭: ‬ملاعبة‭ ‬الزمن‭ ‬والأقدار‭ ‬لنا‭ ‬كما‭ ‬تلاعب‭ ‬الريح‭ ‬قشة،‭ ‬انكسار‭ ‬الأحلام،‭ ‬عذابات‭ ‬الحب‭.‬

يعيش‭ ‬الناس‭ ‬مـــنذ‭ ‬أزمنة‭ ‬سحيقة‭ ‬التراجيديات‭ ‬نفسها،‭ ‬والألم‭ ‬الإنساني‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬ما‭ ‬يتغير‭ ‬هو‭ ‬التفاصيل‭ ‬فقط‭ ‬والقشور‭. ‬ثم‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬أمكنة‭ ‬وهابة‭ ‬للرواية‭ ‬وأخرى‭ ‬بخيلة‭. ‬الكتابة‭ ‬بالأساس‭ ‬جهد‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الذات‭ ‬الكاتبة‭ ‬وعمل‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والخيال‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أي‭ ‬‮«‬باشا‮»‬‭ ‬للمدينة‭ ‬بعد‭ ‬منفى‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ولم‭ ‬تظهر‭ ‬أي‭ ‬مقبرة‭ ‬جماعية‭ ‬في‭ ‬المدينة‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حكيته‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬‭ ‬وقع‭ ‬بداخلي‭ ‬أنا،‭ ‬والمدينة‭ ‬براء‭ ‬منه‭. ‬إننا‭ ‬دوماً‭ ‬ننتهي‭ ‬بخلق‭ ‬مكان‭ ‬بداخلنا،‭ ‬نبنيه‭ ‬بأحلامنا‭ ‬وتمزقاتنا‭ ‬وانكساراتنا‭. ‬كتبت‭ ‬روايات‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بني‭ ‬ملال،‭ ‬وسأكتب‭ ‬وأكتب،‭ ‬فكما‭ ‬قال‭ ‬كفافيس‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬رائعة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المدينة‮»‬،‭ ‬‮«‬ومادمت‭ ‬قد‭ ‬خربت‭ ‬حياتك‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الركن‭ ‬الصغير‭ ‬فهي‭ ‬خراب‭ ‬أينما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الوجود‮»‬‭.‬

‭<‬‭ ‬يعود‭ ‬إليك‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬إدخال‭ ‬مدينتك‭ ‬‮«‬بني‭ ‬ملال‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬السرد‭ ‬والتخييل،‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لك‭ ‬تأثير‭ ‬واضح‭ ‬أيضاً،‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬المدينة‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬محيطها‭ ‬الثقافي،‭ ‬وطنياً‭ ‬وعربياً‭ ‬ودولياً،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬موقعك‭ ‬كفاعل‭ ‬جمعوي،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬موقعك‭ ‬كمسؤول‭ ‬عن‭ ‬قطاع‭ ‬الثقافة،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬سابق،‭ ‬بالمدينة‭ ‬والجهة‭ ‬ككل‭. ‬إذ‭ ‬عرفت‭ ‬المدينة‭ ‬حركة‭ ‬ثقافية‭ ‬وأدبية‭ ‬وفنية‭ ‬لافتة،‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬شهدت‭ ‬زيارة‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬الثقافة‭ ‬والأدب‭ ‬إليها،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬عنها،‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬ما‭ ‬خلفته‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬نفوسهم،‭ ‬من‭ ‬جاذبية‭ ‬وإغراء‭ ‬وموضوع‭ ‬للكتابة‭ ‬والإبداع‭. ‬ففي‭ ‬نظرك،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬لهذه‭ ‬المدينة،‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬زوارها‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والمبدعين،‭ ‬يغادرونها‭ ‬وتتملكهم‭ ‬رغبة‭ ‬العودة‭ ‬إليها؟‭ ‬

