الجواهري ودرويش واسترداد القصائد
كثيراً ما يندم الشاعر على قصيدة نظمها ونشرها ثم تمنى لاحقاً لو لم ينظمها وينشرها. وأسباب التمنّي كثيرة، فالقصيدة قد تكون ضعيفة فنياً، كما قد تكون المناسبة التي قالها فيها الشاعر، ضعيفة بدورها، ثم تغيّرت الظروف فبات ما قاله بالأمس القريب محرجاً له، أو مسيئاً إليه، في الحاضر. ولكن ما العمل وقصائد الشاعر هم أولاده، أو بناته، بحسب تعبير عمر أبوريشة في القصيدة التي ألقاها يوم تكريم الأخطل الصغير؟ أليس «الأب» أو الشاعر، مضطراً للاعتراف بأولاده جميعاً بالرغم من ملاحظاته القاسية على بعضهم أحياناً؟
شعراء بلا عدّ ولا حصر تعرّضوا للندم على ما نظموا وحلموا باسترداده لو أمكنهم ذلك، لعل أحدثهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ففي كتاب صدر حديثاً في عمَّان (عن دار الأهلية) حوى آثاراً لم تُجمع في السابق للشاعر، عنوانه «في انتظار البرابرة»، يُسأل محمود درويش: «كثيراً ما قلت إن أشعارك أولادك، فهل ينتابك شعور بأن بعض أولادك قد اشتدّ عوده وتركك ليشق طريقه وليأخذ مكانه في الحياة مستقلاً، أم تشعر أنهم مازالوا ملكك؟».
ويجيب محمود درويش: «أنا لا أعتبر أن قصائدي كلها أولادي. هذا قول شائع، وكل الناس تتعارف على القول إن القصائد هي أولاد الشاعر. ويمكنني أن أقبل ذلك، ولكني لا أحبّ كل أولادي. الجانب المهم في السؤال هو أن بعض الأولاد يطوّر نفسه ويستقلّ عن أبيه. هذا صحيح بنسبة مائة بالمائة، بدليل أن كثيراً من القصائد لا أريدها، ولكنها دخلت في وجدان الناس على نحو لا يمكنني معه أن أحاول استردادها لأنها لم تعد ملكي. ومن قصائدي المشهورة في هذا المعنى قصيدة «سجّل أنا عربي». هذه القصيدة حاولتُ أن ألغيها من دواويني، ولكنها استقرّت في قلوب الناس، لدرجة أنني لم أستطع مقاومتها، فاستسلمتُ لها».
إذن ثمة قصائد يحاول الشاعر استردادها لسبب من الأسباب فلا يستطيع. في التراث الشعري لمحمود درويش كثير من القصائد الضعيفة فنياً، كقصائده في دواوينه الأولى التي صدرت في فلسطين، أو كثير من القصائد الضعيفة سياسياً، أو غير ذلك من القصائد التي تأخذ طريقها إلى النشر على عجل، بلا تدبّر كافٍ، بعدها يندم الشاعر على تسرّعه في نظمها أو نشرها. كان درويش يشعر بعدم الارتياح عندما يطلب منه الجمهور في أمسياته الشعرية أن يقرأ لهم «سجّل أنا عربي». يتوقف للحظات وكأنه يهمّ بالاعتذار، ثم يستجيب وكأنه في حالة اضطرار، فيلقي القصيدة. وقد تكرر عدم الارتياح هذا في أكثر من أمسية شعرية حضرتُها بنفسي. ولا شك في أن عدم ارتياحه نابع من شعوره بسذاجة القصيدة وحماسيتها الزائدة وعدم احتوائها على أي شعرية ذات شأن. فهي عبارة عن «يافطة» أو «برقية احتجاج» وما إلى ذلك من وسائل المطالب العادية للناس. ولكن القصيدة كانت إحدى وسائل شهرة الشاعر، وواحدة من أقرب قصائده إلى الجمهور.
