مدينة مجهولة تنتظر الشتاء مختارات من الشعر الكوبي المعاصر
أبحر الشعر الكوبي المعاصر عبر كل الخرائط، بل وأعاد رسم الحدود، فحوَّل الدول طرقاً للفرار بعد أن كانت الحدود أماكن ثابتة لا تتبدل. ومن بين طرق الفرار الهجرة والمنفى الذي تتشظى معه ثقافة الجزيرة. لقد لعبت لغة السياسة دوراً جوهرياً بعد عام 1959، حيث هيمنت عبادة شخص الزعيم متمثلاً في فيدل كاسترو على المشهد بأسره في الجزيرة. لكن شعر كوبا المعاصر سعى إلى أن يتحدى تلك اللغة، فحاولت القصائد إزالة الغبار عنها، واستبدال «فضاء نظيف يسبق الأطلال»بها، على حد تعبير الشاعر رولاندو سانشيز ميخياس.
إن مأساة الشاعر في كوبا تنتهج عادة النهج ذاته، فبعد مرحلة الانهيارات المتتالية، ينفصل الفرد عن المجموع، ثم يغرق في ذاته المتفردة ليصل في نهاية المطاف إلى نقطة اللاعودة: الانتحار. يتم هنا التضحية بالجسد برفض الانتماء إلى ثقافة القطيع. إن انتحار عدد كبير من شعراء كوبا من أمثال آنخل إسكوبار، ورينالدو أريناس، وكالفرت كاسي، وراؤول إرنانديث نوفاس، ومجيل كوياسو، إنما يمكن فهمه في إطار القطيعة الجذرية مع الأيديولوجيا السائدة التي تدعو إلى السيطرة على الجسد والتضحية به في إطار الفعل القومي فقط.
المفارقة هنا أن الانتحار يعد فعلاً يرمي من خلاله الشاعر إلى إعادة توكيد ذاته كشخص. إن اللغة في حالة آنخل إسكوبار على سبيل المثال هي لغة مسكونة بالقبح والعزلة التي تحقق كثافة تشبه كثافة الجسد ثم تنفجر. إن شعر إسكوبار يتتبع انزلاق كوبا إلى الهاوية، وإلى الموت في الوقت ذاته: «لقد صلبوك على جذع شجرة / بين البحر الذي تحتقر / والأرض التي تحب». في 14 فبراير 1997 كان إسكوبار يمضي فترة النقاهة في بيته بعد أن أقدم على محاولة انتحار، لكنه ألقى بنفسه من شرفة منزله، واضعاً حداً لحياته. لقد دمر الجسد الذي لم يستطع البتة أن يصادقه، محولاً ذاته إلى «برية موحشة»، وتلك هي حال كوبا بأسرها.
أورلاندو جونثالث إستيبا*
لا أحد يتحدث وحيداً،
ولا حتى الصمت،
منزل للجميع.
* * *
على قيثارة،
ورقة شجر،
ويد تسقط.
* * *
حتى في كوبا
لو غرد الطائر
أتوق إلى كوبا.
* * *
نجم ليلي:
أمام حدقة عيني
للمرة الأولى.
* * *
ليس لدي قدمان،
وحدهما يداي
تتلمسان الأفق.
خيسوس باركيت *
«احتفال لا يوصف أن تولد هنا»
(خوزيه ليثاما ليما)
لم يبق شيء من أرض الأجداد
لا ذاكرة، ولا خاتم
ولا أولئك الآباء
الذين أحببناهم ذات يوم
لقد ابتلعتهم الأرض الظمأى
لا الشاطئ أو مثالياته
الآن تجتاحنا شواطئ العالم الأخرى
والذاكرة، والحنين
كل ما لا نثق به
الغيوم تظلل المياه كالسجن
لم تبق تلك الأزقة
أو أسطح المنازل التي تشبه الصحراء
حيث كنا نسترق لحظات حميمية
الآن اجتاحتنا شوارع العالم
لم يبق ذلك الجسد الخلاسي
ضاعت الألوان
ضاعت الدهشة واللايقين
ضاعت معجزات الريح
على حافة البحر
ضاعت الطفولة
والبراءة الكاذبة والخوف
لم تعد هناك أحرف أربعة
كنت أنطقها كالسحر
لم تعد بلادي... بلادي
لكنهم في كل وثيقة
يقولون إني من هنا
البلاد كانت هنا لغيرنا
احتفال لا يوصف.