‭- ‬لمدينة‭ ‬بني‭ ‬ملال‭ ‬تاريخ‭ ‬موغل‭ ‬في‭ ‬القدم،‭ ‬فهي‭ ‬وريثة‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬داي‮»‬‭ ‬الشهيرة‭. ‬وسبق‭ ‬للجغرافي‭ ‬الفرنسي‭ ‬المرموق‭ ‬غوتييه‭ ‬أن‭ ‬اقترح‭ ‬على‭ ‬سلطات‭ ‬الحماية‭ ‬جعلها‭ ‬عاصمة‭ ‬للمغرب،‭ ‬ففيها‭ ‬القلب‭ ‬الجغرافي‭ ‬والحضاري‭ ‬للمغرب،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬لم‭ ‬يؤخذ‭ ‬رأيه‭ ‬بالاعتبار‭. ‬وعلى‭ ‬صغر‭ ‬المدينة،‭ ‬فهي‭ ‬تكثف‭ ‬بداخلها‭ ‬تمازجاً‭ ‬خلاقاً‭ ‬لكل‭ ‬مكونات‭ ‬الشخصية‭ ‬المغربية‭. ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬صباي،‭ ‬كانت‭ ‬مدينة‭ ‬حقيقية‭ ‬بمكتبات‭ ‬يديرها‭ ‬فرنسيون،‭ ‬وبها‭ ‬مراحيض‭ ‬عمومية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬ودار‭ ‬شباب‭ ‬نشطة،‭ ‬وفريق‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬قوي‭ ‬جداً،‭ ‬وحياة‭ ‬عامة‭ ‬يطبعها‭ ‬الحبور؛‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬غارقة‭ ‬وسطة‭ ‬البساتين‭ ‬والسواقي،‭ ‬وأنت‭ ‬تتجول‭ ‬فيها‭ ‬تشم‭ ‬رائحة‭ ‬النعناع‭ ‬والأزهار‭ ‬البرية‭. ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬انتهى‭. ‬دخلت‭ ‬المدينة‭ ‬منذ‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬مسلسل‭ ‬تخريب‭ ‬ممنهج‭ ‬لكل‭ ‬طاقاتها‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تجعل‭ ‬منها‭ ‬قلعة‭ ‬للنضال‭ ‬ولطاقاتها‭ ‬الطبيعية،‭ ‬فاغتيلت‭ ‬تباعاً‭ ‬غابات‭ ‬الزيتون‭ ‬والبساتين‭ ‬المزهرة،‭ ‬وولد‭ ‬مكانها‭ ‬عمران‭ ‬فج‭ ‬وقبيح‭. ‬صارت‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬عصابات‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬ذرة‭ ‬رحمة‭ ‬فعصفت‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭. ‬حين‭ ‬عينت‭ ‬أستاذاً‭ ‬بإحدى‭ ‬ثانويات‭ ‬المدينة،‭ ‬حاولت‭ ‬من‭ ‬جهتي‭ ‬أن‭ ‬أناضل‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي،‭ ‬كتبت‭ ‬وترأست‭ ‬جمعيات‭ ‬ثقافية‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬أحد‭ ‬المراكز‭ ‬الثقافية‭ ‬المهمة‭. ‬استضافت‭ ‬المدينة‭ ‬معظم‭ ‬الكتاب‭ ‬المغاربة‭ ‬وكتّاباً‭ ‬عرباً‭ ‬مرموقين‭ ‬وكتّاباً‭ ‬عالميين‭ ‬مشهورين،‭ ‬ربطوا‭ ‬صداقة‭ ‬متينة‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬وكتبوا‭ ‬عنه‭. ‬ولدي‭ ‬عشرات‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬المدينة‭ ‬سأنشرها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬مستقبلاً‭. ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬الجمعوي‭ ‬مرهق‭ ‬ويتطلب‭ ‬جهداً‭ ‬وطول‭ ‬نفس‭. ‬ولما‭ ‬يقارب‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬خدمت‭ ‬المدينة‭ ‬ثقافياً‭ ‬كفاعل‭ ‬جمعوي‭ ‬وكمسؤول‭ ‬بوزارة‭ ‬الثقافة،‭ ‬وما‭ ‬أنجزته‭ ‬طيلة‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬يشهد‭ ‬على‭ ‬رحلة‭ ‬طوال‭ ‬للإخلاص‭ ‬لمدينة‭ ‬أعطتني‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وأعطيتها‭ ‬وقتي‭ ‬وطاقتي‭. ‬

