العدس لحم الفقراء الشهي

العدس لحم الفقراء الشهي

صديق الفقراء وعاشق الشتاء ومؤسس الحضارات وجبل بروتين كامل الطاقة وصديق مخلص للأيام القديمة الممتلئة بالذكريات والألفة والحنين. يبدو لك العدس كحبيبات هادئة ومستكينة؛ سواء شاهدته في جوال أو طبق، لكن قليلين منا شاهدوه في أكوام كالرمال، وقد شاهدته في إحدى المزارع ذات يوم في بلدتنا ديروط (محافظة أسيوط)، حيث كنت أقوم بـ «تفصيصه» من خلال ضربه بجذع نخلة، ثم تقشيره، ولا مفر حينها عندما تجد شعر رأسك وقد غرق في حبيبات من العدس.

 

كان رأسي يحمل نحو نصف كيلو من تلك الحبوب، وأنا أنفضها خارجاً من الغيط، لأجده بعد ذلك في طبق تستقبلني به أمي في البيت، وقد أحيط بالبصل الأخضر وأرغفة الخبز الناشف، وكان أبي يعشق تلك الأكلات التي تذكّره بماضيه الفقير البهي السعيد الذي ظل طوال عمره يفتخر به، بينما كانت أمي تعشقه وهو «فتة»، حيث كانت الشعرية ترقص على وجهه ببطء كبطات مكتنزة. 
والعَدَسُ هو «لحم الفقراء» في تراث معظم بلدان الشرق، وهو: عُشبٌ حوْليٌّ دقيق الساق، من الفصيلة القرنية، ثمرتُه قَرْنٌ مفلطح صغير فيه بذرة أو بذرتان، تنقشر كل بذرة عن فِلْقَتَيْن برتقاليتي اللون، وإذا لم تقشر فهو الذي يقال له: عَدَسٌ أبو جُبَّة، ومفرده: عَدَسة.

العدس في الأمثال الشعبية
لقِدَم العدس في الثقافة الشرقية، فقد حمل الكثير من الأمثال الشعبية على عاتقه، والمدهش أن تلك الأمثال لها كثير من المرادفات في البلدان العربية، برغم أن المقصود منها واحد، فأشهر مثل شعبي يتصدره العدس هو: «اللي ما يعرفش يقول عدس»، وهو يقال عندما يعتقد شخص شيئاً خطأ وآخر يعرف الحقيقة، ومرادفه في العراق يقال: «اللي يدري يدري واللي ما يدري گضبة عدس»، أي بكف عدس، وفي اليمن يقال: «اللي مش داري يقول بِلّسنْ»، و«بلسن» تعني العدس.
وفي الشام يقال: «إذا جاء الشتاء أعدس وأبصل»، أي كُل عدساً وبصلاً، ويقال «العدس لحمة الفقير... والعدس لحم الفلاح»، و«اللي عنده فلفل بِرش على شوربة العدس» كناية عن أن العدس يؤكل مع الفجل والبصل والليمون ومن دون مطيبات، و«إذا إجا ميلاده رد العدس لبلاده»، أي بعد عيد الميلاد يجب التوقف عن زراعة العدس، و«زي العدس ما بتعرف ظهره من بطنه»، كناية عن الشخص المتقلب.
والمدهش أن اكتمال الرجولة عند الفلاحين في فلسطين مرتبط بأكل العدس، فيقول كبار السن للشباب: «لسه ذراعك ما انتلى عدس»، أي إن ذراعك لم تمتلئ بالعدس، في إشارة إلى القوة، ويقال أيضاً «لسّاتَكْ بدّك فَتْ عدس»، أي إنك تحتاج إلى الكثير لتُصبح قويّاً، وهناك مثل هندي يقول «الأرز جيد، لكن العدس حياتي».

فوائد العدس
ذكر داوود الأنطاكي في كتاب «التذكرة» فوائد عدة للعدس في الطب القديم، وحديثاً تصدر العدس أكثر خمسة مأكولات أعلى صحية على مستوى العالم، متفوقًا على اللحوم، بسبب فوائده الكثيرة، حيث يقدم للجسم الكالسيوم والحديد والفوسفور والكربوهيدرات ونسبة بسيطة من الدهون، مما يجعله غذاء أساسياً للذين يقومون بأعمال بدنية شاقة، وذلك نظراً لاحتوائه على سعرات حرارية عالية، كما أنه يخفض مستويات الكوليسترول، ويحفظ استقرار السكر في الدم، ويمنع الإمساك، ويقي القلب من الذبحة الصدرية، ويدعم صحة العظام والأسنان، لذا فإن حساء العدس يوصف في الهند دواء شافياً لنزلات البرد، وفي كثير من البلدان يعتبر مفيداً للأمهات المرضعات، ويفيد أكل حبوب العدس النيء في تخفيف حموضة المعدة وتقويتها ومعالجة القرحة.

العدس في التراث الشعبي العربي
«خميس العدس أو العهد أو الفرفيطة»، واحد من أشهر العادات بصعيد بمصر، حيث يبدأ الأهالي من المسيحيين والمسلمين في منتصف شهر أبريل من كل عام، الاستعداد لـشم النسيم، بداية من «خميس العدس»، فتملأ رائحة العدس الأصفر ذلك اليوم كل مكان في قرى الصعيد، وتبدأ السيدات مع صباح يوم الخميس في إعداده، ليكون الوجبة الأساسية، حيث يلطخن جدران البيت به حتى يأكله الذباب في ذلك اليوم ولا يأتي على البيت بقية أيام السنة، كما يذبحن طائراً ويتركنه «يفرفط» في الدار لنثر دمه، ليمنع الحسد ويبعد النكد والخصام طوال أيام العام، كما يعتقد عامة الناس هناك.
وفي بلاد الشام وفلسطين نشمّ رائحة «شوربة العدس» من البيوت، ويُقال «اليوم يوم العدس»، وهي الوجبة التي يضع الفلاحون إلى جانبها بعض الخضراوات، كالفجل والبصل والزيتون، لذا يُقال في المثل الشعبي «إذا عدستم فأبصلوا».

