شخصية النصّ الأدبيّ
هل يمكن تأكيدُ فكرة وجود «شخصية ثقافية» للنص الأدبي تمثّل بالنسبة إلى النصوص هُويتَها التي تميّزها عن بعضها بعضا داخل جغرافيات الثقافة الإنسانية؟ وهل لتَنَبُّه القارئ لطبيعة هذه الشخصية دورٌ في صفاء تواصله مع النص؟
يظلّ الفرد خاضعاً دوماً لتأثير المجتمع حتى وإن ابتعد عنه، إذ يكفي أن يحمل في ذهنه بعضاً ممّا يصله بأفراد مجموعته الاجتماعية حتى يشعر بكونه مازال يعيش «في قلب تلك المجموعة».
موريس هالبواكس
أطرح هذيْن السؤاليْن وفي ذهني، الآن على الأقل، أنّ من الناس مَن سيسارع إلى اتهام مَن يطرح مثل هذه الأسئلة بالتعصّب العرقيّ الأدبي، وإلى القول إنّ شخصية النص يُحدّدها في الغالب الأعمّ انتماؤه إلى جنس أدبيّ ما أو إلى نوعٍ منه مخصوصٍ، وهذا الانتماء هو ما يمنح كلّ نصٍّ وحدةَ معناه من جهة، ويُمكّنه من اختراق تلك الجغرافيات من جهة ثانية، كأنْ نقول مثلاً: هذا النص ينتمي إلى جنس السّرد لتوفُّره على شروطه، وذاك ينتمي إلى الشعر، والآخر ينتمي إلى المسرح، ورابع ينتمي إلى نوع الرواية الرومانسية، وهكذا دواليك. أما الانتماء الثقافي فيظلّ ضعيفَ التأثير في جوهر تلك النصوص، فلا نستطيع مثلا التحدّث عن نصّ «غربي» وآخر «عربي» وثالث «إفريقي» وهلمّ جرّا، لأنّ الإبداع إنسانيٌّ وعابرٌ للقارات.
هذا القول وجيهٌ إلى حينٍ. وهناك قولٌ آخر يُفيدُ بأنّ النصّ، وفي جميع أحواله، لا يستطيع أن يتخلّص من حضور ثقافته فيه إلا بمشقّةٍ سيزيفية، ولن يُسافر إلى جغرافيات أخرى إلا وهو مختومٌ بثقافة جغرافيته. فقد تُتَرجَمُ الرواية العربية، وقد تُقرأ في جميع أنحاء العالَم، ولكنها ستظلّ عربيّةً الروح حيثما قُرئت (لها هُويّة ذوقيّة بعبارة جيرار جينيت). بل إنّ ما يكتُبُه المهاجرون العرب والأفارقة، على سبيل المثال، في بلدان إقامتهم هو أدب عربي أو إفريقيّ داخل آداب تلك البلدان وإن كان مكتوباً بلسانٍ من ألسنتها، بمعنى أنه يظل أدبا ثانويا داخل الجغرافيا الجديدة، ويوصف فيها دومًا بأنه «أدبُ الآخَرِ». فهجرة الكاتب -وكلّ هجرة في تقديري لا تتمّ إلاّ في الجغرافيا فحسبُ- هي بالأساس انتقال جسدي، أما الهجرة خارج الثقافة فأمر مُستبعَد كثيرًا، لأن الثقافة تتلبّس بكينونة الكاتب المُهاجِرِ فلا تبرحها أبدًا، وربّما قد تعبر منه إلى بعض نَسْله، فتصير إرثَهم الرمزيَّ الذي قد لا يَعْتَوِره الضمور إلا بعد أجيال عديدة.
وما يهمّ في هذه المسألة هو أنّ انتماء نصّ ما إلى جنس أدبي ما يظلّ ضعيفا جدّا في تحديد غاياته أمام انتمائه إلى الثقافة، ومهما استوفى نصٌّ أدبيّ شروطَ انتمائه إلى جنسه الإبداعيّ أو إلى نوعٍ منه معلوم، فإنّ ذاك الانتماء لا يمنحه إلا الاصطفافَ تحت يافطة اسمِ الجنس أو النوع فقط، أعني توفّره على شروط ذاك الجنس الفنية، أما معناه ومجرى دَلالته فيظلّان مُعْلِنيْن عن شخصيته الثقافية، لأنها حاضنةُ قِيَمه، وأفق خياله، وما هو من تلك الثقافة- وإنْ ابتعد عن جغرافيتها - إلاّ مفردةٌ تتواصل مع بقية مفرداتها الكثيرة بشكل مباشر أو غير مباشر لصناعة مجدها الحضاري.
