مدن التعلُّم

مدن التعلُّم

    دعماً للتعلم مدى الحياة بصورة إجرائية عملية ملموسة، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) مبادرة مدن التعلم، ويقصد بها المدن التي تحشد مواردها وتحفز جميع القطاعات من أجل تشجيع الالتحاق بالتعليم، بدءاً من المستوى الأساسي حتى التعليم العالي؛ وتسعى إلى إحياء التعلم في الأسر والمجتمعات؛ وتيسر التعلم والتدريب من أجل العمل وفي مواقعه؛ وتنشر استخدام تكنولوجيا التعلم الحديثة؛ وتعزز الجودة والتميز في التعليم والتعلم؛ وتتبنى ثقافة التعلم مدى الحياة. 

 

في الوقت الذي تختلف فيه هذه المدن من حيث تراكيبها الثقافية والعرقية والتراثية والبناءات الاجتماعية؛ تشترك جميعها في ملامح رئيسة حددتها «اليونسكو» بعد سلسلة اجتماعات ضمت خبراء من مختلف الدول الأعضاء، بدأت بورشة عمل نظمها معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة UIL في يوليو 2012، حيث وضع إطار عمل لتلك الملامح - من بين المشاركين المركز الوطني لبحث تطوير التعليم بالصين، وجامعة الكويت، وخبراء المعهد ومستشاروه - وفي ضوء عدد من المؤشرات والتقارير أعدت مسودة ملامح مدينة التعلم، وتم فيها تأكيد ضرورة أن تكون طموحة وواقعية ومهمة ومناسبة وواضحة بالنسبة إلى المواطن العادي، إلى جانب أنها قابلة للقياس ومتمتعة بالصلاحية والمصداقية. وبعد نقاشات تحددت الملامح النهائية في سبتمبر من العام التالي، 2013.

ثلاث مناطق 
 اقترحت «اليونسكو» طرقاً لقياس ملامح مدن التعلم الرئيسة بحيث تغطي المناطق الأساسية الثلاث التالية: 
- تمكين الأفراد وتشجيع الترابط الاجتماعي: ومن ملامحها الرئيسة ضمان إتاحة الفرصة لكل مواطن كي يصبح متعلماً ومالكاً للمهارات الأساسية، ويمكن قياس ذلك باستخدام معدلات تعلّم الكبار التي تتضح من إجمالي الأشخاص المتعلمين ممن هم في عمر الخامسة عشرة أو أكثر مقارنة بعدد السكان.
وتشجيع الأفراد وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في الحياة العامة بمدنهم، وهو ما يمكن أن يتجلى في جوانب مثل معدل المشاركة في الانتخابات، والمشاركة في الأنشطة التطوعية والمجتمعية، وضمان العدالة بين الجنسين، ويمكن تبين ذلك من نسب المقاعد المخصصة للإناث في المجالس النيابية، أو في مواقع الإدارة العليا بالأعمال والشركات.
- تعزيز التنمية الاقتصادية والازدهار الثقافي: ومن ملامحها الرئيسة تحفيز الدمج والنمو الاقتصادي المستدام الذي يمكن أن يقاس في ضوء الناتج المحلي الإجمالي؛ ومعدلات الفقر التي تتضح في نسب المواطنين الذين يعيشون بأقل من دولار وربع الدولار في اليوم - وفقاً لأسعار 2005. 
وتعظيم فرص العمل لجميع المواطنين، ويمكن قياس ذلك بمعدلات البطالة بالنسبة إلى من هم في سن العمل، خمسة عشر عاماً وأكثر. ودعم العلوم والتكنولوجيا والتجديد بصورة فاعلة، ومن أدوات قياس ذلك حجم الموارد البشرية العاملة في مجال العلوم والتكنولوجيا، وأعداد براءات الاختراع لكل مائة ألف نسمة، فضلاً عن ضمان ممارسة أنشطة التنوع الثقافي التي تتضح من خلال المشاركة في الأنشطة الثقافية، كعدد الزيارات للمتاحف والمسارح والسينمات والحفلات، ودعم الفعاليات بالنسبة إلى كل مواطن شهرياً. وتشجيع المشاركة في أنشطة الاستجمام مثل ممارسة الرياضات المختلفة، ومن أدوات القياس معرفة نسبة المشاركين في الممارسات الرياضية لخمس مرات في الأسبوع.
- الترويج للتنمية المستدامة: ومن ملامحها الرئيسة التقليل من الآثار السلبية للاقتصاد والأنشطة البشرية الأخرى على البيئة الطبيعية، ويمكن قياس ذلك في ضوء إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بالطن لكل نسمة؛ وإدارة المخلفات عبر حساب جملة ما يجمع ويعالج سنوياً بالكيلوجرام لكل نسمة. وتعزيز قابلية العيش في المدن، ويمكن قياس ذلك من نسب سكان المناطق المهمشة؛ وفي ضوء مستوى رضا الناس عن نظام المواصلات العامة، إضافة إلى الترويج للتنمية المستدامة عبر التعلم النشط على مختلف المستويات وفي جميع المواقف، ويمكن قياس التقدم في هذا الجانب عن طريق التعليم من أجل التنمية المستدامة؛ ومن خلال إدراك المواطنين لسلوكياتهم وعلاقتها بتحمّل المسؤولية البيئية.