* خيسوس باركيت (1935 -) شاعر وكاتب مقالات، من أهم أعماله الشعرية «ما لم يقله البحر» (1981) و«كتاب الأبطال» (1994) و«غرقي» (2001).
آنخل إسكوبار *
عندما أشعر بالرهبة
أفكر كما كنت في طفولتي
بسكين أبيض
سوف يقتلني:
أنا أسود
قرمزي كالصحراء
الشمس تشرق من الأفق،
تنير محياي البارد
برية موحشة
طفل يراني
ويرتجف خيفة
كمن ينظر لجريح
يُقسم أنه شاهدٌ على موتي
ليمحو الجريمة بحياته
* آنخل إسكوبار (1957 – 1997) شاعر ومسرحي وروائي له عدد من الأعمال الشعرية لعل من أهمها «حياة عامة» (1987) و«كيف تخرج من هافانا?» (1996). انتحر في 14 فبراير 1997، وبعد انتحاره نشرت له أعمال عدة في إسبانيا.
داماريس كالديرون *
وصلت ومعي أمتعتي
لا ينتظرني أحد.
قدماي غريبتان
أجرهما كما أجر الكلاب.
مشهد دموي
الثلج يوحده بالكاد
ضاع كل شيء.
في الرابعة والثلاثين
وما زال بوسعي أن أقطع أوصالي
يالها من قوة
* داماريس كالديرون (1967 -) لها عدد من المجموعات الشعرية منها المياه الاستوائية (1992). حصلت على جائزة ليبروس التي تمنحها صحيفة «ميركوري» الصادرة في تشيلي.
فيليكس ليثاراجا *
(إلى قسطنطين كفافيس)
«دمرت حياتي داخل الأسوار
في هذه المدينة المريضة المشلولة
التهبت مفاصل روحي
من لعنات وتأملات
وراء البحر
عند شاطئ آخر
مدينة أجمل،
ليست أسطورة
فيها أعيد بناء حياتي
أولد من جديد كالملك آرثر».
لو كانت تلك أفكارك، فإنها سدى
لا تفر، فالمدينة سوف تلاحقك
ولن تجني سوى الخواء والألم
هنا أو هناك سوف تختل وتسقط
لقد حوَّلْتَ ذاتكَ إلى مدينة:
أنت ذاتُك السور.
* فيليكس ليثاراجا (1959 - ) شاعر وكاتب مقالات صحفية، من أهم أعماله الروائية «بياتريس» (1981) و«البحث عن وحيد القرن» (مجموعة شعرية، 1991).
روخليو ساوندرس *
حزين أنا لمن عرفوني.
لمن طرقوا ذات ليلة على بابي،
حزين أنا لمن لا يستطيعون تحملي
حتى في مماتي.
وهم يحملوني الآن، ويهمسون وداعاً.
سوف أمضي معهم،
أو لعلهم يمضون معي.
لن أدعهم في سلام
أنا ملك لهم.
الآن ليس لديهم قول أو مبرر
كي يدعوني بلا موت.
كمصباح يضيء للأبد
عند مفترق طريق
يزيلون الضوء عن المصباح.
حزين أنا ممَّن لا يستطيعون أن يكرهوني،
من لا يستطيعون أن يستيقظوا لأجلي
أو يذهبوا لحفلة.
هذه الليالي تذكرني برائحة التماثيل.