وكما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لزهرة‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬ربيعا،‭ ‬فإن‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يتكل‭ ‬على‭ ‬مجهودات‭ ‬الأشخاص‭ ‬وتضحياتهم،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عملاً‭ ‬مؤسساتياً‭ ‬متواصلاً،‭ ‬تنخرط‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬المصالح‭ ‬المعنية‭ ‬بشؤون‭ ‬المدينة‭. ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬صرت‭ ‬أرى،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تركت‭ ‬العمل‭ ‬الثقافي‭ ‬العمومي،‭ ‬ما‭ ‬راكمناه‭ ‬يضيع‭ ‬تدريجيا،‭ ‬والمدينة‭ ‬تعود‭ ‬للانكفاء‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬في‭ ‬تراجع‭ ‬للأنشطة‭ ‬الثقافية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬سمات‭ ‬المدينة‭. ‬هناك‭ ‬مبررات‭ ‬كثيرة‭ ‬للقلق‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬المستقبل‭.‬

أهديت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬والروائي‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬الأشعري‭ ‬محبة‭ ‬مني‭ ‬له‭ ‬ووفاء‭ ‬لصداقة‭ ‬عميقة‭ ‬اقتسمنا‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬تقريبا‭: ‬الكتب‭ ‬وحب‭ ‬الأشجار‭ ‬والفضول‭ ‬اليومي‭ ‬لتأمل‭ ‬معجزات‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وجرت‭ ‬بيننا‭ ‬نقاشات‭ ‬طويلة‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬الساعة‭ ‬وحول‭ ‬الأدب‭ ‬وحول‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬نقرأها‭. ‬إنه‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬قلبي،‭ ‬وله‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وأدين‭ ‬له‭ ‬بأشياء‭ ‬كثيرة‭. ‬الأشعري‭ ‬رجل‭ ‬نبيل‭ ‬وعميق،‭ ‬يدهشك‭ ‬دوماً‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬الترفع‭ ‬عن‭ ‬صغائر‭ ‬الوقت‭. ‬إنه‭ ‬أحد‭ ‬الذين‭ ‬بإمكانهم‭ ‬أن‭ ‬يعلموك‭ ‬الذهاب‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جوهري،‭ ‬ونحو‭ ‬مزج‭ ‬ألم‭ ‬الحياة‭ ‬بمرح‭ ‬مطهر،‭ ‬وطلب‭ ‬المتعة‭ ‬في‭ ‬أشياء‭ ‬صغيرة‭ ‬تحيط‭ ‬بنا‭ ‬ولا‭ ‬ننتبه‭ ‬لها‭. ‬وهو‭ ‬قارئ‭ ‬كبير‭ ‬وله‭ ‬دوماً‭ ‬رأي‭ ‬ثاقب‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬القضايا‭. ‬حرصت‭ ‬دوماً‭ ‬على‭ ‬رعاية‭ ‬صداقات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الأدبي‭. ‬ويمكنني‭ ‬أن‭ ‬أجزم،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬عملي‭ ‬الجمعوي‭ ‬الثقافي‭ ‬الطويل،‭ ‬بأنني‭ ‬صديق‭ ‬كل‭ ‬الكتَّاب‭ ‬المغاربة‭ ‬الذين‭ ‬أتيحت‭ ‬لي‭ ‬فرصة‭ ‬اللقاء‭ ‬بهم‭ ‬واستضافتهم‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬ملال‭. ‬الصداقة‭ ‬اقتسام‭ ‬وعطاء‭ ‬ومثلما‭ ‬تحبطنا‭ ‬بعض‭ ‬الصدقات‭ ‬التي‭ ‬تتكشف‭ ‬لنا‭ ‬عداوة‭ ‬مقنعة،‭ ‬فبعض‭ ‬الصداقات‭ ‬تطورنا‭ ‬وتوسع‭ ‬آفاقنا،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬صداقتي‭ ‬مع‭ ‬الكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬إدمون‭ ‬عمران‭ ‬المليح،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬والكاتب‭ ‬الإسباني‭ ‬العالمي‭ ‬خوان‭ ‬غويتيسولو‭ ‬وغيرهما‭. ‬ويمكنني‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬طويلاً‭ ‬عن‭ ‬صداقتي‭ ‬بك‭ ‬أستاذ‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬التي‭ ‬بلغت‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬ويزيد،‭ ‬كنا‭ ‬فيها‭ ‬قلباً‭ ‬واحداً‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬صروف‭ ‬الدنيا‭.‬

