الجواهري ودرويش واسترداد القصائد

الجواهري ودرويش واسترداد القصائد

كثيراً‭ ‬ما‭ ‬يندم‭ ‬الشاعر‭  ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬نظمها‭ ‬ونشرها‭ ‬ثم‭ ‬تمنى‭ ‬لاحقاً‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬ينظمها‭ ‬وينشرها‭. ‬وأسباب‭ ‬التمنّي‭ ‬كثيرة،‭ ‬فالقصيدة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬ضعيفة‭ ‬فنياً،‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬المناسبة‭ ‬التي‭ ‬قالها‭ ‬فيها‭ ‬الشاعر،‭ ‬ضعيفة‭ ‬بدورها،‭ ‬ثم‭ ‬تغيّرت‭ ‬الظروف‭ ‬فبات‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬بالأمس‭ ‬القريب‭ ‬محرجاً‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬مسيئاً‭  ‬إليه،‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬العمل‭ ‬وقصائد‭ ‬الشاعر‭  ‬هم‭ ‬أولاده،‭ ‬أو‭ ‬بناته،‭ ‬بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬عمر‭ ‬أبوريشة‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬يوم‭ ‬تكريم‭ ‬الأخطل‭ ‬الصغير؟‭ ‬أليس‭ ‬‮«‬الأب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الشاعر،‭ ‬مضطراً‭  ‬للاعتراف‭ ‬بأولاده‭ ‬جميعاً‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬ملاحظاته‭ ‬القاسية‭ ‬على‭ ‬بعضهم‭ ‬أحياناً؟

شعراء‭ ‬بلا‭ ‬عدّ‭ ‬ولا‭ ‬حصر‭ ‬تعرّضوا‭ ‬للندم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نظموا‭ ‬وحلموا‭ ‬باسترداده‭ ‬لو‭ ‬أمكنهم‭ ‬ذلك،‭ ‬لعل‭ ‬أحدثهم‭ ‬الشاعر‭ ‬الفلسطيني‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭. ‬ففي‭ ‬كتاب‭ ‬صدر‭ ‬حديثاً‭ ‬في‭ ‬عمَّان‭ (‬عن‭ ‬دار‭ ‬الأهلية‭) ‬حوى‭ ‬آثاراً‭ ‬لم‭ ‬تُجمع‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬للشاعر،‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬في‭ ‬انتظار‭ ‬البرابرة‮»‬،‭ ‬يُسأل‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭: ‬‮«‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬أشعارك‭ ‬أولادك،‭ ‬فهل‭ ‬ينتابك‭ ‬شعور‭ ‬بأن‭ ‬بعض‭ ‬أولادك‭ ‬قد‭ ‬اشتدّ‭ ‬عوده‭ ‬وتركك‭ ‬ليشق‭ ‬طريقه‭ ‬وليأخذ‭ ‬مكانه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬مستقلاً،‭ ‬أم‭ ‬تشعر‭ ‬أنهم‭ ‬مازالوا‭ ‬ملكك؟‮»‬‭.‬

ويجيب‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أعتبر‭ ‬أن‭ ‬قصائدي‭ ‬كلها‭ ‬أولادي‭. ‬هذا‭ ‬قول‭ ‬شائع،‭ ‬وكل‭ ‬الناس‭ ‬تتعارف‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬القصائد‭ ‬هي‭ ‬أولاد‭ ‬الشاعر‭. ‬ويمكنني‭ ‬أن‭ ‬أقبل‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أحبّ‭ ‬كل‭ ‬أولادي‭. ‬الجانب‭ ‬المهم‭ ‬في‭ ‬السؤال‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأولاد‭ ‬يطوّر‭ ‬نفسه‭ ‬ويستقلّ‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭. ‬هذا‭ ‬صحيح‭ ‬بنسبة‭ ‬مائة‭ ‬بالمائة،‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬لا‭ ‬أريدها،‭ ‬ولكنها‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لا‭ ‬يمكنني‭ ‬معه‭ ‬أن‭ ‬أحاول‭ ‬استردادها‭ ‬لأنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ملكي‭. ‬ومن‭ ‬قصائدي‭ ‬المشهورة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬سجّل‭ ‬أنا‭ ‬عربي‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬حاولتُ‭ ‬أن‭ ‬ألغيها‭ ‬من‭ ‬دواويني،‭ ‬ولكنها‭ ‬استقرّت‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الناس،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬مقاومتها،‭ ‬فاستسلمتُ‭ ‬لها‮»‬‭.‬

