رواية «بريد بيروت» في الميزان بيروت بعيون نسوية

رواية «بريد بيروت» في الميزان بيروت بعيون نسوية

بيروت مدينة ساحرة؟ لا شك في ذلك، أو بالأحرى لم تشك شخصية من شخصيات الروايات الأربع في أنها كذلك، ولو كان سحرها ممتعاً حيناً، ومدمراً حيناً، وخطِيراً في كل الأحيان. 

من‭ ‬وجوه‭ ‬السحر‭ ‬أن‭ ‬بيروت‭ ‬تسمح‭ ‬للفرد‭ ‬بعيش‭ ‬حياته‭ ‬بحرية‭. ‬وهذه‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الحرة‭ ‬جسّدتها‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬أحيا‮»‬‭ ‬لليلى‭ ‬بعلبكي‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عام‭ ‬1958،‭ ‬بعد‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬انقطاع‭ ‬المرأة‭ ‬عن‭ ‬الكتابة،‭ ‬وبعد‭ ‬موجة‭ ‬التحرّر‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬العالم‭ ‬عقب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬طرحته‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬يمثل‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة‭ ‬تحتاج‭ ‬من‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬جرأة‭ ‬وتصميم‭ ‬ومن‭ ‬الشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬إلى‭ ‬خطة‭ ‬للبداية‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬لينا‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬ترسم‭ ‬خطة‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭: ‬

‮«‬من‭ ‬الآن‭ ‬حتى‭ ‬المساء،‭ ‬سأبني‭ ‬مستقبلاً‭ ‬لحياتي‭: ‬سأستقل‭ ‬هذا‭ ‬الترام،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬سيارتنا‭ ‬الحمراء‭ ‬الجديدة‭ ‬تربض‭ ‬على‭ ‬مدخل‭ ‬بنايتنا‭. ‬سأنزل‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬المدينة‭ ‬الهائجة‭. ‬سأسير‭ ‬تائهة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬المزدحم‭. ‬سأنعطف‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬الزقاق‭ ‬الضيق،‭ ‬المتسخ‭. ‬سترتجف‭ ‬حتماً‭ ‬ركبتاي‭ ‬قليلاً‭ ‬حين‭ ‬أصل‭.‬‭ ‬سينكمش‭ ‬قلبي‭ ‬مختبئاً‭ ‬في‭ ‬الزاوية‭. ‬وسيضرب‭ ‬الدم‭ ‬صدغيّ‭ ‬بقساوة‭ ‬تعمي‭ ‬عينيّ‮»‬‭.‬

تقدم‭ ‬لنا‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬أحيا‮»‬‭ ‬المكان‭ ‬المديني‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬تصور‭ ‬نسائي‭ ‬موروث‭. ‬والمعروف‭ ‬أن‭ ‬رؤيتنا‭ ‬للمكان‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬تصورنا‭ ‬الاجتماعي‭ ‬له‭. ‬وطوال‭ ‬قرون‭ ‬بقي‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬يقسم‭ ‬المكان‭ ‬المديني‭ ‬تقسيماً‭ ‬جنسياً،‭ ‬بين‭ ‬الداخل‭ (‬البيت‭) ‬المخصص‭ ‬للمرأة‭ ‬والخارج‭ (‬الشارع‭ ‬والمقهى‭ ‬ومركز‭ ‬العمل‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة‭) ‬المخصص‭ ‬للرجل‭. ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تأثيراً‭ ‬عميقاً‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬نظرة‭ ‬المرأة‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬موقفها‭ ‬النفسي‭ ‬إزاءه‭. ‬لهذا‭ ‬لما‭ ‬بدأت‭ ‬تخرج‭ ‬منفردة‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬صارت‭ ‬تحس‭ ‬بأنها‭ ‬تخرق‭ ‬المحرّم،‭ ‬وأخذ‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تسير‭ ‬فيه‭ ‬يشعرها‭ ‬بالقلق‭ ‬والخوف،‭ ‬وتمثَّل‭ ‬لها‭ ‬مصدر‭ ‬الخوف‭ ‬دائماً‭ ‬بصورة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الرجل‭. ‬ونتيجة‭ ‬هذا‭ ‬القلق‭ ‬جاءت‭ ‬صورة‭ ‬المدينة‭ ‬عندها‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الاستقرار،‭ ‬مخالفة‭ ‬لما‭ ‬رسمته‭ ‬الرواية‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الرجل‭. ‬