العدس في التاريخ
يرجع أكل العدس كطعام إلى قديم الزمان، وكان يطلق عليه «الأدس»، وفقاً للغة الهيروغليفية. 
وقد ورد ذكر العدس بالقرآن الكريم في قصة بني إسرائيل مع النبي موسى (عليه السلام) في سورة البقرة، عندما طالبوه بأن ينوّع لهم الطعام، متعللين بأنهم لن يصبروا على طعام واحد، حيث يقول سبحانه وتعالى {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وبصلها} (سورة البقرة - من الآية 61).
وورد ذكره في التوراة في قصة عيسو - أخي النبي يعقوب (عليه السلام) - عندما تنازل عن زعامة العائلة لأخيه يعقوب مقابل وجبة عدس كان يرغب في تناولها، وقد كانت هذه الوجبة مفضلة جداً لديهم، حيث كانت توزع في المآتم، كما نجده في العهد القديم على أنه طعام أيام القحط والحزن والألم، واعتبره الرومان من أغذية الطبقات الوضيعة جداً، يأكله الفقراء والراغبون في التقشف وترك متاع الدنيا من الطعام.
والعدس في المعتقدات الأوربية مختلف المزاج، فنجد أن من أكل عدساً ساء مزاجه، ومن عضّه شخص كان قد أكل لتوّه عدساً، مات خلال الأيام الثلاثة التالية.

شوربة العدس
عند اشتداد فصل الشتاء وقسوته، يظهر العدس على سطح العقول ليملأ البطون بحثاً عن الدفء، فالعدس في بلاد الشام: مجدرة ورشوف أو المدقوقة وشوربة بالكؤوس. 
الرشوف أو «المدقوقة»: هي أكلة شعبية شامية منتشرة بين أهل الريف والبادية تتكوّن من العدس والقمح المجروش واللبن والسمن وخبز الشراك.
والرقاق والعدس: هي وجبة يوضع العدس فيها على الرقاق وهو حب كامل، ويبقى على النار حتى ينضج العجين و«يتسبك» مع العدس، وتكون الطبخة رخوة لا صلبة. و«الرشتة» من الأكلات الجماعية وتقدم للعمال والفلاحين، وتؤكل في الخلاء ويكثر تناولها في أيام الشتاء. و«المجدرة» تتكون من العدس والأرز، أو من العدس والبرغل، مع رش البصل المقلي بالزيت على وجه الطبق عند تقديمه للأكل، وهي شبيهة بـ «الكُشري» المصري، وهو من الأكلات الشعبية والمحببة والشهيرة في مصر، والتي تتكون من العدس الأحمر أو الأصفر والماء والبصل والكمون والملح، تلك المكوّنات الأساسية اللازمة لطبق الشوربة، ومنه «فتة العدس» وهي من أشهر الأكلات للعدس، خاصة مع الخبز الجاف والبصل الأخضر. وأفضل طريقة لتناول العدس أن يُتناول كحساء في بداية الأكل، لذا تزدهر شوربة العدس في أيام شهر رمضان، حيث يبدأ الصائم بتناول طعامه بحساء العدس، وتزداد قيمته عند تناول بعض من شرائح البصل الأخضر معه، كما يفعل عامة الناس.

العدس في التراث العربي
اشتهر العدس بأنه طعام الفقراء، ويقال عنه: «لحم الفقرا العدس»، لكن من العيب أن تطعم ضيفك عدساً، وقد رُوي في التراث الإسلامي أن رجلاً شكا إلى نبيّ من الأنبياء قساوة القلب، فقال له: «عليك بالعدس، فإنَّه يُرقُّ القلب، ويُسرع الدمعة».  ويُحكي أن معاوية بن أبي سفيان كان مغرماً بأكل العدس بنهم، وكان يأكل عدة أرطال منه يومياً ولا يشبع.

العدس والسِّلْم الاجتماعي
يكره كثير من الأغنياء العدس، لأنه يذكرهم بماضيهم الفقير والتعس أيضاً، أو لأنه يذكرهم بأيام قديمة يريدون نسيانها، مثل أيام المذاكرة والدراسة في المدن الجامعية، حيث إنه من الوجبات الأساسية، أو في أيام التدريب بالجيش، أو في السجن، ويذكر هيرودوت أنه كان يستعمل طعاماً لبُناة الأهرام، لأنه يعتبر وجبة متكاملة. ولأن العدس أكلة منزلية دافئة، وذو صدر رحب لا يبخل بعطائه، فقد دفع هذا «فتة العدس» إلى أن تنتشر الآن كثيراً، وأصبحت وجبة يمكن لك أن تأكلها في المحلات، لكنها تفتقد الكثير من بهجة الماضي وشبعه وحنينه أيضاً.
وفي السنوات الأخيرة ارتفعت أسعار العدس في كثير من البلدان العربية، وأصبح سعره فوق طاقة كثير من الفقراء، مما جعل تغيّر مزاجه وتجارته يعبّران عن تحطم السِّلْم الاجتماعي الذي كان أحد مؤسسيه وقادته، وبالتالي سندخل هذا الشتاء من دون عدس، ونكتفي بذكرياتنا معه فقط ■