إذن‭ ‬ثمة‭ ‬قصائد‭ ‬يحاول‭ ‬الشاعر‭ ‬استردادها‭ ‬لسبب‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬فلا‭ ‬يستطيع‭. ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬لمحمود‭ ‬درويش‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬الضعيفة‭ ‬فنياً،‭ ‬كقصائده‭ ‬في‭ ‬دواوينه‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬أو‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬الضعيفة‭ ‬سياسياً،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تأخذ‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬النشر‭ ‬على‭ ‬عجل،‭ ‬بلا‭ ‬تدبّر‭ ‬كافٍ،‭ ‬بعدها‭ ‬يندم‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬تسرّعه‭ ‬في‭ ‬نظمها‭ ‬أو‭ ‬نشرها‭. ‬كان‭ ‬درويش‭ ‬يشعر‭ ‬بعدم‭ ‬الارتياح‭ ‬عندما‭ ‬يطلب‭ ‬منه‭ ‬الجمهور‭ ‬في‭ ‬أمسياته‭ ‬الشعرية‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬لهم‭ ‬‮«‬سجّل‭ ‬أنا‭ ‬عربي‮»‬‭. ‬يتوقف‭ ‬للحظات‭ ‬وكأنه‭ ‬يهمّ‭ ‬بالاعتذار،‭ ‬ثم‭ ‬يستجيب‭ ‬وكأنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬اضطرار،‭ ‬فيلقي‭ ‬القصيدة‭.‬‭ ‬وقد‭ ‬تكرر‭ ‬عدم‭ ‬الارتياح‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أمسية‭ ‬شعرية‭ ‬حضرتُها‭ ‬بنفسي‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬ارتياحه‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬شعوره‭ ‬بسذاجة‭ ‬القصيدة‭ ‬وحماسيتها‭ ‬الزائدة‭ ‬وعدم‭ ‬احتوائها‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬شعرية‭ ‬ذات‭ ‬شأن‭. ‬فهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬يافطة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬برقية‭ ‬احتجاج‮»‬‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬المطالب‭ ‬العادية‭ ‬للناس‭. ‬ولكن‭ ‬القصيدة‭ ‬كانت‭ ‬إحدى‭ ‬وسائل‭ ‬شهرة‭ ‬الشاعر،‭ ‬وواحدة‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬قصائده‭ ‬إلى‭ ‬الجمهور‭. ‬

فكان‭ ‬ينزل‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬رغبة‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬فيلقيها‭ ‬عليه،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬ملاحظاته‭ ‬القاسية‭ ‬عليها‭!‬

لكن‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬عبثاً‭ ‬استرداد‭ ‬بعض‭ ‬قصائدهم،‭ ‬وليس‭ ‬الوحيد‭ ‬بينهم‭. ‬فكثيرون‭ ‬حاولوا‭ ‬ولم‭ ‬يوفّقوا،‭ ‬ولعل‭ ‬أشهرهم‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬العراقي‭ ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الجواهري،‭ ‬الذي‭ ‬وقف‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬سجّل‭ ‬أنا‭ ‬عربي‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬بالقصر‭ ‬الملكي‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬يوم‭ ‬تتويج‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬الثاني‭ (‬مايو‭ ‬1953‭) ‬هي‭ ‬أولى‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تمنّى‭ ‬استردادها‭ ‬نظراً‭ ‬للندم‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬استولى‭ ‬عليه‭ ‬لاحقاً‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬1958‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬النظام‭ ‬الملكي،‭ ‬وشماتة‭ ‬الشيوعيين‭ ‬واليساريين‭ ‬به،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬واحداً‭ ‬منهم‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الجودة‭ ‬الشعرية‭ ‬الفائقة‭ ‬لهذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬باعتراف‭ ‬الجواهري‭ ‬نفسه،‭ ‬الذي‭ ‬ذكر‭ ‬مراراً‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬كتب،‭ ‬فإنه‭ ‬منع‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬وأوصى‭ ‬بعدم‭ ‬نشرها‭ ‬بعد‭ ‬وفاته،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية‭!‬