ولكن‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬تستمر‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشعور،‭ ‬بسبب‭ ‬ميلها‭ ‬النسوي‭ ‬للتمرد‭. ‬فهي‭ ‬أحلت‭ ‬المواجهة‭ ‬مكان‭ ‬الخوف،‭ ‬فصارت‭ ‬ترتاد‭ ‬المقهى‭ ‬وتجلس‭ ‬منفردة‭ ‬أو‭ ‬بصحبة‭ ‬شاب‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مكانها‭ ‬بيتاً‭ ‬في‭ ‬مدينة،‭ ‬صارت‭ ‬بيروت‭ ‬بيتها‭. ‬وصارت‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬تملكها‭ ‬لبيروت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التسكع‭ ‬عند‭ ‬واجهات‭ ‬محلات‭ ‬الألبسة‭ ‬والعطور،‭ ‬وفي‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭. ‬وهذا‭ ‬التسكع‭ ‬يميز‭ ‬الروايات‭ ‬النسائية‭ ‬المدينية‭.‬

 

‮«‬فتاة‭ ‬تافهة‮»‬

لا‭ ‬يؤثر‭ ‬سحر‭ ‬بيروت‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬تصل‭ ‬أشعته‭ ‬إلى‭ ‬البعيد‭. ‬فندى‭ ‬بطلة‭ ‬روايـة‭ ‬‮«‬فتاة‭ ‬تافهة‮»‬‭ ‬لمنى‭ ‬جبور‭ ‬تجتهد‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬البكالوريا،‭ ‬لأن‭ ‬البكالوريا‭ ‬تفتح‭ ‬باب‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬طرابلس‭ ‬إلى‭ ‬بيروت،‭ ‬وبيروت‭ ‬تفتح‭ ‬لها‭ ‬باب‭ ‬الاستقلال‭. ‬

بيروت،‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬عنوان‭ ‬تحرر‭ ‬ندى‭ ‬من‭ ‬ظروفها‭ ‬وحدودها‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مفروض‭ ‬عليها،‭ ‬هي‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تمارس‭ ‬فيه‭ ‬قناعاتها،‭ ‬وتجسد‭ ‬أفكارها‭ ‬وأحلامها،‭ ‬وتصنع‭ ‬من‭ ‬نفسها‭ ‬كياناً‭. ‬فهي‭ ‬ترفض‭ ‬الزواج‭ ‬لأنها‭ ‬ترفض‭ ‬أن‭ ‬تقيد‭ ‬حريتها‭. ‬ولكن‭ ‬بيروت،‭ ‬من‭ ‬قريب،‭ ‬مدينة‭ ‬تواجه‭ ‬المنتقل‭ ‬إليها‭ ‬بهموم‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المال‭. ‬

وحين‭ ‬تأمّن‭ ‬لندى‭ ‬العمل‭ ‬والمال‭ ‬والسيارة‭ ‬والسكن‭ ‬زال‭ ‬خوفها‭ ‬وضعفها‭ ‬وشعورها‭ ‬بالتشرد‭. ‬لكن‭ ‬شعوراً‭ ‬آخر‭ ‬استفاق‭ ‬فيها‭ ‬هو‭ ‬الوحدة‭. ‬فهي‭ ‬كلما‭ ‬دخلت‭ ‬مقهى‭ ‬أو‭ ‬تسكعت‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬أو‭ ‬دخلت‭ ‬محلاً‭ ‬ترى‭ ‬فتاة‭ ‬برفقة‭ ‬شاب‭. ‬لابد‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬رفيق‭ ‬أو‭ ‬حبيب‭ ‬أو‭ ‬زوج‭. ‬وحب‭ ‬الحرية‭ ‬الذي‭ ‬دفعها‭ ‬إلى‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬ورفض‭ ‬الارتباط‭ ‬والزواج‭ ‬ينازعه‭ ‬الآن‭ ‬الشعور‭ ‬بالوحدة‭. ‬لكن‭ ‬ميزة‭ ‬بيروت‭ ‬أنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬المتناقضات‭: ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬زوج‭ ‬لا‭ ‬يفقدها‭ ‬حريتها‭ ‬ولا‭ ‬يلغي‭ ‬استقلالها‭ ‬ولا‭ ‬يتملك‭ ‬روحها‭ ‬ولا‭ ‬يحولها‭ ‬إلى‭ ‬ظل‭ ‬له‭. ‬

وما‭ ‬يلفت‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬الستينيات‭ ‬هو‭ ‬تركيزها‭ ‬على‭ ‬الوصف‭ ‬الحسي‭ ‬والتفصيلي‭ ‬للأشياء،‭ ‬وتسمية‭ ‬الأماكن‭ ‬بأسمائها‭ ‬الحقيقية‭. ‬واليوم،‭ ‬بعدما‭ ‬تبدلت‭ ‬معالم‭ ‬وسط‭ ‬بيروت‭ ‬وزالت‭ ‬المقاهي‭ ‬والمحلات‭ ‬والنوادي‭ ‬وتغيرت‭ ‬أسماء‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬منها،‭ ‬تحولت‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬للحنين‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬وإلى‭ ‬أماكن‭ ‬متخيلة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الجيل‭ ‬الأصغر‭ ‬سناً‭. 