   مدن فائزة
انطلاقا من رؤية «تعلّم مدى الحياة للجميع مستقبل مدينتنا» ومن مهمة تقتضي دعم وتعجيل ممارسة التعلم مدى الحياة بتشجيع وضع سياسات الحوار وتعلّم الأنداد بين المدن الأعضاء وتشكيل روابط وتشجيع الشراكات وتوفير سبل وأدوات لتنمية القدرات ومراقبة التقدم الذي تحرزه مدن التعلم؛ أنشأت «اليونسكو» شبكة دولية لمدن التعلم من أجل تبادل الخبرات وأفضل الممارسات؛ ورصدت جائزة لمدينة التعلم من أجل التشجيع والمكافأة في هذا الصدد حول العالم.
وفي العام الحالي تم اختيار 16 مدينة أحرزت تفوقاً في ترسيخ الملامح الرئيسة لمدن التعلم، لكي تكرم في مؤتمر مدن التعلم الثالث الذي يعقد في إيرلندا خلال سبتمبر المقبل. ومن بين المدن المكرّمة: بريستول في بريطانيا، التي أعلنت 2016 عاماً للتعلم، وأطلقت حملة تدعو إلى حب التعلم؛ وكامارا دي لوبوس في البرتغال، التي ركزت على المواطنين الكبار وافتتحت جامعة مخصصة لهم؛ وغلزنكيرشن في ألمانيا، التي وضعت إعلاناً وقّع عليه 40 من الشركاء للعمل على تحسين خطة التعليم والتعلم في المدينة؛ ومحافظة الجيزة في مصر، التي ركزت على تعليم القراءة والكتابة مجاناً، إضافة إلى حوافز أخرى كالرعاية الصحية؛ وأوكاياما في اليابان، التي أكدت أهمية التعليم من أجل التنمية المستدامة؛ وسورابايا في إندونيسيا، التي أشركت جميع المستفيدين في التعلم؛ وسوون في كوريا الجنوبية، التي عملت على ترسيخ ثقافة التعلم مدى الحياة؛ وفيلا ماريا في الأرجنتين، التي نشرت المكتبات المتنقلة، وحولت عربات السكة الحديد المهملة إلى أماكن للتعلم.