ولئن كان قَدَرُ النصّ أنْ يُصنَّف دائماً من جهة انتمائه إلى جنسٍ أدبيٍّ -وهو تصنيف أصَّلَ أرسطو أركانَه ليفهم به حركة الإبداع في زمنه، ثمّ تحوّل من بعده إلى قَدَرٍ فنيٍّ لدى نُقّادٍ ذوي وعيٍ تجميعيّ يحكمه واجب ردّ المفرد إلى الجماعة وتذويبه فيها (وهذه قضية تتجاوز الأدب لتُلقي بظِلالها وضَلالها على مسائل فكرية كثيرة)- فإنّ ما يحضر لحظةَ القراءة هو النصّ وليس جنسه. الجنسُ يبقى معلّقًا على غلافِ الأثر ولا يدخل المتنَ، إنه الغائبُ عن لحظة القراءةِ، ولا يوجد إلا بالنصِّ، وإذًا فهو لا يوجد في النص، ومن ثَمَّ فلا يوجد في النصّ إلاّ النصُّ الفردُ/نصُّ الفردِ الذي له كينونته الثقافية الخاصّة، ولا تُوجد في الإبداع الأدبيّ إلا كيانات النصوص بإمكانات معانيها، أما الأجناس فلا تصنع معنى، بل هي لا تُخبر عنه ولا تدلّ عليه، لأنها هياكل نظرية قديمة وصَمّاء تصلح للتاريخ.
وإذًا، فليست ثقافة النصِّ الأدبيِّ صنيعةَ انتمائه إلى جنسٍ أدبيٍّ ما، وإنما هي حاصلُ الجدلية الحادّة التي يُنجزها ماضي مجتمع ذاك النص وحاضره مع عناصر معيشه المختلفة التي تمثّل سياقه الحضاري: الجغرافيا والتاريخ والعقيدة والفن والمظهَر والمطبخ والعقلية الاجتماعية ووحدة الضمير وأشكال التواصل وغيرها ممّا يميّزه عن المجتمعات الأخرى، أي هي فضاءٌ لمجموع رؤى المجتمع لعالَمه بكلّ أشيائه وأحيائه وطرائقه في التواصل معها تحويلاً وتأويلاً.
النصُّ بِدْعةُ الكاتبِ التي يُنقذُنا بها من النّار، إنه الخارج واللغة والإنسان، إنه الجَنّةُ. وحينئذ فإني لمّا أقرأ نصَّ الكاتب إنما أنا في الأصل أقرأ كاتبَ النصّ في تواصله مع العالَم. الكاتب لا يوجد في النصّ فحسبُ وإنّما هو النصُّ نفسه، هو مُعْجِزةُ النصِّ. وهذا في رأيي ما هجس به البنيويون وسكتوا عنه أو أَسْكَتهم عنه أجلُهم الأرضيِّ.
أُفُق الثقافة العربية أفق قيمة؛ لم يكن العربيُّ في زمنه القديم مهتماً كبيرَ اهتمام بشكل قوله وتطويره وإنما كان حريصا على غاية ما يودّ قوله (لم تعرف هندسة البيت الشعري، عدا ظهور فنّ الموشّحات، أيَّ تغيير منذ مائة وخمسين سنة قبل الهجرة إلى ثلاثينيات القرن الماضي)، ذلك أنّ أفضل المنتخبات الشعرية ذ على سبيل التمثيل- نهضت على دعامة شرف المحمول أكثر من دعامة شكل الحامل، وما عبارةُ «بيت القصيد» إلا إحالةٌ على روح القصيدة وقَصدها (أيْ: على رصاصتِها الفكرية، كما يقول الأستاذ عبدالسلام المسدِّي في دَرْسه الجامعيّ) أكثر من دلالتها على بنيتها التي كانت لها حِواءً. وربّما بسبب هذا مالت معاجم اللغة العربية إلى منح الجذر (أ، د، ب) معاني المروءة والإيثار على النفس (الدعوة إلى الأكل) والخُلق الحسن والتربية السليمة قبل أن تخلص به أخيراً إلى الدلالة على الإبداع الكتابي، وهذه المعاني هي جوهر قِيَم الإنسان التي حرص على تأصيلها في سردياته الحياتية فِعْلاً وانفعالاً عبر أزمنة وجوده المختلفة.