كيف‭ ‬تطلعتْ‭ ‬روايات‭ ‬الستينيات‭ ‬إلى‭ ‬بيروت؟‭ ‬كيف‭ ‬تعاملتْ‭ ‬معها؟‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬لم‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬نظرة‭ ‬شاملة،‭ ‬فلا‭ ‬تلمست‭ ‬حدودها،‭ ‬ولا‭ ‬عكست‭ ‬كيانها‭ ‬كفضاء‭ ‬جغرافي‭.‬

كان‭ ‬تفاعل‭ ‬الشخصيات‭ ‬معها‭ ‬داخلياً‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬تجاربهم‭ ‬الحميمة‭ ‬فيها‭. ‬لهذا‭ ‬غاب‭ ‬الوصف‭ ‬الجغرافي،‭ ‬والصورة‭ ‬الواحدة،‭ ‬وظهرت‭ ‬المدينة‭ ‬متشظية،‭ ‬أي‭ ‬مجموعة‭ ‬أمكنة‭ ‬تجمعها‭ ‬حركة‭ ‬الشخصية‭ ‬واهتماماتها‭. ‬

 

‮«‬بيروت‭ ‬75‮»‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬روايات‭ ‬الستينيات‭ ‬التي‭ ‬كتبتها‭ ‬نساء‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬ككائن‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬حاضره‭ ‬ويرسم‭ ‬مصيره‭ ‬بنفسه،‭ ‬متأثرة‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬بأصداء‭ ‬الحركة‭ ‬الوجودية‭ ‬والثورة‭ ‬النسوية،‭ ‬فإن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬بيروت‭ ‬75‮»‬‭ ‬لغادة‭ ‬السمان‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1975‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬فيها‭. ‬فقد‭ ‬جذب‭ ‬سحر‭ ‬بيروت‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬بدت‭ ‬بيروت‭ ‬ساحرة‭ ‬صارت‭ ‬قاتلة‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬محركة‭ ‬لأحلام‭ ‬الثروة‭ ‬والمغامرة‭ ‬صارت‭ ‬ذكرى‭ ‬مغامرة‭ ‬خائبة‭. ‬بيروت‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬غادة‭ ‬السمان‭ ‬امرأة‭ ‬مغوية،‭ ‬تغري‭ ‬لتدمر‭ ‬من‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬غرامها‭. ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬رجل‭ ‬وامرأة‭. ‬فكلاهما‭ ‬ينجذب‭ ‬إلى‭ ‬نورها،‭ ‬وكلاهما‭ ‬يحترق‭ ‬بحرارتها‭. 

 

‮«‬بريد‭ ‬بيروت‮»‬‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬النقد

تتحدّد‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬بريد‭ ‬بيروت‮»‬‭ ‬لحنان‭ ‬الشيخ‭ ‬بمُناخها‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مُناخ‭ ‬الحرب‭ ‬وتداعياتها،‭ ‬كما‭ ‬تتحدّد‭ ‬ببنيتها،‭ ‬فهي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬الموجهة‭ ‬لا‭ ‬المتبادلة،‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬جواب‭. ‬تحمل‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬جسد‭ ‬مدينة‭ ‬جريحة‭ ‬نازفة‭ ‬لا‭ ‬تريدها‭ ‬المرسِلة‭ ‬أن‭ ‬تموت،‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬وسيلة‭ ‬لإنقاذها‭ ‬سوى‭ ‬إبقائِها‭ ‬حية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذاكرة‭. ‬لهذا‭ ‬يسرد‭ ‬الراوي‭ ‬حياة‭ ‬المدينة‭ ‬اليومية‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬أحد‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬تروي‭ ‬حكاية‭ ‬واحدة،‭ ‬حكاية‭ ‬مدينة‭ ‬مدمرة‭ ‬لكنها‭ ‬حية،‭ ‬مفككة‭ ‬لكنها‭ ‬غير‭ ‬مقطعة،‭ ‬متقاتلة‭ ‬لكن‭ ‬بأيدي‭ ‬الغرباء‭. ‬مدينة‭ ‬تحتفظ‭ ‬بروحها‭ ‬برغم‭ ‬آلام‭ ‬الجراح،‭ ‬فلا‭ ‬تتغير‭ ‬فيها‭ ‬الصداقة‭ ‬رغم‭ ‬البُعد،‭ ‬ولا‭ ‬يضعف‭ ‬فيها‭ ‬الحب‭ ‬برغم‭ ‬الخوف،‭ ‬ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬فيها‭ ‬العشق‭ ‬برغم‭ ‬القصف‭.    