فكان ينزل استناداً إلى ذلك عند رغبة هذا الجمهور فيلقيها عليه، بالرغم من ملاحظاته القاسية عليها!
لكن محمود درويش هو أحد الشعراء الذين حاولوا عبثاً استرداد بعض قصائدهم، وليس الوحيد بينهم. فكثيرون حاولوا ولم يوفّقوا، ولعل أشهرهم هو الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، الذي وقف من قصائد كثيرة مثلما فعل درويش في قصيدته «سجّل أنا عربي». وقد تكون قصيدته التي ألقاها بالقصر الملكي في بغداد يوم تتويج الملك فيصل الثاني (مايو 1953) هي أولى القصائد التي تمنّى استردادها نظراً للندم الشديد الذي استولى عليه لاحقاً بعد ثورة 1958 التي أطاحت النظام الملكي، وشماتة الشيوعيين واليساريين به، وقد كان يعتبر واحداً منهم. وعلى الرغم من الجودة الشعرية الفائقة لهذه القصيدة، باعتراف الجواهري نفسه، الذي ذكر مراراً أنها من أجمل ما كتب، فإنه منع نشرها في أعماله الشعرية وأوصى بعدم نشرها بعد وفاته، مع أن القصيدة نُشرت في حينه في الصحف والمجلات العراقية والعربية!
في مذكراته اعتبر الجواهري هذه القصيدة «زلّة العمر التي ظلت عالقة بي طوال فترات طويلة. فقد أوقعتْ نفسي في عذاب الضمير، ولاحقت نومي بالكوابيس، وهوتْ بإرادتي إلى ما شاء الله، ألا وهي «قصيدة التتويج» التي قلتها في مديح الملك فيصل الثاني».
وبالنظر إلى جودة هذه القصيدة نورد عدداً من أبياتها. فقد بدأت كما يلي:
تِهْ يا ربيعُ بزهرِكَ العطرِ الندي
وبصنوِك الزاهي ربيعِ المولدِ
باهِ السما ونجومَها بمشعشعٍ
عريان من نجم الربى المتوقدِ
وأثبْ بما غمر البطاح من الشذا
بيض الأيادي للغمام الأسود
أَرِها جمالَ الأرض في هذا الندى
ألقَ السنا وجلال هذا المنتدي
والبسْ لزرقتها البهيةِ خضرةً
هي من شعار ولاة عهد محمدِ
فإذا زهت بمجّرها فانهدْ لها
بمجّر سؤدد هاشم والمحتدِ
وإذا رمتك بفرقد فتحدّها
من طلعة الملك الأغرّ بفرقدِ
ومنها مخاطباً الملك:
يا نبتةَ الوادي ونفحةَ عطرِه
يا نبعه الثجاجَ في اليومِ الصدي
أشرقْ على الجيل الجديد وجدّدِ
وتولَّ عرشَ الرافدين وأصعدِ
وقُدِ الجموع إلى الخلاصِ تفزْ به
وبهم، وخلّدْ أمةً وتخلّدِ
إلى أن يقول موجهاً حديثه للملك ولولي عهد الأمير عبدالإله:
يا أيها الملكُ الأغرُّ تحيةً
من شاعرٍ باللطفِ منك مؤيّدِ
أنا غرسُكم أعلى أبوك محلتي
نبلاً وشرّف فضلُ جدِّك مقعدي
وأنا ابن عشرين أثار مطامحي
وأغضّ بالشجن المبرّح حسّدي
عبدالإله وفي المكارم شركة
شاركت في خصل المليك الأوحدِ
يا ابنَ الهواشمِ حرّةً من حرّةٍ
وابنَ الخلائفِ أصيداً من أصيدِ
يا ابنَ الأباطحِ من قريشٍ فجوةً
هي في المكارم ذروةٌ للمقصد
وابنَ الأطايب مزرعاً أو مصرعاً
في مدرج للصالحين ومرقدِ
في هذه الأبيات يذكر الجواهري فضل الملك فيصل الأول عليه، فقد بدأ حياته موظفاً في دائرة التشريفات بالقصر الملكي عندما عيّنه الملك فيصل الأول في هذه الوظيفة، ويشيد بفيصل الأول وبابنه الملك غازي, وصولاً إلى فيصل الثاني وعبدالإله. ولكن تراث الجواهري الشعري يتضمن بالإضافة إلى مدائحه لفيصل الأول أهاجي كثيرة له يمكن أن يعثر عليها القارئ في أعمال الشاعر أو في دراسات شتى تناولت شعره.