الأدبُ وليمةُ معنى، إنه «مأخوذٌ من المأدبة، والمأدبة طعام يُتّخذُ فيُدعى إليه الناسُ... ومن ذلك قول ابن مسعود: هذا القرآن مأدبة الله، أي أدبُ الله»، وهوذ من هذا المنظور - كلّ فعل إبداعي، سواء أكان كتابةً أم موسيقى أم مسرحاً أم رسماً أم غير هذا من فنون الإبداع البشري، يُشبع جُوعَ مجموعته الاجتماعية إلى معنى جديد تتجاوز به عاداتها الجمالية والقِيَمية لتُؤسِّسَ بهَدْيٍ منه قِيَمًا أخرى بديلةً تكون سبيلَ الناسِ إلى عبور لحظتِهم بكينوناتٍ جَذْلى.
إنّ النقد الأدبيّ الغربيّ مُخْلص لطبيعة ثقافته، ثقافة «الاعتراف» المسيحية، ومتحرّك ضمن سياقها، لذلك تراه ميّالاً في أكثر اهتماماته إلى البحث في بنية المكتوب وكله اطمئنان إلى كون شكل النص سيعترف ذاتيا ودونما إكراهٍ خارجيٍّ بمعنى مَتْنِه مهما تَعقَّد خطابُ الاستعارة فيه. يُضاف إلى هذا أنّ عمومَ القوانين المدنية الضابطة لجميع مجالات معيش الفرد الغربي، وتحوُّلَها في الزمن من خانة الإلزام إلى خانة السلوك الاختياري الذي لا يَحْتَاجُ إلى سنَدٍ تشريعيٍّ أو إبداعيٍّ يُحرِّضُ على إنجازه، هما أمران قد أجد فيهما حافِزًا للكتابة الغربيةِ لأنْ تعود إلى ذاتها: إلى شكلها وبنيتها ولغتها وأسلوبها (هذا ما فعلته الرواية الجديدة بفرنسا مثلا). وفي خلال ذلك، حرص النقد الغربي الحديث على تأصيل هذا الميلِ «الفنيِّ» في ممارساته القرائية، وسعى إلى تسويقه في فضاءات ثقافية أخرى باعتباره حَلاًّ لمعالجة معاني النصوص الأدبية فيها. وفي رأيي أن هذا الأمر يخالف ما عليه حال المنجز النقدي العربي الحديث الذي يقرأ نصوصاً دون أن يعي سياقها الثقافي، فهي نصوص موجوعة بواقعها ومفجوعة به، فإذا صنعتْ معنى صنعته وهي تعرف أن صناعة المعنى في راهننا العربي معصيةٌ من صنف الكبائر والموبقات والضَّلال (هذا ما كان عليه حال الكتابة الإبداعية قبل ثورات الربيع العربي على الأقل ويبدو أنه لم يتغيّر كثيرا بعدُ)، لذلك ترى النص الأدبي يحرص على إخفاء «نِعَمِه» و«قِيَمه» داخل دوائر غموضه وَحِدّة استعاراته، ولا يرغب في الاعتراف بها للقارئ، بل إنك لا تراه إلا متَّبعا في تخليقها تقنيةَ «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود». ولا أخال أنّ للنصِّ نِعمةً يُحسد عليها وتنفع الناس سوى منظومةِ قِيَمِه وجماليةِ نَظْمِه.