هذه‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬فتاة‭ ‬ترى‭ ‬بيروت‭ ‬تتغير‭ ‬أمام‭ ‬عينيها‭ ‬وكأنها‭ ‬ترى‭ ‬حياتها‭ ‬في‭ ‬شريط‭ ‬أو‭ ‬صورتها‭ ‬في‭ ‬مرآة‭. ‬وحين‭ ‬تروي‭ ‬بعض‭ ‬تفاصيل‭ ‬أيامها‭ ‬يضيع‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والمكان،‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬مدينتها‭. ‬فذاكرتها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬بيروت،‭ ‬وتنقلها‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يخلق‭ ‬الأماكن،‭ ‬وحضورها‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬الأحداث‭ ‬وينظم‭ ‬الحكاية‭. ‬فالرواية‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬بيروت‭ ‬كما‭ ‬تحب‭ ‬الشخصية‭ ‬أن‭ ‬تراها‭ ‬وكما‭ ‬تكره‭ ‬أن‭ ‬تراها‭ ‬أيضاً‭. ‬وهي‭ ‬تحوي‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬والوهم‭ ‬والخوف‭ ‬والتحدي‭ ‬والحب‭ ‬والخيبة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬عرفت‭ ‬بيروت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭. 

بيروت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬ليست‭ ‬واحدة،‭ ‬فهناك‭ ‬بيروت‭ ‬الحاضر‭ ‬والذكرى،‭ ‬وهناك‭ ‬بيروت‭ ‬الغربية‭ ‬والشرقية،‭ ‬وهناك‭ ‬بيروت‭ ‬المدينة‭ ‬والضاحية،‭ ‬وهناك‭ ‬داخل‭ ‬بيروت‭ ‬أماكن‭ ‬لم‭ ‬تقترب‭ ‬منها‭ ‬الحرب،‭ ‬وأماكن‭ ‬لم‭ ‬تتركها‭ ‬الحرب‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حولتها‭ ‬إلى‭ ‬موطن‭ ‬للبوم‭. ‬ولكل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البيروتات‭ ‬صور‭ ‬تشخّص‭ ‬حالتها‭ ‬كما‭ ‬تشخص‭ ‬الأشعة‭ ‬حالة‭ ‬الجسم‭ ‬العليل‭.‬

تصور‭ ‬الرواية‭ ‬بيروت‭ ‬قبل‭ ‬بداية‭ ‬الحرب‭ ‬كرة‭ ‬ألوان،‭ ‬بالوجوه‭ ‬التي‭ ‬لوّحها‭ ‬البحر،‭ ‬والسيارات‭ ‬التي‭ ‬تبهر‭ ‬العيون،‭ ‬والمسرحيات‭ ‬ودور‭ ‬السينما‭ ‬والمقاهي،‭ ‬والمغنين‭ ‬العالميين،‭ ‬والشقق‭ ‬العصرية،‭ ‬والدراجات‭ ‬النارية‭ ‬التي‭ ‬تقودها‭ ‬شابات،‭ ‬واللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬التي‭ ‬تتردد‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬القادمين‭ ‬إليها‭ ‬والمقيمين‭ ‬فيها‭.‬

ثم‭ ‬جاء‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬أعلنت‭ ‬بيروت‭ ‬فيه‭ ‬الحرب‭ ‬كأنها‭ ‬تعلن‭ ‬‮«‬عن‭ ‬إقامة‭ ‬مهرجان‭ ‬دولي،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬ابتدأ‭ ‬المهرجان‭ ‬حتى‭ ‬تدفق‭ ‬عليها‭ ‬المثاليون‭ ‬والمقاتلون‭ ‬والصحفيون‭. ‬تدفقت‭ ‬أفكارهم‭ ‬وسواعدهم‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬ذي‭ ‬الجوانب‭ ‬المفتوحة،‭ ‬فابتدأت‭ ‬العلاقة‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬وفي‭ ‬القلب‭ ‬ثم‭ ‬امتدت‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬الجيب‮»‬‭.‬