ستة أعمدة أساسية
  تقوم مدن التعلم على الأعمدة الستة الأساسية الآتية: 
1 - تشجيع الالتحاق بالنظام التعليمي: ومن ملامحه الرئيسة التوسع في شمولية رعاية الطفولة المبكرة والتعليم من المرحلة الأساسية حتى التعليم العالي الذي يمكن أن يقاس بأعداد الملتحقين بالتعليم ومتوسط سنوات الدراسة بالنسبة إلى من هم في عمر الخامسة والعشرين؛ إضافة إلى التوسع في إتاحة فرص تعليم الكبار والتعليم الفني والمهني والتدريب الذي يقاس بالمشاركة في تعلّم وتعليم الكبار أو نسبة المواطنين من الفئة العمرية 25 - 64 الذين حصلوا على تعليم أو تدريب خلال السنة السابقة للمسح؛ وَتوفير الدعم للمجموعات المهمشة، بما في ذلك الأسر المهاجرة لضمان وصولهم إلى التعليم؛ ويقاس بدعم المواطنين الكبار ممن هم في عمر الخامسة والستين أو أكثر. 
2 - إحياء التعلم في الأسر والمجتمعات: ومن ملامحه تجهيز أماكن تعلم في المجتمع، وتوفير موارد للتعلم داخل الأسر والمجتمعات؛ ويمكن لذلك أن يقاس في ضوء البنية التحتية وعدد الأماكن الصالحة للتعلم في المجتمع، بما في ذلك المراكز الثقافية وبيوت الثقافة والمكتبات العاملة لكل مائة ألف نسمة. وتوافر سياسة لدعم تعلّم الأسر وتحفيز الناس للمشاركة في تعلم الأسر والمجتمع، وتقاس بنسبة مشاركة المواطنين في أنشطة التعلم في المجتمع وفي الأسر بشكل منتظم. والاهتمام بتاريخ المجتمع وثقافته والطرق التي يتعلم بها السكان الأصليون، باعتبارها مصادر ثمينة وفريدة. ويمكن أن يقاس ذلك بتنمية مصادر التعلم والبرامج القائمة على تاريخ المجتمع وثقافته ومعارف السكان الأصليين.
3 - التعلم الفعال من أجل العمل وفي أماكنه: ومن ملامحه ضمان حصول جميع أعضاء القوى العاملة على فرص تعلّم يمكن أن تقاس بمدى مشاركة الموظفين في التعليم والتدريب. ومساعدة المنظمات العامة والخاصة كي تصبح منظمات متعلمة تقاس بوجود مبادرات أو استراتيجيات لتنمية المنظمات المتعلمة التي تشجع مشاركة الموظفين في التعلم. وتشجيع الموظفين واتحادات التجارة على دعم أماكن التعلم، ومن مؤشرات ذلك الالتزام المالي للموظفين بتنمية مهاراتهم وإجمالي الاستثمار في تعليم الموظفين وتدريبهم في القطاعين الخاص والعام. وتوفير فرص تعلّم مناسبة للشباب والكبار العاطلين عن العمل يمكن قياسها بمستوى تدريب العاطلين ونسب العاطلين المسجلين في برامج التدريب المقدمة في المدينة.
4 - نشر استخدام تكنولوجيا التعلم الحديثة: ومن ملامحه تدريب الإداريين والمعلمين والمربين على استخدام التكنولوجيا التي تعزز التعلم، ومن المقاييس المتاحة لذلك نسبة المديرين الذين تلقوا تدريباً في السنة السابقة للمسح. وفي السياق نفسه يتم التوسع في إتاحة أدوات تكنولوجيات المعلومات والاتصالات للمواطنين، وتقدم برامج تعلّم يمكن قياسها بأنشطة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ونسبة المعلمين الذين يستخدمونها بانتظام في المدارس ومواقع التعلم المجتمعي. 
كما يمكن أن تتضح في معدل من يمتلكون هواتف نقالة متصلة بالإنترنت من إجمالي السكان، ومن معدل استخدام الإنترنت في البيوت أو عبر شبكات مشتركة؛ ومدى المشاركة في التعلم عبر الإنترنت من خلال معدل عدد الساعات التي يستخدم فيها المواطنون الإنترنت لأغراض التعلم في الأسبوع.
5 - تعزيز جودة التعليم: ومن ملامح هذا العمود تشجيع تحول نموذج التعليم والتعلم الذي يمكن أن يقاس عن طريق توافر سياسة للانتقال من التدريس إلى التعلم، أي من اكتساب المعلومات إلى تنمية الإبداع وإكساب مهارات التعلم، ورفع الوعي بالقيم الأخلاقية والثقافية المشتركة، وتشجيع التسامح مع الاختلافات التي يمكن أن يظهر في نسبة المواطنين الذي يتعايشون بشكل منتظم مع آخرين من ثقافات أخرى؛ إضافة إلى توظيف إداريين ومدرسين وتربويين مدربين بشكل جيد. وتشجيع البيئة الصديقة للمتعلم التي يمكن قياسها بنسبة المتعلمين الراضين عن البيئة التي يتعلمون فيها.
6 - تشجيع ثقافة التعلم طوال الحياة: ومن ملامحه تنظيم ودعم الفعاليات العامة التي تحتفي بالتعلم، ويتضح ذلك في مناصرة التعلم، ووجود أنشطة عامة كأسبوع تعليم الكبار، واستخدام الإعلام للترويج للاحتفاء بالتعليم والتعلم؛ إضافة إلى توفير المعلومات الملائمة والأدلة الداعمة لجميع المواطنين والمحفزة للتعلم بطرق مختلفة؛ ويمكن قياس ذلك بالمعلومات والخدمات المقدمة ونسبة رضا المتعلمين. ووضع نظم تحتفي وتكافئ جميع أشكال التعلم، ومن مظاهر ذلك وجود سياسات وممارسات لتكريم مخرجات التعليم والتعلم الناجحة.
شروط النجاح
يتطلب بناء مدن التعلم وجود إرادة سياسية قوية قادرة على تحويل المدن إلى مدن تعلّم؛ ووضع استراتيجيات واضحة وتنفيذها ومراقبتها وقياسها في ضوء طرق القياس المقترحة من جانب «اليونسكو»، ومشاركة جميع المستفيدين بوضع آليات تنسيق بين القطاعات لإشراك المنظمات الحكومية وغير الحكومية والقطاع الخاص؛ وحشد واستخدام الموارد المتاحة بتشجيع الاستثمار في التعلم مدى الحياة، الذي يمكن أن يتمثل في رفع مستوى الإنفاق الحكومي على التعليم والتعلم؛ وتوزيع النفقات على مختلف أشكال التعليم، وفاعلية استخدام الموارد البشرية والثقافية والموارد الأخرى، وتبني سياسات داعمة للفقراء والمهمشين؛ وتشجيع المواطنين وغير المواطنين على التطوع والمساهمة بمواهبهم ومهاراتهم ومعارفهم وخبراتهم بالتطوع؛ وتشجيع تبادل الأفكار والخبرات وأفضل الممارسات بين مختلف المدن التي يمكن أن تقاس بالمشاركة الدولية والاستفادة من فرص الشراكة والتبادل مع مدن تعلّم أخرى ■