والظاهر من وقائع المشهد النقدي العربي يُحيلُ على حقيقة أنّ النصّ النقديّ الحديث قد تخلّى عن وظيفته، وسكت عن التواصل مع النصوص التي يقرأ، فعل ذلك لأنه لم ينبع منها، أو ربّما هو عاجز عن فعل القراءة أصلا، ولم يُمثّل في تلك النصوص سؤالَها الشخصيَّ الذي ينصبّ على غاية كتابتها، والحال أنّ له من حظوظ الإخلاص لوظيفته الكثير؛ فمُنْطَلَقه قيمة (الأدب لغويًّا) ومنتهاه قيمة (الأدبُ اجتماعيًّا). ولما تخلّى عن كلّ ذلك صار لا يزيد على كونه مجموعَ آلات نظرية مستورَدة استقوى بها النقّاد لإرغام النصوص، تلك التي تتكتّم على معانيها بفعل ثقافتها التستُّرية، على الاعتراف بما ليس فيها من معنى، أو لتقويل أشكالها ما لا تحتمل من إيحاءات، بل ولإفراغها من جوهرها الأدبيِّ بجميع قيمه التي أكّدتها اللغة العربية. وبالإجمال فإنّ منجزنا النقديّ الراهن جَرْدٌ لمُكوّنات الرواية أو القصة أو القصيدة مكتوبٌ بلغة تقريرية، يصلح لكلّ نصّ مكتوب ولكلّ نصّ لم يُكتب بعدُ، بل ويصلح أيضا لكل نصّ لن يُكتبَ أصلا (وهذا النوع كثيرٌ وجودُه بيننا فلا يحتاج إلى إثبات).
وما أطمح إليه من خلال ما تقدّم هو تأكيد وجاهة الأمر التالي: إذا كانت للنصوص شخصياتها الاستطيقية، فلها أيضا شخصيات ثقافية تميّزها عن غيرها وتمثّل بالنسبة إليها معينَ أدبيتِها، ولها كذلك أحلامها الحيّة المتنامية التي لا تهدأ حركتها داخل فضاء مجموعتها الاجتماعية، ولا مكان فيها لمعنى ثابتٍ يمكن معرفة عنوانه؛ النصوصُ ثابتةُ المعاني نصوصٌ مَيْتةٌ، النصوص أرضُ زلازل وألغام، وكلّ رجّة فيها تُخرج معانيها وتُجريها في سياقات مناسبة، وتُحوّل كل معنى منها إلى دَلالة، والدَّلالة شرعيّة كلّ معنى بشريّ، وهي التي تملأ النصوص الأدبية بالحياة وباللذّة: لذّتها هي من جهة، لأنها مطلوبة دوماً وممتنعة دائماً، ولذّة القارئ من جهة ثانية لأنه طالب لها دائما، وغير مطمئن لحصوله عليها دائما. الكتابة والقراءة فِعْلاَ رغبةٍ وتمنُّعٍ، وفِعْلاَ مُحاجّةٍ ومجادلةٍ، وفِعْلاَ هَدْأةٍ وحركةٍ، ومن الغباء التوسّل بمنهج ثابت للوصول إلى دَلالةِ المُتحرِّك.
ويزداد الغباء النقدي كثرة حينما يكون الناقد ممتلئاً بالثوابت واليقينيات، لأن في امتلائه بها وخضوعه إلى سلطانها خضوعاً منه لسلطة الواقع وفقداناً للقدرة على تغييره. والظاهر أنْ لا طريق إلى قراءة النصوص سوى إبداعِ نصوص موازية لها تُجادلها لتتجاوزها وتؤسّس لنصوص جديدة تُكتب ضمن أفق ثقافي معلوم ومنفتح على تجارب الثقافات الأخرى. إن كل قراءة هي ورطة كتابة جديدة، وهي أيضاً ورطة تَخْليق قيم جديدة. لأنّ النصّ قيمة/قيم، والقيمة هي شرطُ تَحقُقِ صفته الإبداعية، وأيّ نقد لا يبلغ القيم التي انعقدت حولها غايةُ النصوص ويكتفي بتشريح بنية أجسادها وفرضِ رأي الناقد عليها دونما إظهارٍ منه لأسئلتها التي توجّهها للقارئ هو نقد غير أدبي، بل هو نقد غير مؤدَّب، لأنه يُسكتُ أصواتَ النصوص ويمنعها من أن تجادل واقعَها وتُحرج فيه اطمئنانَ الناس إلى العالَم باستمرار ■
«الذاكرة الجماعية» - (1997)