المال‭ ‬والذهب‭ ‬والمرأة‭ ‬المنحرفة‭ ‬تشكل‭ ‬صورة‭ ‬بيروت‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الوافدين‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬لبنان‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬القادمين‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬اللبناني،‭ ‬فلم‭ ‬ترتبط‭ ‬صورة‭ ‬بيروت‭ ‬بالثروة‭ ‬بل‭ ‬بالحرية‭. ‬كانت‭ ‬بيروت‭ ‬حلماً‭ ‬لمن‭ ‬يحلم‭ ‬بالحرية‭ ‬الفردية،‭ ‬بتحقيق‭ ‬ذاته‭ ‬ككيان،‭ ‬بالتمرد‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬الأبوية‭ ‬والتقاليد‭. ‬كانت‭ ‬بيروت‭ ‬فسحة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يلهج‭ ‬بكلام‭ ‬لا‭ ‬يقال‭. ‬لم‭ ‬ترمز‭ ‬بيروت‭ ‬إلى‭ ‬الذهب‭ ‬كنيويورك‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬كباريس،‭ ‬ربما‭ ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬يفهمها‭ ‬أبناء‭ ‬السجون‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬امرأة‭ ‬حرة‭ ‬غير‭ ‬المرأة‭ ‬المنحرفة‭. ‬

ولكن‭ ‬بيروت‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬التناقض‭ ‬أيضاً‭. ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬واستمرت‭ ‬بأشكال‭ ‬أخرى‭ ‬بعدها‭. ‬

‮«‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬أخذته‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬التناقض‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬الجولف‭ ‬كلوب،‭ ‬المكان‭ ‬الثاني‭ ‬بعد‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬الذي‭ ‬يتساءل‭ ‬عنده‭ ‬المرء‭: ‬هل‭ ‬هو‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬بيروت؟‭ ‬العصافير‭ ‬الكثيرة‭ ‬تزقزق،‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬صحن‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬إلى‭ ‬الطاولة،‭ ‬تلحق‭ ‬بفتات‭ ‬الطعام‮»‬‭.‬

ليست‭ ‬الأشجار‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬ويستثنيها‭. ‬ففي‭ ‬ساحة‭ ‬البرج،‭ ‬شهقت‭ ‬أسمهان‭ ‬كما‭ ‬شهقت‭ ‬قبلها‭ ‬صديقتها‭ ‬حياة‭ ‬حين‭ ‬رأت‭ ‬النباتات‭ ‬التي‭ ‬علت‭ ‬بين‭ ‬الخرائب‭ ‬والأطلال‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬كأنها‭ ‬غابة‭. ‬ولكن‭ ‬شجيرات‭ ‬البرج‭ ‬لم‭ ‬تجذب‭ ‬العصافيرَ‭ ‬كشجرات‭ ‬نادي‭ ‬الجولف‭ ‬بل‭ ‬طيورَ‭ ‬البوم‭. ‬وهذه‭ ‬الشجيرات‭ ‬فرضت‭ ‬جواً‭ ‬غامضاً‭ ‬وكئيباً‭ ‬يخيف‭ ‬حتى‭ ‬المقاتل‭ ‬المسلح‭ ‬المرابط‭ ‬هناك‭. ‬ومن‭ ‬يعرفْ‭ ‬ساحة‭ ‬البرج‭ ‬قبل‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الوحشي‭ ‬يحسْ‭ ‬بالصدمة،‭ ‬ويشعرْ‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬يعرفه‭ ‬أو‭ ‬صوت‭ ‬معتاد‭ ‬عليه‭ ‬كي‭ ‬يستعيد‭ ‬الاطمئنان‭. ‬فما‭ ‬يراه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يستوعبه‭ ‬العقل،‭ ‬ولا‭ ‬تألفه‭ ‬العين‮»‬‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬الذكرى،‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬ما‭ ‬كان‭. ‬

وفي‭ ‬مقابل‭ ‬هدوء‭ ‬نادي‭ ‬الجولف‭ ‬وصمت‭ ‬ساحة‭ ‬البرج،‭ ‬ثمة‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬يضج‭ ‬بالحركة‭ ‬والأصوات‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ضجيج‭ ‬أزقة‭ ‬هونغ‭ ‬كونغ‭. ‬من‭ ‬طرطقة‭ ‬الحديد‭ ‬إلى‭ ‬دروزة‭ ‬المكنات‭. ‬الرمل‭ ‬الزاحف‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬حذائي‭. ‬الذبائح،‭ ‬الذباب،‭ ‬باعة‭ ‬الخضر‭. ‬باعة‭ ‬فرش‭ ‬النوم‭. ‬مستنقعات‭. ‬أغانٍ‭ ‬تصدح،‭ ‬ناس‭ ‬تتدفق،‭ ‬الأبنية‭ ‬عجيبة‭ ‬تنبت‭ ‬كأغصان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭...‬‮»‬‭.‬

 