في‭ ‬مذكراته‭ ‬اعتبر‭ ‬الجواهري‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬‮«‬زلّة‭ ‬العمر‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬عالقة‭ ‬بي‭ ‬طوال‭ ‬فترات‭ ‬طويلة‭. ‬فقد‭ ‬أوقعتْ‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬عذاب‭ ‬الضمير،‭ ‬ولاحقت‭ ‬نومي‭ ‬بالكوابيس،‭ ‬وهوتْ‭ ‬بإرادتي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬التتويج‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قلتها‭ ‬في‭ ‬مديح‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬الثاني‮»‬‭.‬

وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬جودة‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬نورد‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬أبياتها‭. ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬كما‭ ‬يلي‭:‬

تِهْ‭ ‬يا‭ ‬ربيعُ‭ ‬بزهرِكَ‭ ‬العطرِ‭ ‬الندي

وبصنوِك‭ ‬الزاهي‭ ‬ربيعِ‭ ‬المولدِ

باهِ‭ ‬السما‭ ‬ونجومَها‭ ‬بمشعشعٍ

عريان‭ ‬من‭ ‬نجم‭ ‬الربى‭ ‬المتوقدِ

وأثبْ‭ ‬بما‭ ‬غمر‭ ‬البطاح‭ ‬من‭ ‬الشذا

بيض‭ ‬الأيادي‭ ‬للغمام‭ ‬الأسود

أَرِها‭ ‬جمالَ‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الندى

ألقَ‭ ‬السنا‭ ‬وجلال‭ ‬هذا‭ ‬المنتدي

والبسْ‭ ‬لزرقتها‭ ‬البهيةِ‭ ‬خضرةً

هي‭ ‬من‭ ‬شعار‭ ‬ولاة‭ ‬عهد‭ ‬محمدِ

فإذا‭ ‬زهت‭ ‬بمجّرها‭ ‬فانهدْ‭ ‬لها

بمجّر‭ ‬سؤدد‭ ‬هاشم‭ ‬والمحتدِ

وإذا‭ ‬رمتك‭ ‬بفرقد‭ ‬فتحدّها

من‭ ‬طلعة‭ ‬الملك‭ ‬الأغرّ‭ ‬بفرقدِ

ومنها‭ ‬مخاطباً‭ ‬الملك‭:‬

يا‭ ‬نبتةَ‭ ‬الوادي‭ ‬ونفحةَ‭ ‬عطرِه

يا‭ ‬نبعه‭ ‬الثجاجَ‭ ‬في‭ ‬اليومِ‭ ‬الصدي

أشرقْ‭ ‬على‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬وجدّدِ

وتولَّ‭ ‬عرشَ‭ ‬الرافدين‭ ‬وأصعدِ

وقُدِ‭ ‬الجموع‭ ‬إلى‭ ‬الخلاصِ‭ ‬تفزْ‭ ‬به

وبهم،‭ ‬وخلّدْ‭ ‬أمةً‭ ‬وتخلّدِ

إلى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬موجهاً‭ ‬حديثه‭ ‬للملك‭ ‬ولولي‭ ‬عهد‭ ‬الأمير‭ ‬عبدالإله‭:‬