ولكن «قصيدة التتويج» ليست القصيدة الوحيدة التي ندم عليها الجواهري وتمنى لو أمكنه استردادها. من هذه القصائد قصائد كثيرة يمدح بها «فخامة نوري باشا السعيد» رئيس وزراء العراق في حينه، ومنها هذه القصيدة التي يحضّه فيها على ممارسة الإرهاب من أجل ترقية الشعب العراقي إن تعذّر الإصلاح سلمياً:
على اسم الثورة الحمراء جرّبْ
نشاطَكَ أيها البطلُ الجريُّ
وهَبْ أنّ الدماءَ تريدُ تجري
فشقَّ لها ليندفعَ الأتيُّ
فإن لم يرقَ بالتلطيفَ شعبٌ
فبالإرهابِ فليكنِ الرقيُّ!
وكثيراً ما مدح حاكماً ليهجوه لاحقاً. من هؤلاء الذين مدحهم الزعيم عبدالكريم قاسم أحد قادة ثورة 1958 التي أطاحت النظام الملكي العراقي، وبعد المدح بأشهر عدة غادر الجواهري العراق إلى تشيكوسلوفاكيا ليكتب من هناك قصائد هجاء في عبدالكريم قاسم، وليندم لاحقاً عليها جميعاً، أي على قصائد المدح وقصائد الهجاء، ولكن دون أن يستطيع استردادها. ذلك أن القصيدة عندما ينشرها الشاعر تصبح ملكاً للقارئ وللذاكرة الأدبية ولتراث الشاعر قبل كل شيء. وهذا ما لم يتنبّه الجواهري إليه يوماً، لأن قسماً كبيراً من شعره حاول طمسه أو إهماله عبثاً بعد ذلك. ولو أراد أحدنا أن يبحث عن الأسباب التي أوقعت الجواهري في مثل هذه المآزق التي وقع فيها، لما وجدها إلا في تركيبة عصبية شديدة التوتر والانفعال، سريعة النظم وأسيرة الندم فيما بعد!
لذلك يبدو التمهّل في النظم، وعدم التسرّع في النشر، بمنزلة الوصية للشاعر التي قد تساعده في النجاة من حالة الندم, وصولاً إلى التفكير بالاسترداد المستحيل. فالتمهّل في النظم من شأنه أن يُبعد كأس الضعف الفني عن فم الشاعر، وعدم الاستجابة لإغراء شعر المناسبات، على أنواعـــها، يخفّف إلى حد بعيد من آلام الندم ويبعد شبح الاسترداد من الذاكرة.
وقد أوصى ببعض ذلك علماء الشعر عند الإفرنج، ومنهم الناقد الفرنسي بوالو الذي ذكر في كتابه «فن الشعر» بالحرف الواحد: «في هذه الصناعة اجعل يدك تمرّ عشرين مرة، وملّس ونعّم، ثم ملّسْ ونعّمْ. فهيهات أن يضعف النفَس الشعري بمعاودة النظر، ويصير الشعر بذلك إلى التكلّف، وإن ما يجيء في النزلة الأولى ليس وحياً يُوحى!» ولكن المشكلة أن الانتصار على الضعف الفني قابل للتحقق، ولكن المشكلة تكمن في الشعر السياسي على الأرجح، فهذا هو الذي يورث الندم ويدفع إلى التفكير بالاسترداد ■