تشريح‭ ‬الأمكنة

هذا‭ ‬المكان‭ ‬الغريب‭ ‬يُشعر‭ ‬أهله،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬بقي‭ ‬منهم،‭ ‬بأنهم‭ ‬غرباء‭. ‬فكيف‭ ‬يتعرف‭ ‬المرء‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬يتبدل‭: ‬الشوارع‭ ‬والناس‭ ‬والأصوات‭ ‬والأعلام‭ ‬واليافطات‭ ‬والصور؟‭ ‬لهذا‭ ‬تتوجه‭ ‬أسمهان‭ ‬برسالتها‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭ ‬موريل‭ ‬لتقول‭ ‬لها‭ ‬إن‭ ‬خطيبها‭ ‬ليس‭ ‬وحده‭ ‬مخطوفاً‭. ‬فهي‭ ‬أيضاً‭ ‬تحس‭ ‬نفسها‭ ‬مخطوفة‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬في‭ ‬بيتها‭. ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مخطوفة‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬هي‭ ‬المخطوفة‭. ‬تنظر‭ ‬أسمهان‭ ‬باستغراب‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الأحياء‭ ‬وتقول‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬مدينتي‭ ‬ولا‭ ‬أتعرف‭ ‬عليها‮»‬‭. ‬

هذا‭ ‬المكان‭ ‬الغريب‭ ‬الشبيه‭ ‬بهونغ‭ ‬كونغ‭ ‬كان‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬يسمى‭ ‬بأسماء‭ ‬متعددة‭: ‬حارة‭ ‬حريك،‭ ‬الشياح،‭ ‬برج‭ ‬البراجنة،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬يسمى‭ ‬باسم‭ ‬واحد‭ ‬موصوف‭ ‬هو‭ ‬الضاحية‭ ‬الجنوبية،‭ ‬ثم‭ ‬حذف‭ ‬الوصف‭ ‬فصار‭ ‬الضاحية‭ ‬وحسب‭. ‬وعوضاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يفقده‭ ‬هذا‭ ‬الحذف‭ ‬ارتباطه‭ ‬بجهته‭ ‬زاده‭ ‬بها‭ ‬ارتباطاً‭. ‬فتحولت‭ ‬الضاحية‭ ‬والجنوب‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭. ‬كأن‭ ‬زلزالاً‭ ‬خسف‭ ‬بينهما‭ ‬الأرض‭ ‬فالتصقا‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬الضاحية‭ ‬ضاحية‭ ‬الجنوب‭ ‬لا‭ ‬ضاحية‭ ‬بيروت‭. ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬الجنوب‭ ‬بقي‭ ‬متأصلاً‭ ‬في‭ ‬سكانها،‭ ‬مثل‭ ‬جدة‭ ‬أسمهان‭ ‬التي‭ ‬تركت‭ ‬زوجها‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬وعاشت‭ ‬مع‭ ‬حفيدتها‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬فلم‭ ‬تعط‭ ‬المدينة‭ ‬سوى‭ ‬نصفها،‭ ‬‮«‬عين‭ ‬واحدة‭ ‬وفتحة‭ ‬أنف‭ ‬واحدة‭ ‬ويد‭ ‬واحدة‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬الغرابة‭ ‬التي‭ ‬شعرت‭ ‬بها‭ ‬أسمهان‭ ‬ليست‭ ‬متأتية‭ ‬من‭ ‬تأصل‭ ‬الجنوب‭ ‬في‭ ‬الضاحية‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬انتقال‭ ‬الضاحية‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬آخر‭: ‬

‮«‬أعلام‭ ‬إيرانية‭ ‬على‭ ‬زجاجه،‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬بين‭ ‬البنايات،‭ ‬أفيشات‭ ‬لرجال‭ ‬دين،‭ ‬لزعماء‭ ‬لا‭ ‬أعرفهم‭. ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أعرف‭ ‬اللغة،‭ ‬أعرف‭ ‬أنها‭ ‬عربية‭ ‬لكنها‭ ‬أصبحت‭ ‬ألغازاً‭ ‬وكأن‭ ‬أحرفها‭ ‬سرية،‭ ‬رمزية،‭ ‬كأنها‭ ‬ليست‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تعلمناها‭ ‬في‭ ‬الطفولة‭ ‬ومارسناها‭ ‬في‭ ‬الشباب،‭ ‬إنها‭ ‬تحمل‭ ‬معاني‭ ‬مجهولة‭ ‬لدي‮»‬‭. ‬

لهذا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أمام‭ ‬أسمهان‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬رتابة‭ ‬الأيام‭ ‬الثقيلة‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬المخطوفين،‭ ‬لكنها‭ ‬بخلاف‭ ‬بعضهم‭ ‬لم‭ ‬تتعلق‭ ‬بخاطفيها،‭ ‬لأنها‭ ‬تعرف‭ ‬ضآلتهم،‭ ‬وتعرف‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬سوى‭ ‬الشوارب‭ ‬الغليظة‭ ‬واللحى‭ ‬التي‭ ‬تحتل‭ ‬الوجه‭.‬