يا‭ ‬أيها‭ ‬الملكُ‭ ‬الأغرُّ‭ ‬تحيةً

من‭ ‬شاعرٍ‭ ‬باللطفِ‭ ‬منك‭ ‬مؤيّدِ

أنا‭ ‬غرسُكم‭ ‬أعلى‭ ‬أبوك‭ ‬محلتي

نبلاً‭ ‬وشرّف‭ ‬فضلُ‭ ‬جدِّك‭ ‬مقعدي

وأنا‭ ‬ابن‭ ‬عشرين‭ ‬أثار‭ ‬مطامحي

وأغضّ‭ ‬بالشجن‭ ‬المبرّح‭ ‬حسّدي

عبدالإله‭ ‬وفي‭ ‬المكارم‭ ‬شركة

شاركت‭ ‬في‭ ‬خصل‭ ‬المليك‭ ‬الأوحدِ

يا‭ ‬ابنَ‭ ‬الهواشمِ‭ ‬حرّةً‭ ‬من‭ ‬حرّةٍ

وابنَ‭ ‬الخلائفِ‭ ‬أصيداً‭ ‬من‭ ‬أصيدِ

يا‭ ‬ابنَ‭ ‬الأباطحِ‭ ‬من‭ ‬قريشٍ‭ ‬فجوةً

هي‭ ‬في‭ ‬المكارم‭ ‬ذروةٌ‭ ‬للمقصد

وابنَ‭ ‬الأطايب‭ ‬مزرعاً‭ ‬أو‭ ‬مصرعاً

في‭ ‬مدرج‭ ‬للصالحين‭ ‬ومرقدِ

في‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬يذكر‭ ‬الجواهري‭ ‬فضل‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬الأول‭ ‬عليه،‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬حياته‭ ‬موظفاً‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬التشريفات‭ ‬بالقصر‭ ‬الملكي‭ ‬عندما‭ ‬عيّنه‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة،‭ ‬ويشيد‭ ‬بفيصل‭ ‬الأول‭ ‬وبابنه‭ ‬الملك‭ ‬غازي‭,‬‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬فيصل‭ ‬الثاني‭ ‬وعبدالإله‭. ‬ولكن‭ ‬تراث‭ ‬الجواهري‭ ‬الشعري‭ ‬يتضمن‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مدائحه‭ ‬لفيصل‭ ‬الأول‭ ‬أهاجي‭ ‬كثيرة‭ ‬له‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعثر‭ ‬عليها‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬دراسات‭ ‬شتى‭ ‬تناولت‭ ‬شعره‭.‬

ولكن‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬التتويج‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬القصيدة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬ندم‭ ‬عليها‭ ‬الجواهري‭ ‬وتمنى‭ ‬لو‭ ‬أمكنه‭ ‬استردادها‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة‭ ‬يمدح‭ ‬بها‭ ‬‮«‬فخامة‭ ‬نوري‭ ‬باشا‭ ‬السعيد‮»‬‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬ومنها‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬يحضّه‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الإرهاب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ترقية‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬إن‭ ‬تعذّر‭ ‬الإصلاح‭ ‬سلمياً‭:‬