حزين أنا من أجل الجميع،
أكتب صفحاتي الأخيرة،
لكنها دائما صفحاتي الأولى.
* روخليو ساوندرس (1963 -) شاعر، وروائي عضو في مجموعة «دياسابورا»، من أعماله الشعرية «بوليمينيا» (1996)
أنطونيو خوزيه بونتي *
كانت مدينة مجهولة
تنتظر الشتاء
(حتى الشتاء لم يعد بمقدوري أن أتكهن بقدومه)
في مدينة الشتاء
أشعر بالرهبة.
لا تخيفني المسافة
ولا شكل بيتي الذي لا أتذكره
لكنها العادة.
أعبر الشوارع
ما نفع شفاهنا
سوى أن نردد الأغنية العتيقة:
أين وسط المدينة،
البذور التي أحملها بيدي؟
يمر الناس
ما أطول الطريق إلى وجوههم الجميلة
وما أبطأ ممشاي...
مدينة تعقب الأخرى
لكن ذاكرتي لم تعد تتذكر.
أنا مدينة مجهولة
تنتظر الشتاء.
أخشى أن تتلاشى ذاتي
في مدن لا وجود لها،
مدن تخترعها القطارات العابرة.
* أنطونيو خوزيه بونتي (1964 -)
شاعر وصحفي من أهم أعماله
«المشي على الأطلال» (شعر، 1997)
و«لغة فرجيل» (مقالات، 2000)
بيدرو ماركيت أرماس *
الأسوار ليست لك ولا الحدود.
تعود من الليل البهيم
كمن يعود من البحر
كمن يؤمن بالموسيقى.
الآن يهجرك الليل
تفتح الباب على نهر
والنهر يصفعك
كابوس يسكنك بأجساد أخرى،
يكررون الطقس ذاته إلى الأبد في صمت،
أجساد ليست جميلة كجسدك.
لن تكون هناك معجزة في حياتك.
لن يراك أحد تخفي وجهك
في أجراس الكنيسة
لن تتجلى العذراء
في قارب بعيد.
كيف تفهم علامة الجسد
عندما تمر الأيام؟
ستطردك الجنة كما تطرد النجوم المذنبة
وحدتك سر سرمدي،
تنكر الجرح.
كان الجسد جسدي عندما عدت من الليل البهيم:
لا أؤمن بالملح، أو بالموسيقى،
لا أؤمن بأي نظام لا يضع حدوداً
بين النجم والبحر.
* بيدرو ماركيت أرماس (1965 -) عمل محرراً للمجلة الأدبية «دياسبورا»، من أعماله الشعرية «رؤوس» (2002) التي حصل بها على جائزة خوليان ديل كاسال.
(إلى فيليكس ليثاراجا)
خرمان جويرا *
الآن لم تعد هناك مدينة
تعكس شعرك الرمادي والنسيان،
أن تحيى فذلك لا يعني شيئاً،
الآن لم تعد هناك مدينة أو سور يعيق خطاك
لا شوارع واسعة أو ألعاب نارية ترحب بعودتك.
الآن لا مدنية ولا بحر ولا قوارب في الموانئ،
لا تبحث عنها، فظلك لن يتبعك.
لقد حولت ذاتك إلى مدينة:
أنت السور الذي يعيقك.
الآن لم تعد هناك مدينة
أو رجال يغرقون في الأحلام.
نحن نتكلم ولا أحد يفهمنا،
متظاهرين بالخرس أو العمى أو الحكمة،
نعيد بناء منازلنا لنبعد الخوف عنا
بأوراق أشجار عفنة من ذلك الخريف الطويل.
والآن نجلس سدى،
وأرجلنا تتدلى على حافة الجزيرة،
ها هنا نحن
ما أوهننا ■
* خرمان جويرا (1966 -) من أعماله الشعرية
«قصيدتان» (1998)، كما يشرف على دار نشر «سترومنتو».