‭ ‬الإحباط‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تشعر‭ ‬به‭ ‬أسمهان‭. ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬ضاعف‭ ‬أسئلتها‭ ‬لنفسها‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬أفعل؟‭ ‬ماذا‭ ‬يجري؟‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬خلقت‭ ‬من‭ ‬أجلها؟‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬حطمت‭ ‬الحرب‭ ‬حاضرها،‭ ‬ودمرت‭ ‬مستقبلها،‭ ‬وبددت‭ ‬أحلامها‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬يعيش‭ ‬الفكر‭ ‬والجسد‭ ‬فيها‭ ‬بانسجام‭. ‬

التعايش‭ ‬مع‭ ‬الإحباط‭ ‬يعني‭ ‬‮«‬محاولة‭ ‬نسيان‭ ‬القديم‭. ‬القبول‭ ‬بالموجود‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬قبيحاً‭. ‬انتظار‭ ‬الأمل‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬سراباً،‭ ‬ثم‭ ‬إلغاء‭ ‬الانتظار‭ ‬والتعلق‭ ‬باللاشيء‮»‬‭. ‬إنه‭ ‬يعني‭ ‬الاعتياد‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬بيروت‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬إلى‭ ‬يد‭. ‬إنه‭ ‬السكوت‭ ‬عن‭ ‬انشطار‭ ‬العاصمة‭ ‬إلى‭ ‬شطرين‭ ‬متباعدين‭ ‬متناقضين،‭ ‬شواطئ‭ ‬ريفيرا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وكربلاء‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬إنه‭ ‬غسل‭ ‬الذاكرة‭ ‬لمحو‭ ‬الأسماء‭ ‬القديمة‭ ‬وإحلال‭ ‬كلمات‭ ‬جديدة‭ ‬محلها‭: ‬برج‭ ‬المر‭ ‬بدل‭ ‬القنطاري،‭ ‬السوديكو‭ ‬بدل‭ ‬الأشرفية‭... ‬ومع‭ ‬محو‭ ‬أسماء‭ ‬الأماكن‭ ‬تمحى‭ ‬أسماء‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬اقتلعتهم‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬لتزرعهم‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬جديدة‭ ‬مع‭ ‬ناس‭ ‬جدد‭ ‬لا‭ ‬يعنون‭ ‬لهم‭ ‬شيئاً‭ ‬سوى‭ ‬بعض‭ ‬الأمان‭. ‬إنه‭ ‬الاقتلاع‭ ‬فعلاً،‭ ‬لأن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬ننتمي‭ ‬إليه‭ ‬ليس‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬نعيش‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مساحة‭ ‬نختصر‭ ‬بها‭ ‬الوطن،‭ ‬ونستودع‭ ‬فيها‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتنا‭ ‬وعلاقاتنا‭ ‬واختباراتنا‭. ‬

في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الرومانسية‭ ‬كان‭ ‬الريف‭ ‬هو‭ ‬الشافي‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬المدينة‭. ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬أسمهان‭ ‬ترى‭ ‬ضيعتها‭: ‬

‮«‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬نزور‭ ‬الضيعة‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬لآخر،‭ ‬كنا‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬الصخور‭ ‬والجبال‭ ‬حتى‭ ‬تتراءى‭ ‬الكروم‭ ‬وبساتين‭ ‬الزنبق‭ ‬كأنها‭ ‬أعواد‭ ‬تحمل‭ ‬حلوى‭ ‬المعلل‭ ‬الأبيض‭ ‬والأصفر‮»‬‭. ‬

ولكن‭ ‬أسمهان‭ ‬أضاعت‭ ‬ضيعتها‭ ‬في‭ ‬زيارتها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬الريف‭ ‬وجدت‭ ‬المدينة‭. ‬لقد‭ ‬احتلت‭ ‬بيروتُ‭ ‬الجنوب‭ ‬بعدما‭ ‬احتل‭ ‬الجنوبُ‭ ‬بيروت‭. ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستقبلها‭ ‬قريتها‭ ‬التي‭ ‬تعرفها‭ ‬استقبلتها‭ ‬لافتة‭ ‬مطعم‭ ‬ومعمل‭ ‬للشوكولا‭ ‬وبنك‭ ‬ومزينة‭ ‬نسائية،‭ ‬واستقبلتها‭ ‬أخبار‭ ‬الميليشيا‭ ‬التي‭ ‬احتلت‭ ‬أرض‭ ‬جدها،‭ ‬ومنظر‭ ‬بقرات‭ ‬ناعسة‭ ‬ترعى‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬مزروع‭ ‬بالحشيشة‭. ‬فأغمضت‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬عينيها‭ ‬فيما‭ ‬جدتها‭ ‬تردد‭: ‬