‭<‬‭ ‬هل‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬جديدة‭ ‬بعد‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬المغاربة»؟‭ ‬وكيف‭ ‬يتخلق‭ ‬لديك‭ ‬مشروع‭ ‬رواية؟‭ ‬

‭- ‬أفكر‭ ‬منذ‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬الجبل‭ ‬وتتناول‭ ‬صعوبة‭ ‬إنجاز‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬المغرب‭. ‬تقوم‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬عشرات‭ ‬المسارات‭ ‬السردية‭ ‬وبها‭ ‬عشرات‭ ‬الشخصيات‭. ‬تحتاج‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬نفس‭ ‬ملحمي‭ ‬وإلى‭ ‬معرفة‭ ‬بتاريخ‭ ‬يمتد‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬حتى‭ ‬سنة‭ ‬1973‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭. ‬الآن‭ ‬أنا‭ ‬بصدد‭ ‬الاستعداد‭ ‬النفسي‭ ‬لكتابتها‭. ‬وبدأ‭ ‬ذهني‭ ‬يزدحم‭ ‬بالأفكار‭ ‬التي‭ ‬أدوّنها‭ ‬في‭ ‬مفكرة‭ ‬أعود‭ ‬لها‭ ‬باستمرار‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة‭. ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬عمل‭ ‬شاق‭ ‬ومجهد،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬رهانات‭ ‬كبيرة‭. ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬خوان‭ ‬غويتيسولو‭ ‬كتب‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬المتخلفة‭ ‬ملزم‭ ‬بخوض‭ ‬معركتين‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭: ‬معركة‭ ‬جمالية‭ ‬يحاول‭ ‬فيها‭ ‬تقديم‭ ‬لغة‭ ‬جديدة‭ ‬وخيال‭ ‬للجماعة‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها،‭ ‬ومعركة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغيير‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬بلده‭ ‬يقوم‭ ‬فيها‭ ‬بفضح‭ ‬الظلم‭ ‬والفساد‭. ‬هذا‭ ‬الالتزام‭ ‬المزدوج‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬بذل‭ ‬جهد‭ ‬كبير‭ ‬لكي‭ ‬يوازن‭ ‬بين‭ ‬المطلبين‭ ‬فلا‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬الخطابة‭ ‬وفجاجة‭ ‬الالتزام‭. ‬تبدأ‭ ‬فكرة‭ ‬الرواية‭ ‬لدي‭ ‬بسماع‭ ‬حكاية‭ ‬ما،‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬عناصر‭ ‬الرومانيسك‭. ‬تتخمر‭ ‬الحكاية‭ ‬بداخلي‭ ‬وتكبر‭ ‬وتتشعب‭ ‬وتبتعد،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان،‭ ‬عن‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬سمعتها‭. ‬حين‭ ‬تستوي‭ ‬الحكاية،‭ ‬يبدأ‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إليها‭ ‬كتابتها‭. ‬تقوم‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬جهد‭ ‬معرفي،‭ ‬فأنت‭ ‬تبني‭ ‬عالماً‭ ‬قائم‭ ‬الذات‭ ‬ولابد‭ ‬لهذا‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬أسس‭. ‬تطلّبت‭ ‬مني‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬العمى،‭ ‬مثلاً،‭ ‬قراءة‭ ‬نصوص‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬المريرة‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬أتصرف‭ ‬كأعمى‭ ‬لأختبر‭ ‬بداخلي‭ ‬الأحاسيس‭ ‬التي‭ ‬تولدها‭ ‬العاهة‭. ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬تبدأ‭ ‬مغامرة‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬منطقها‭ ‬الخاص،‭ ‬فكثيراً‭ ‬ما‭ ‬قررت‭ ‬كتابة‭ ‬شيء‭ ‬وولد‭ ‬
في‭ ‬أثناء‭ ‬الكتابة‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬حتى‭ ‬أنك‭ ‬تحس‭ ‬أحياناً‭ ‬بإحساس‭ ‬مرعب،‭ ‬فالنصوص‭ ‬تكتب‭ ‬من‭ ‬خلالك‭ ‬ولا‭ ‬تكون‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭ ‬إلا‭ ‬تعلة‭ ‬لها‭ ‬