على‭ ‬اسم‭ ‬الثورة‭ ‬الحمراء‭ ‬جرّبْ

نشاطَكَ‭ ‬أيها‭ ‬البطلُ‭ ‬الجريُّ

وهَبْ‭ ‬أنّ‭ ‬الدماءَ‭ ‬تريدُ‭ ‬تجري

فشقَّ‭ ‬لها‭ ‬ليندفعَ‭ ‬الأتيُّ

فإن‭ ‬لم‭ ‬يرقَ‭ ‬بالتلطيفَ‭ ‬شعبٌ

فبالإرهابِ‭ ‬فليكنِ‭ ‬الرقيُّ‭!‬

وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬مدح‭ ‬حاكماً‭ ‬ليهجوه‭ ‬لاحقاً‭. ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬مدحهم‭ ‬الزعيم‭ ‬عبدالكريم‭ ‬قاسم‭ ‬أحد‭ ‬قادة‭ ‬ثورة‭ ‬1958‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬النظام‭ ‬الملكي‭ ‬العراقي،‭ ‬وبعد‭ ‬المدح‭ ‬بأشهر‭ ‬عدة‭ ‬غادر‭ ‬الجواهري‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬تشيكوسلوفاكيا‭ ‬ليكتب‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬قصائد‭ ‬هجاء‭ ‬في‭ ‬عبدالكريم‭ ‬قاسم،‭ ‬وليندم‭ ‬لاحقاً‭ ‬عليها‭ ‬جميعاً،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬قصائد‭ ‬المدح‭ ‬وقصائد‭ ‬الهجاء،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستطيع‭ ‬استردادها‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬عندما‭ ‬ينشرها‭ ‬الشاعر‭ ‬تصبح‭ ‬ملكاً‭ ‬للقارئ‭ ‬وللذاكرة‭ ‬الأدبية‭ ‬ولتراث‭ ‬الشاعر‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتنبّه‭ ‬الجواهري‭ ‬إليه‭ ‬يوماً،‭ ‬لأن‭ ‬قسماً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬حاول‭ ‬طمسه‭ ‬أو‭ ‬إهماله‭ ‬عبثاً‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬ولو‭ ‬أراد‭ ‬أحدنا‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أوقعت‭ ‬الجواهري‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المآزق‭ ‬التي‭ ‬وقع‭ ‬فيها،‭ ‬لما‭ ‬وجدها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تركيبة‭ ‬عصبية‭ ‬شديدة‭ ‬التوتر‭ ‬والانفعال،‭ ‬سريعة‭ ‬النظم‭ ‬وأسيرة‭ ‬الندم‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭!‬

لذلك‭ ‬يبدو‭ ‬التمهّل‭ ‬في‭ ‬النظم،‭ ‬وعدم‭ ‬التسرّع‭ ‬في‭ ‬النشر،‭ ‬بمنزلة‭ ‬الوصية‭ ‬للشاعر‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تساعده‭ ‬في‭ ‬النجاة‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الندم‭,‬‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬بالاسترداد‭ ‬المستحيل‭. ‬فالتمهّل‭ ‬في‭ ‬النظم‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُبعد‭ ‬كأس‭ ‬الضعف‭ ‬الفني‭ ‬عن‭ ‬فم‭ ‬الشاعر،‭ ‬وعدم‭ ‬الاستجابة‭ ‬لإغراء‭ ‬شعر‭ ‬المناسبات،‭ ‬على‭ ‬أنواعـــها،‭ ‬يخفّف‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬الندم‭ ‬ويبعد‭ ‬شبح‭ ‬الاسترداد‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭. ‬

وقد‭ ‬أوصى‭ ‬ببعض‭ ‬ذلك‭ ‬علماء‭ ‬الشعر‭ ‬عند‭ ‬الإفرنج،‭ ‬ومنهم‭ ‬الناقد‭ ‬الفرنسي‭ ‬بوالو‭ ‬الذي‭ ‬ذكر‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬بالحرف‭ ‬الواحد‭: ‬‮«‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصناعة‭ ‬اجعل‭ ‬يدك‭ ‬تمرّ‭ ‬عشرين‭ ‬مرة،‭ ‬وملّس‭ ‬ونعّم،‭ ‬ثم‭ ‬ملّسْ‭ ‬ونعّمْ‭. ‬فهيهات‭ ‬أن‭ ‬يضعف‭ ‬النفَس‭ ‬الشعري‭ ‬بمعاودة‭ ‬النظر،‭ ‬ويصير‭ ‬الشعر‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬التكلّف،‭ ‬وإن‭ ‬ما‭ ‬يجيء‭ ‬في‭ ‬النزلة‭ ‬الأولى‭ ‬ليس‭ ‬وحياً‭ ‬يُوحى‭!‬‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬المشكلة‭ ‬أن‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬الضعف‭ ‬الفني‭ ‬قابل‭ ‬للتحقق،‭ ‬ولكن‭ ‬المشكلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يورث‭ ‬الندم‭ ‬ويدفع‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬بالاسترداد‭ ‬