‮«‬شفت‭ ‬الشجر‭ ‬متل‭ ‬عيدان‭ ‬الحطب،‭ ‬وشفت‭ ‬الخشخاش‭ ‬بدل‭ ‬الثمر‭! ‬والدنيا‭ ‬كلها‭ ‬تبدلت‮»‬‭.‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننسبه‭ ‬إلى‭ ‬المؤلفة‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬الراوية‭ ‬أسمهان،‭ ‬فهو‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬الساخرة‭ ‬التي‭ ‬تشيع‭ ‬في‭ ‬الراوية،‭ ‬التي‭ ‬تلون‭ ‬المواقف‭ ‬المثيرة‭ ‬للاستنكار‭ ‬أو‭ ‬للشفقة‭. ‬هذه‭ ‬السخرية‭ ‬تختلف‭ ‬كثيراً‭ ‬عن‭ ‬الفكاهة،‭ ‬لأن‭ ‬وظيفتها‭ ‬ليست‭ ‬الإضحاك،‭ ‬بل‭ ‬ذرَّ‭ ‬الملح‭ ‬على‭ ‬الجرح‭. ‬فهي‭ ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬المنظور،‭ ‬ومن‭ ‬أسلوب‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭. ‬أما‭ ‬المضمون‭ ‬والحبكة‭ ‬فحددتهما‭ ‬أسمهان‭ ‬بقولها‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أحتاجه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭. ‬أن‭ ‬تصلني‭ ‬رسائل،‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬وأكتب‭ ‬الرسائل‭ ‬وأتلقاها،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬رسائل‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭. ‬أحدثه‭ ‬فيها‭ ‬كبطلات‭ ‬الروايات‭ ‬عما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬الحرب‭ ‬والهدنة‮»‬‭.‬

خلو‭ ‬بريد‭ ‬أسمهان‭ ‬من‭ ‬الرسائل،‭ ‬اضطرها‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬مخيلتها،‭ ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬تعطي‭ ‬صورة‭ ‬حقيقية‭ ‬عن‭ ‬بيروت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬التسعينيات؟‭ ‬لنترك‭ ‬الجواب‭ ‬لهارولد‭ ‬بنتر‭ ‬في‭ ‬كلمته‭ ‬أمام‭ ‬لجنة‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عام‭ ‬2005‭. ‬قال‭ ‬بنتر‭: ‬‮«‬لا‭ ‬توجد‭ ‬فروق‭ ‬شديدة‭ ‬الوضوح‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حقيقي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬حقيقي،‭ ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬صحيح‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬زائف‭. ‬وإن‭ ‬الشيء‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬صحيحاً‭ ‬أو‭ ‬زائفاً؛‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬صحيحاً‭ ‬وزائفاً‭ ‬في‭ ‬آن‮»‬‭.‬

هل‭ ‬بيروت‭ ‬امرأة‭ ‬منحرفة‭ ‬كما‭ ‬وصفتها‭ ‬إحدى‭ ‬الروايات؟‭ ‬لا،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬مرآة‭ ‬كاشفة‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬عشيق‭ ‬ياسمينة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬غادة‭ ‬السمان‭ ‬‮«‬بيروت‭ ‬75‮»‬‭. ‬فعندما‭ ‬تقول‭ ‬ياسمينة‭ ‬لعشيقها‭ ‬إن‭ ‬بيروت‭ ‬أفسدتها،‭ ‬يرد‭ ‬العشيق‭: ‬‮«‬لم‭ ‬تفسدك‭ ‬بيروت‭. ‬بذور‭ ‬الفساد‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬أعماقك،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬بيروت‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬احتضنتها‭ ‬وكشفتها‭... ‬منحتها‭ ‬مناخاً‭ ‬لتنمو‮»‬‭. 

هذه‭ ‬هي‭ ‬بيروت‭ ‬الروايات‭: ‬فسحة‭ ‬الحرية،‭ ‬مدينة‭ ‬الأحلام،‭ ‬امرأة‭ ‬مغوية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬ينطبق‭ ‬عليها‭ ‬هو‭ ‬اسم‭ ‬المرآة‭ ‬الساحرة‭. ‬فهي‭ ‬تجذب‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬إليها‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬انقلب‭ ‬سحرها‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬فجذبت‭ ‬أعداءها‭ ‬والطامعين‭ ‬بها‭ ‬